“على الغرب الاستعداد لحرب مع روسيا”

“على الغرب الاستعداد لحرب مع روسيا”

ساحة خردة للسيارات المحترقة، زجاج مهشم، شظايا قذائف، وجثث ملقاة على جانبي الشوارع. هذه هي التعابير التي طبعت لغة الحرب لدى أولكساندر مايكخيد، ولدى سائر الأوكرانيين بصورة عامة. وفي هذا السياق يأتي تنبيهه إلى ضرورة التهيؤ لما يمكن أن يحصل في المستقبل بقوله: “هذا ما قد يحدث في بلدك. ومن الأفضل أن تكونوا مستعدين”.

يعدّ مايكخيد أحد أكثر المؤلفين إنتاجاً في أوكرانيا، وهو موجود في لندن في هذه الفترة للترويج لكتابه الـ10 ضمن مجموعة مؤلفاته والذي يحمل عنوان “لغة الحرب” The Language of War. هذا الرجل غيّر قصة شعره الأشقر المسدول، ليصبح محلوقاً على الطراز العسكري، مما يعكس طبيعة دوره الجديد جندياً في صفوف الجيش، وهي وظيفة لم يختَرها في الأساس.

المؤلف تم تجنيده وهو في سن الـ36، مباشرة بعد بدء الغزو الروسي واسع النطاق لبلاده. وعلى رغم أنه لم تكُن لديه أي خبرة عسكرية سابقة، فقد كُلّف مهمة تذخير بطارية مدفع هاون بالقنابل. وعندما سأل عن طبيعة تلك المهمة، أوضح له ضابط التجنيد قائلاً: “سيتعين عليك بصفتك ’رجل الهاون‘ Mortar Man أن تقوم بنقل القنابل إلى ملقم المدفع، وأن تحمل صندوق القنابل والمدفع نفسه”.

من ثم خضع مايكخيد للتدريب وشارك بعد ذلك في دوريات بعيدة من خط المواجهة. وأكمل أخيراً تمريناً تدريبياً آخر مدته 40 يوماً. وبعد الجولة التي يقوم بها من أجل الترويج لكتابه، لا تزال وجهته التالية غير مؤكدة.

22.jpg
أولكسندر مايكخيد الكاتب الذي انضم إلى الجيش الأوكراني في لندن أثناء الترويج لكتابه “لغة الحرب” (توم واتلينغ)

“لغة الحرب” هو رواية مروعة عن الحياة التي عاشها المواطن الأوكراني خلال الأشهر الـ13 الأولى من الغزو الروسي – ويشكل تذكيراً مؤثراً بواقع الصراع المستمر في ملايين البشر هناك. لذا، هو ليس مجرد كتاب عن أوكرانيا، بل عن الأوكرانيين تحديداً.

عمل المؤلف على تنظيم كتابه بدقة، بدءاً بطريقة تأثير الحرب فيه شخصياً، ومن ثم في عائلته وأقرانه وبلاده، مضمناً فصوله حكايات من أوكرانيين آخرين. ويصف مايكخيد كتابه بأنه “إطار مفصل للتأثير المتطور للغزو”.

ويوضح أن “الهدف منه هو جعله نموذجاً للغزو الروسي وتسليط الضوء على إمكان حدوثه في أي مكان آخر”. ويقول: “أحياناً أشعر بالسذاجة بعض الشيء عندما أضطر إلى مقارنة وضعنا بـ’الحرب العالمية الثانية‘. لكن هناك دروساً يمكن تعلمها من التجربة الأوكرانية … لأن ما حدث عندنا يمكن أن يحصل في بلدكم، ومن المهم أن تكونوا مستعدين”.

من هنا فإن الكتاب يصور حال الغضب التي تعتري مايكخيد. ويقول في هذا الإطار: “يجب المحافظة على تلك الذكرى، والحفاظ على شعور حاد بالغضب. هذا هو الغرض من الكتاب – بالنسبة لي شخصياً كما بالنسبة إلى قرائي، وأولئك الذين سيكتشفونه ربما”.

33.jpg
أشخاص يسيرون بين الأنقاض والمركبات العسكرية الروسية المدمرة في أحد شوارع بوتشا، حيث كان يعيش والدا مايكخيد عند بداية الغزو الروسي لأوكرانيا (غيتي)

قد يكون صعباً عدم إجراء مقارنة بين محتوى الكتاب والفيلم الوثائقي “20 يوماً في ماريوبول” 20 Days in Mariupol للصحافيين الأوكرانيين ماستيسلاف تشيرنوف وإيفغيني مالوليتكا. فهذا الفيلم يصور لقطات تم تسجيلها أثناء محاولة روسيا الاستيلاء على مدينة ماريوبول الأوكرانية، بما فيها قصف جناح ولادة في مستشفى، واستهداف منازل سكنية بأبراج الدبابات. ويروي المخرج تشيرنوف في سرديته أهوال الهجوم الروسي، في وقت كان يفكر بسلامة بناته في مكان آخر من أوكرانيا. وحاز العمل “جائزة أوسكار لأفضل فيلم وثائقي طويل” Best Documentary Feature Film.

44.jpg
الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي يبدو منزعجاً خلال زيارته مدينة بوتشا للمرة الأولى بعد تحريرها من الاحتلال الروسي في أبريل (نيسان) عام 2022 (أ ف ب)

ويصف مايكخيد كتابه “لغة الحرب” بأنه “الأخ التوأم” لفيلم تشيرنوف الوثائقي. ويقول إن “الأمر استغرق ’20 يوماً في ماريوبول‘ لكن ما يزيد على 400 يوم تقريباً في أوكرانيا”، موضحاً السبب في طلبه من ماستيسلاف كتابة تمهيد مبسط لكتابه.

