تنتهج إيران سياسة “الصبر الاستراتيجيّ” في العلاقة مع الولايات المتّحدة والكيان الصهيوني، بغرض الاستمرار في فرض هيمنتها على دول عربية كثيرة. ترافق هذا “الصبر” مع شبه اتفاق إيراني صهيوني على أن تضبط إيران وكلاءها وتحرّشهم بدولة الاحتلال، في مقابل صمت الأخير عن التمدّد الإيراني. لم يتغيّر الأمر حينما اغتالت الولايات المتحدة قاسم سليماني، في أواخر عام 2020، ولم يتغيّر بعد “طوفان الأقصى”، إذ أعلنت إيران أنّها لا تدعم تلك العملية، واتفقت دول المنطقة كافّة على حصر الحرب في غزّة، وإمعاناً في ذلك أَرسلت الدول العظمى بوارجها إلى البحر الأبيض المتوسط، ولم تغيّر عمليات حزب الله هذه المعادلة في جنوب لبنان ولا عمليات الحوثيين في اليمن، ولا العمليات التي انطلقت من العراق أو من سورية، وتوقّف التوتّر الحاصل بعد مقتل ثلاثة جنودٍ أميركيين في الأردن في الأشهر الأخيرة. بالتالي، لا تزال إيران تنتهج الاستراتيجيّة ذاتها.
يبدو أنَّ الخلاف بين إيران ودولة الاحتلال هو على حجم التمدّد الإيرانيّ، لا سيما في سورية، ولهذا شنّ الاحتلال مئات العمليات ضد القواعد الإيرانيّة بين 2013 و2023، وضدّ شحنات الأسلحة أو طرق إمداداتها عبر سورية، وصولاً إلى حزب الله في لبنان. ويدفع الخلافُ في هذا الموضوع إيران إلى الاستمرار بالتموضع المكثّف في المنطقة، ويدفع الكيان الصهيوني للاستمرار في استهداف تلك التموضعات، وانتقل أخيراً، لا سيّما بعد “7 أكتوبر”، إلى استهداف شخصياتٍ قياديّة نافذة في الحرس الثوري وحزب الله وحركة حماس. عمليّة ضرب مبنى تابع للسفارة الإيرانيّة في حي المزّة في دمشق كانت أخطرها بسبب نوعيّة القادة المُستَهدَفين، ليطرح الإعلام، وسياسيون كُثر في المنطقة، تساؤلات من قبيل: هل انتهى الصبر الاستراتيجي الإيرانيّ؟ وهل تنتقل دولة الاحتلال من جزِّ العشب إلى الحرب؟ وهل تُستدرج إيران للمخاطرة والتدخّل في الحرب، فتخاطر بكلّ مكتسباتها في المنطقة؟
الخلاف بين إيران ودولة الاحتلال هو على حجم التمدّد الإيرانيّ، لا سيما في سورية
لا تبدو إيران في وارد أن تغيّر استراتيجيّها، وتصريحات الدبلوماسيّة الإيرانيّة وحتى قادة الحرس الثوري وفيلق القدس لا تتجاوز التهويل من خطر العملية، وأنّها تَنقض الأعراف الدبلوماسية، باعتبار أنّ المكان المستهدف تابع للسفارة، وقد رفضت كلّ من أميركا وفرنسا وبريطانيا بياناً من مجلس الأمن للتنديد بالعملية. أن يوجد في المبنى المستهدف سبع شخصيات إيرانية قيادية (ثلاثة من قياديي فيلق القدس وأربعة مستشارين) يُضعِف الصفة الدبلوماسية للاجتماع وكذلك للمكان ذاته، ويثير القلق الشديد لدى دولة الاحتلال، ويؤشّر إلى خفايا كبرى تتعلّق بدراسة الوضع في غزّة، وفي المنطقة، وربما يشير إلى خطّة أمنيّة ما، تتعلّق بمواجهة دولة الاحتلال، التي لا تتوقّف عن الحديث عن حربٍ ضد حزب الله، لا سيما أنّ إيران تَعلم أنّ هذه فرصة ثمينة لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، ومعه اليمين الإسرائيلي، ليستفيد من الدعم الغربي، وليهرب من الفشل في غزّة، ومن السجن أيضاً، في حال توفّرت نهاية ما للحرب.
