توجّه الشعب التركي إلى صناديق الاقتراع في 31 مارس/آذار 2024، وعبّر عن إرادته من خلال الانتخابات المحلية. فاز حزب الشعب الجمهوري، الذي يُعدّ الحزب الرئيسي للمعارضة في الانتخابات، التي أجريت ببالغ الشفافية والعدالة. وبهذا، خسر حزب العدالة والتنمية، الذي يتزعّمه الرئيس رجب طيب أردوغان، للمرّة الأولى منذ 22 عاماً. كان من الواضح ضعف الأداء الخاص بالحزب. ولكن أحداً لم يَتوقّعْ أن تكون الهزيمة في الانتخابات بهذا الثِقَل. لم يفقد الحزب الحاكم البلديات التي كانت في يده فقط، بل عاش خسارة كبيرة في عدد الأصوات.
هناك أسباب عديدة للخسارة: الأولى، والأكثر أهمية، كانت الأسباب الاقتصادية؛ إذ تعاني تركيا من أزمة اقتصادية منذ ست سنوات، وتفاقمت تلك الأزمة، التي بدأت في 2018 بسبب جائحة كورونا. لم تكنْ أساليب الحكومة كافيّةً لحلّ الأزمة، بل أدّت إلى تفاقمها. بعد ذلك، حدثت أزمة الزلزال المُدمّر في الجنوب التركي. ورغم ذلك، استمرّ دعم الشعب للرئيس أردوغان، لأنّه كان على ثقةٍ في قدرته على حلّ الأزمة. وبالفعل، رغم الأزمة الاقتصادية استطاع أردوغان الفوز في الانتخابات الرئاسية قبل عام. ومع ذلك، لم ينخفضْ مُعدّل التضخم كما كان مُتوقّعاً بعد الانتخابات (وصل سعر كيلو اللحم حتى 20 دولاراً، وكيلو الفلفل الأخضر إلي 2.5 دولار). بعد استياء الشعب من غلاء الأسعار، رأى الأتراك في الانتخابات المحلية فرصةً للانتقام من الحزب الحاكم. طبعاً، هناك جوانب في الأزمة الاقتصادية لا تتحمّل الحكومة مسؤوليتها كاملةً عنها، رغم توجيه الاتهامات لها. على سبيل المثال، كلّف الزلزال (فبراير/شباط 2023) الاقتصاد التركي ما يقارب 105 مليارات دولار، فلو لم يحدث الزلزال لربّما كان الاقتصاد التركي قد تعافى، لكنّ الشعب لم يكن مُستعدّاً لتحمّل أعباء اقتصادية أخرى، ولم تستطع الحكومة توضيح آثار الزلزال على الاقتصاد بشكل كافٍ. من ناحية أخرى، تقاعد في العام الماضي ما يقرب من 2.5 مليون شخص بعد طول انتظار، فبعدما رفعت الحكومة السابقة لـ”العدالة والتنمية” سنّ التقاعد إلى 60 عاماً، لم يتمكّن من التقاعد من كانوا يريدونه مُبكّراً. ورغم مقاومة حكومات الحزب تقاعدهم المبكّر سنوات، وافقت على تقاعد الملايين خطوةً للحفاظ على السلطة، ما أدّى إلى تفاقمٍ في التوازن المالي مرّة أخرى، ولجأت الحكومة في حلّ المشكلة إلى تخفيض المعاشات، ما أدّى إلى غضب المتقاعدين. مشكلة أخرى من المشكلات الاقتصادية كانت في استمرار التجّار في زيادة الأسعار من دون توقّف، بسبب غياب الدور الحكومي في مراقبة الأسعار، ما أدّى إلى فقدان الاستقرار في الأسعار، وهو ما جعل الشعب يُلقي اللوم على الحكومة بشكل مُبرّر.
