حل الدولتين إلى النقاش مجددا

حل الدولتين إلى النقاش مجددا

أعادت حرب غزة طرح حل الدولتين إلى الواجهة. لا يعني ذلك أن هذا الحل كان غائباً من التداول قبل هذه الحرب. بالعكس، لقد كان دائماً بنداً أساساً في مقررات الدول العربية مجتمعةً، كما كان على رأس جدول أعمال المحادثات السعودية – الأميركية بشأن العلاقات الثنائية والسلام في المنطقة، عشية هجوم “حماس” على المستوطنات الإسرائيلية وما أعقبه من حرب مدمرة.

لم يكن طرح مسألة الدولتين أمراً سهلاً في مسيرة الصراع العربي- الإسرائيلي والفلسطيني- الإسرائيلي. كانت القمة العربية في الخرطوم غداة حرب 1967 رفعت شعار “لا صلح. لا تفاوض. لا اعتراف”.

حكمت تلك اللاءات الثلاث الموقف العربي إلى ما بعد حربي الاستنزاف وأكتوبر (تشرين الأول) 1973 قبل أن تطرأ ثلاث تحولات أساسية، الأول قرار جامعة الدول العربية الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني في عام 1974. والثاني قرار الرئيس المصري بدء مفاوضات مباشرة مع إسرائيل برعاية الولايات المتحدة الأميركية قادت إلى اتفاقية كامب ديفيد وانسحاب إسرائيل من الأراضي المصرية المحتلة في شبه جزيرة سيناء.

أما التحول الثالث فجاء نتيجة للاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 وفرضها انسحاب منظمة التحرير الفلسطينية منه بعد أن حولته إلى مقر سياسي وعسكري وخاضت على أرضه معاركها ضد إسرائيل والنظام السوري وضد كثرة من اللبنانيين، وتحول لبنان بنتيجة هذه المعارك إلى ساحة لتصفية الحسابات المحلية والإقليمية، دفع شعبه ثمنها دماراً وموتاً وفقداناً للاستقلال والسيادة والدولة.

دفعت تلك التطورات الشعب الفلسطيني ومنظمة التحرير إلى التفكير بطريقة أخرى. لم توفر تونس أو اليمن الجنوبي الميزات التي كان يوفرها لبنان لـ”النضال” الفلسطيني. فازداد التركيز على الأراضي المحتلة وكانت الانتفاضة الأولى في عام 1987 فاتحة لعهد جديد في مسيرة كفاح مستمر منذ عشرينيات القرن العشرين.

في العام التالي 1988 أعلن رئيس منظمة التحرير ياسر عرفات من الجزائر قيام “دولة فلسطين”. وبدأت تتبلور في العقل القيادي الفلسطيني مسألة الدولتين والاعتراف المتبادل بينهما. كان لا بد “لشلال الدم الفلسطيني” كما كان يحلو لعرفات القول من تحقيق مكسب ما بعد تجارب مريرة مع أنظمة الصمود والتصدي اللغوي، فذهب، بعد مؤتمر مدريد للسلام، إلى اتفاقيات أوسلو الثنائية مع إسرائيل ضمن رؤية الدولتين، آملاً بالوصول إلى تأسيس دولة على الأراضي الفلسطينية التي احتلتها إسرائيل في حرب 1967 في الضفة الغربية وقطاع غزة.
إلا أن هذا الأمل بسلام محتمل لم يعش طويلاً. أول معارضيه إسرائيل نفسها. لم تقبل الحكومات المتعاقبة بسلطة فلسطينية بل أرادت متعاقدين من الباطن لحماية الاحتلال، وواصلت توسيع المستوطنات في الضفة، فيما أعلنت الانسحاب من غزة عام 2005 لتسيطر عليها “حماس” بعد عامين.

لم يكن انسحابها من القطاع بريئاً أو مجرد استجابة للاتفاق في أوسلو لأن ذلك لم يحصل في الضفة. كان الاسرائيليون يسعون تحديداً لما حصل لاحقاً: انقسام فلسطيني لم تجد المساعي العربية في رأبه بين “إمارة غزة” بقيادة “حماس” وبين السلطة الفلسطينية في رام الله بقيادة حركة “فتح”.

ارتاحت إسرائيل لهذا الانقسام. رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو لم يخف سروره به. وبعد 7 أكتوبر أخذت عليه الصحف الإسرائيلية رهانه على دور “حماس” في مواجهة السلطة، واطمئنانه إلى أنها ستكتفي بإدارة القطاع ولن تسعى إلى مواجهة مع إسرائيل نفسها.