العمليات الأخيرة داخل سورية نوعيّة بالفعل، لا سيما، في 26 مارس/ آذار بدير الزور، وفي 29 مارس/ آذار في المزّة في دمشق، وخساراتها موجعة لإيران، ولكنّ ذلك لن يُغيّر من الاستراتيجيّة الإيرانيّة، وإن كان يستدعي ردّاً محدوداً للغاية، وربما يكون بالتوافق بين دولة الاحتلال وإيران، كما كان الأمر بين طهران وواشنطن بعد مقتل قاسم سليماني، وهو ما أفشاه ترامب، الذي قال إنّ “الردّ الإيراني المنضبط كان متّفقاً عليه”. يبدو المشهد الإقليمي في حالة ثبات، فالحرب مستمرّة في غزّة، ومشاريع “اليوم التالي” تتدفق حولها كالينابيع يوميّاً، ولن يكون آخرها الكلام عن إرسال قوات عربية، وإيران لا تفكّر مطلقاً بتغيير صبرها الاستراتيجي المزمن، والولايات المتّحدة المتعبة من فرط هيمنتها على العالم لديها خطر أكبر هو الصين، خصوصاً في موضوع تايوان، وروسيا في أوكرانيا، وليست بوارد السماح لدولة الاحتلال بشنّ حربٍ إقليميّة، وإن سعى إليها نتنياهو بكلّ الطرق، ومنها العمليات النوعية المذكورة. هناك ثباتٌ أيضاً في علاقات بعض الدول العربية بدولة الاحتلال، إذ لم تغيّر من سياساتها الاستسلاميّة رغم كلّ ما يجري في غزّة، وحافظ الاتفاق الإيراني السعودي على حاله، وفقاً لاتفاق بكّين، وكذلك التهدئة في اليمن، والتشاور بشأن تبادل النفوذ بين الدول العربية، وهناك انفتاحٌ تركي واسعٌ على الدول العربية.
الخطر الوحيد حالياً أن يغزو نتنياهو لبنان، وهذا احتمالٌ قائم
إذاً، الخطر الوحيد والممكن على المشهد الإقليميّ، هو الخطر الصهيوني، وأن يقوم نتنياهو بعملية ضد حزب الله في لبنان، وهذا لن يُشطب قبل أن يتوقف العدوان على غزّة، وهذا لا يزال بلا نهاية قريبة، كما يبدو، فالاحتلال يريد اجتياح رفح، وما يستوقفه تجدّد الحرب في باقي مدن القطاع، والممانعة الأميركية، وعدم جهوزية جيش العدوّ، والكلفة الكبيرة في حال الاقتحام، ودراسة خطط عديدة لشكل الاقتحام. لا تشكّل الدول العربية أي أخطار تؤدي إلى تغيّر في المشهد الإقليمي، وحتى الوضع في الأردن، لا سيما مع استمرار التظاهرات، ودخول إيران على خط إثارتها، كما تتحدث بعض التقارير الصحافية. هناك رفضٌ عربي وأميركي واسعٌ لتغيير المشهد، والعملية الأخيرة في حي المزّة بدمشق، هي رسالة دقيقة للغاية، حول رفض أي تغييراتٍ في المشهد الإقليميّ.
التظاهرات المستقلّة في الأردن، أي غير المثارة خارجيّاً، وغير المدعومة من تظاهرات عربية للتضامن مع غزّة، لن تتطوّر بشكل كبير، فالمشهد ثابت منذ 7 أكتوبر. وغالباً، سيُطوَّق المشهد الأردني، ويُمنع من أن يصبح مشهداً إقليمياً. إذاً الخطر الوحيد حالياً أن يغزو نتنياهو لبنان، وهذا احتمالٌ قائم.