المجتمع بشكل عام، والشباب منه بشكل خاص، يتّجه نحو العلمانية، فقد أثارت بعض الأفعال والسلوكيات، غير المتوافقة مع الإسلام، شعور الناس بالخوف
يكمن السبب الثاني للهزيمة في البقاء في الحكم 22 عاماً. عندما يدير حزبٌ ما البلاد سنوات طويلة يشعر الناس بالملل، وبالحاجة إلى التغيير ورؤية وجوه جديدة، وبعض الحماسة، خاصة جيل الشباب، الذي يُفضّل رؤيةَ وجوهٍ شبابيةٍ في القيادة، وبسبب أعمارهم الصغيرة، لا يمكنهم المُقارنة بين الحكومة الحالية والحكومات السابقة، وهذا يعود بشكل سالب على الحكومة الحالية. وحتّى لو كان الوضع الاقتصادي جيداً فلا يمكن كبح إرادة الشباب في التغيير. فوفقاً للإحصاءات، صوّت 20% فقط من الشباب لصالح “العدالة والتنمية”. علاوة على ذلك، يمكن القول إنّ المجتمع بشكل عام، والشباب منه بشكل خاص، يتّجه نحو العلمانية، فقد أثارت بعض الأفعال والسلوكيات، غير المتوافقة مع الإسلام، شعور الناس بالخوف، بالإضافة إلى محاولة الانقلاب الفاشلة في 15 يوليو/تموز 2016 على يد مجموعة في الجيش تنتمي إلى جماعة دينيّة، هي حركة فتح الله غولن. على إثر ذلك، لم يعد الأهالي يرسلون أولادهم إلى المدارس الدينية، وفقد معظم الأهالي ثقتهم في تلك المدارس، فنشأ جيل من الشباب من دون تعليم ديني، وفقد حزب العدالة والتنمية، المحسوب على الجناح المحافظ، صوت الشباب العلمانيين.
يؤدّي البقاء في الحكم مدّة طويلة إلى زيادة الاتهامات بالفساد، فإذا كان حزبٌ ما يدير البلاد، فمن الطبيعي أن يتعرّض لاتهامات بالفساد، حتى لو فعل كلّ شيء بشكل صحيح فستلاحقه تهم الفساد. تعرّض حزب العدالة والتنمية، على سبيل المثال، لاتهامات بالفساد نتيجة قيادته الدولة 22 عاماً، ولا يمكن القول إنّه لم يرتكب أيّ فساد، فمع اتساع قاعدة الحزب وضمّها شرائح اجتماعية مختلفة، يمكن أن يؤدّي ذلك إلى وجود فاسدين داخل الحزب. ومن المثير للسخرية أنه عندما انتشرت فيديوهات لأشخاص مُقرّبين من مُرشّح حزب الشعب الجمهوري، أكرم إمام أوغلو، يحملون حقائب مالية، بقي الذين يتهمون “العدالة والتنمية” صامتين بلا تعليق.
يقال إنّ ما لا يقل عن ستة ملايين من ناخبي “العدالة والتنمية” لم يمارسوا حقّهم في التصويت في الانتخابات
كانت مشكلة اللاجئين سبباً آخر، فبعدما اندلعت الحرب الأهلية في سورية فتحت الحكومة الحدود أمام السوريين. في البداية، لم يعارض الشعب هذا القرار لظنّهم أنّ الحرب ستنتهي قريباً، وسيعود اللاجئون، لكنّ هذا لم يحدُث، فبدأ الناس بالاستياء من وجود السوريين، واستغلت الجماعات العنصرية هذا الوضع، فأثار جزءٌ منها مخاوف تهديد وجود السوريين الهويّة التركية، وأشار آخرون إلى أزمة البطالة ربطاً بالوجود السوري في تركيا. ومع تفاقم الأزمة الاقتصادية، زادت الانتقادات إلى أقصى درجة، وهو ما انعكس على نتيجة الانتخابات. ولنذكر هنا استياء فئة المحافظين أساساً من سياسة الحكومة التركية تجاه أحداث غزّة، فيرون أنّها غير كافية، وأنّ من الممكن تقديم المزيد، كما يزعجهم استمرار العلاقات التجارية مع إسرائيل. ولم يؤدّ تبرير الحكومة استمرار علاقاتها التجارية مع إسرائيل (التي جرى الإعلان أخيرا عن تعليقها) بالأزمة الاقتصادية إلى اقتناع الشعب، كما أدّت الشائعات الكاذبة بخصوص بيع الأسلحة إلى إسرائيل في زيادة الغضب الشعبي.
ومن الانتقادات التي وجّهت إلى الحزب الحاكم أيضا وضع شخصيات غير مؤهلة في مناصب مُهمّة، ولم يرُق للشعب ترشيح بعض الأسماء من الحزب من دون رضاهم. كان بين المُرشّحين أشخاصٌ من أحزاب أخرى أو شخصيات غير أكفاء. وقد ترجم الناخبون غضبهم من عدم ترشيح الأسماء التي أرادوها بالتصويت لأحزابٍ بديلة. وهناك من ربط الهزيمة بوجود حزب الرفاه الجديد، الذي يرأسه فاتح أربكان، نجل رئيس الوزراء السابق نجم الدين أربكان، ولكن هذا غير صحيح، فحتّى لو لم يشارك هذا الحزب المحافظ (الرفاه الجديد) في الانتخابات، كان متوقّعاً أن يخسرها “العدالة والتنمية”، لأنّ الذين صوّتوا لحزب الرفاه الجديد هم الغاضبون من “العدالة والتنمية”، ولو لم يكن هناك حزب الرفاه الجديد، فمن المحتمل أنّهم لم يصوّتوا على الإطلاق. وبالفعل، يقال إنّ ما لا يقل عن ستة ملايين من ناخبي “العدالة والتنمية” لم يمارسوا حقّهم في التصويت في الانتخابات.