الآن ووسط الحرب القاتلة والمدمرة في غزة، ستبدو الألاعيب الإسرائيلية والطموحات الفصائلية الفلسطينية الخاصة تافهة إزاء المشكلة العميقة التي تفصل بين إسرائيل والشعب الفلسطيني. جوهر المشكلة عدم اعتراف القيادات الصهيونية بوجود هذا الشعب ولا بحقوقه، ومثابرة الحكومات المتتالية على سياسة إفراغ فلسطين من سكانها وقضم أراضيهم. وإذا كان من حسنات لهجمات 7 أكتوبر فهي أنها جعلت إسرائيل تكشف عن وجهها الفعلي ورغباتها العميقة في الخلاص من الفلسطينيين، فيما أثارت في المقابل عاصفة من النقاش الداخلي الإسرائيلي حول المستقبل، لم تشر مثله في الداخل الفلسطيني وصل إلى حد المطالبة بالتبني الرسمي للمبادرة العربية في شأن السلام وحل الدولتين.

منتقدو سياسات الحكومات الإسرائيلية من الإسرائيليين، بما فيها لحكومة نتنياهو، ذكروها بأنها تفعل ما دأب عليه أسلافها منذ قيام الدولة العبرية، “بعد مرور 75 سنة فإننا نقوم بتفريغ المزيد من الأراضي من الفلسطينيين. هذه المرة النصف الشمالي من القطاع من يعرف هل ومتى ستسمح لهم إسرائيل بالعودة وإلى أين؟”.

يمكن المواصلة هكذا. زج الفلسطينيين في مساحة أصغر من الأرض، ليس فقط في القطاع بل في أي مكان، في الضفة والجليل والقدس والنقب، وأن نقتلهم بإعداد آخذة في الازدياد. وأن نواصل حملة العنف إلى داخل بيوت وعقول الفلسطينيين وتذكيرهم مرة تلو الأخرى وتذكير أنفسنا بحسب قول فرانز فانون في كتابه “معذبو الأرض” أن المواجهة الكبرى لا يمكن تأجيلها إلى الأبد”.

صاحب هذا الرأي هو حجاي العاد المدير السابق لمنظمة “بتسليم” الإسرائيلية الخاصة بحقوق الإنسان الذي يرى في ما جرى منذ 7 أكتوبر ركلة للنموذج الإسرائيلي السائد منذ سنوات والقائم على “السيطرة في كل الأراضي مع إدارة الفلسطينيين بواسطة مقاولين من الباطن. لذلك كان هناك منذ فترة طويلة من قال إن أفضل شيء يمكن فعله هو التمرد ضد هذا النموذج وإعادة المفاتيح إلى إسرائيل!

” حماس” قامت بالخطوة. أعادت المفاتيح إلى إسرائيل، والآن على إسرائيل أن تقرر ماذا ستفعل في أرض وشعب تحت الاحتلال. هل تواصل حرب الفناء الكبير وتحقق نكبة ثانية في حروب لا نهاية لها؟ أم يفرض عليها الانصياع لقرارات الأمم المتحدة التي تنص على حق الفلسطينيين بدولتهم المستقلة في حدود الرابع من يونيو (حزيران) 1967؟

وزير العدل الإسرائيلي السابق مئير شطريت رفع الصوت وقال إن “الحل الوحيد لسلام دائم هو في العودة إلى مبادرة السلام العربية” (معاريف). الوزير والنائب السابق كان جمع في الكنيست 42 نائباً من كتل مختلفة ينادون بتبني المبادرة لكن منذ 2002 “لم يرد أحد على هذا العرض ولم يفعل شيئاً بشأنه كل رؤساء وزراء إسرائيل، على رغم أن معظمهم قالوا إنها فكرة جيدة”.

في العالم عادت أفكار الدولتين والمشروع العربي للسلام لتطرح بقوة مع استمرار الحرب والدعوات لوقفها. الإدارة الأميركية، الداعم الأول لإسرائيل في رفضها حل الدولتين وفي حروبها كافة، تتبنى الآن هذا الحل الذي يتكرر في كل تصريحات الرئيس جو بايدن تقريباً. العالم كله من بكين إلى موسكو إلى الاتحاد الأوروبي ينحو في هذا الاتجاه. فقط حكومتان في العالم ترفضان حتى الآن مشروع الدولتين والمبادرة العربية وحق منظمة التحرير كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني. هاتان الدولتان هما إسرائيل وإيران.