سيكون طلب المعارضة بانتخابات مُبكّرة تطوراً متوقّعاً، لأنهم يؤمنون بأنه إذا أجريت انتخابات عامة فسيكون لديهم فرصة للفوز على أردوغان
سبب آخر، قليلاً ما يُذكر، هو ابتعاد حزب العدالة والتنمية عن الأكراد. في الماضي، كان الحزب بقيادة أردوغان يتبنّي سياسة تمييز واضحة بين حزبي العمّال الكردستاني وأنصاره من جهة و”الشعب الكردي” من جهة أخرى. ولكنه أخيراً، أهمل الأخير بشكل كبير. وفي ذلك الإطار، لعب تحالف “العدالة والتنمية” مع حزب الحركة القومية دوراً هاماً. وفي الواقع، ليس الخطأ في هذا التحالف، وإنما كان في الوسع الاحتفاظ بالعلاقة مع “الشعب الكردي” كما كانت في الماضي. نتيجة لذلك، خسر تحالف الجمهور، الذي يضم “العدالة والتنمية” و”الحركة القومية”، الانتخابات المحلّية.
المسألة الرئيسية الآن: ما الذي سيحدُث بعد ذلك؟… سيكون طلب المعارضة بانتخابات مُبكّرة تطوّراً مُتوقّعاً، لأنّهم يؤمنون بأنه إذا أجريت انتخابات عامة، بعد فوزهم في الانتخابات المحلية، ستكون لديهم فرصةٌ للفوز على أردوغان. مع استمرار الأزمة الاقتصادية، يبدو الظنّ أنّهم قادرون على هزيمته في الانتخابات المقبلة منطقياً. ومع ذلك، لا تزال لأردوغان أربع سنوات للتعافي. قد يفضّل استغلال تلك الفترة جيّداً لإعادة تأهيل الاقتصاد، وكسب قلوب الشعب من جديد، بدلاً من خوض الانتخابات، وتحمّل أخطار فقدان السلطة. سيتعين عليه القيام بذلك خلال السنتيْن المقبلتين، لأنّ الشعب بحاجة إلى الشعور بالتغيير الاقتصادي، والنهضة الاقتصادية، قبل سنتيْن من الانتخابات، على الأقل.
لا يزال الشعب لا يثق في “الشعب الجمهوري”، رغم اختيارهم له في آخر انتخابات، فعندما نلقي نظرة على الأرقام نلاحظ أن أصوات ناخبيه لم تزد
في الجانب الآخر، يجب القول إن الشعب لا يزال لا يثق في “الشعب الجمهوري”، رغم اختيارهم له في آخر انتخابات، فعندما نلقي نظرة على الأرقام، نلاحظ أن أصوات ناخبيه لم تزد، وأن سبب خسارة “العدالة والتنمية” عدم حضور قاعدته الانتخابية التصويت، أو التصويت لحزب الرفاه من جديد نوعاً من الاحتجاج. وبالتالي، ما زالت قاعدة حزب العدالة والتنمية مُتماسكة، وإذا قام أردوغان بالإصلاحات المُتوقّعة من المرجح أن يحصل على دعمهم وأصواتهم مرّة أخرى. يجب ألا ننسى أنّ الشعب أخذ مسألة الإرهاب بجدّية خلال الانتخابات، وقد تحالف حزب الشعب الجمهوري مع حزب الديمقراطية ومساواة الشعوب، الممثّل للمسار الكردي الانفصالي، والمعروف أنّه فرع لحزب العمّال الكردستاني.
عندما تولّى الأخير رئاسةَ البلديات التي فاز بها أزال العلم التركي من حساباته على وسائل التواصل الاجتماعي. بالإضافة إلى ذلك، لم يقرأ أعضاؤه النشيدَ الوطني قبل اجتماعاتهم، كما أنزلوا صور كلّ من الرئيس أردوغان ومصطفى كمال أتاتورك، من على جدران البلديات. وستتحوّل تلك التحدّيات تصويتاً لصالح أردوغان.
كلّ ما كتب أعلاه تخميناتٌ فقط، فربّما ينتهي عصر أردوغان بعد بضع سنوات، أو ربّما يحقّق حزبُه انتصاراتٍ جديدة في الانتخابات المحلّية والعامة. فلننتظر وسنرى.