تشيرنوف الذي التقته “اندبندنت” بعد المقابلة مع مايكخيد، أكد أنه يتفق مع ذلك قائلاً: “كلانا يبحث عن طرق جديدة وفورية ومباشرة لقول الحقيقة في ما يرتبط بالرعب المستمر بصورة يومية”.

ويتابع: “ربما، من خلال الكتاب والفيلم يطور الناس علاقة مع المؤلف خلف الصفحات، ومع المخرج خلف الكاميرا اللذين لا يوثقان هذه الأحداث فحسب، بل يعيشانها أيضاً. وأعتقد بأن هذا يضيف بعداً عاطفياً إلى عملَينا”.

55.jpg
عمال طوارئ ومتطوعون أوكرانيون يحملون امرأة حاملاً مصابة من مستشفى للولادة تضرر جراء غارة جوية في ماريوبول. وهذه الصورة عُرضت في فيلم “20 يوماً في ماريوبول” (أ ب)

يبدأ الكتاب بوقوف مايكخيد في منزل والديه في اليوم الـ 383 من الغزو. فبعد انتقاله إلى ضاحية بوتشا في العاصمة كييف، اضطُر والداه في البداية إلى الاحتماء في الطابق السفلي من منزلهما أثناء الاحتلال الروسي في مارس (آذار) عام 2022، عندما كانت قوات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تهاجم المنطقة. وتمكنا في نهاية المطاف من الفرار إلى الغرب، تاركَين وراءهما منزلاً مزقته في وقت لاحق شظايا القذائف.

وكتب مايكخيد يقول: “إن أولئك الذين كانوا هنا قلبوا كل شيء رأساً على عقب، وحطموا أسطح جميع الأجهزة الإلكترونية التي تمكنوا من العثور عليها. كما لو كانوا خائفين من رؤية انعكاس عملهم الوحشي”.

اقرأ المزيد

قائد عسكري أوكراني رفيع: حري بالغرب الاستعداد لحربه الخاصة

زعيم يساري أوروبي: حان وقت التفاوض لإنهاء الحرب في أوكرانيا

سنة ثالثة لحرب أوكرانيا… عودة أوروبا إلى “العسكرة”

وثائق مسربة: بوتين يخطط لـ”جحيم أوروبي” بعد طي صفحة أوكرانيا
وفي ختام الكتاب الذي يزيد عدد صفحاته على 275 صفحة، يحلم المؤلف بنهاية الحرب، ويتخيل لحظة يصرخ فيها من الألم … و”يخرج من أعماق نفسه شظية قذيفة علقت في جدار منزل والديه”. ويضيف: “فيما أريد أن أنسى كل شيء، إلا أنني أريد ألا أنسى أبداً”.

أحد فصول الكتاب الذي يحمل عنوان “صلاة لراحة نفس تارانتينو” Requiem for Tarantino يحيي ذكرى صديق مقرب من مايكخيد يُدعى فيكتور أونيسكو، المعروف باسمه الحركي العسكري “تارانتينو”، بسبب خلفيته مخرجاً سينمائياً قبل أن يصبح جندياً. وكان أونيسكو البالغ من العمر 40 سنة، قضى بقذيفة روسية في اليوم ما قبل الأخير من عام 2022.

وفي وقت يملأ الكاتب الثغرات المتبقية من النعي الرسمي لصديقه أونيسكو، بحكايات عن غرابة الفنان، يتذكر مقابلة مع صحافي نرويجي لم يذكر اسمه.

66.jpg
أطفال يلعبون على أرجوحات خارج مبنى محترق دمره هجوم صاروخي روسي في إقليم بوروديانكا التابع لكييف (غيتي)

وكان الصحافي سأله: “هل مات بطلاً؟ وما هو شعورك عندما تعلم أن مزيداً من أصدقائك ربما يقضون نحبهم وأنت نفسك يمكن أن تموت أيضاً؟”.

هذه الأسئلة تصور كلاً من مايكخيد وأونيسكو على أنهما ضحيتان للحرب، الأمر الذي – كما كتب مايكخيد – يطلق العنان في داخله لـ”موجة من الغضب لا يمكن لجمها”، نتيجة اختزالهما بمجرد أشياء تثير الفضول، وبمصطلحات مبسطة لا تعكس حقيقة دوريهما.

77.jpg
جندي أوكراني من “اللواء 57” ينتظر أمراً لمركبته المدفعية بفتح النار على مواقع روسية على خط المواجهة في منطقة خاركيف في أوكرانيا (أ ب)

رواية مايكخيد “صادقة” بمقدار ما هي “مؤثرة”، كما يقول صديقه كريستوفر ميلر مراسل صحيفة “فايننشيال تايمز” في أوكرانيا الذي انتقل إلى هناك عندما كان في منتصف العشرينيات من عمره، كأحد المنضمين إلى “فيلق السلام” Peace Corps (وهو برنامج تابع لحكومة الولايات المتحدة يتضمن تدريباً لمتطوعين ونشرهم لتقديم مساعدة إنمائية دولية). وقد ألف ميلر كتاباً عن الأعوام التي أمضاها في أوكرانيا حمل عنوان “الحرب أتت إلينا” The War Came To Us. ويرى ميلر أن “كتاب مايكخيد سيجذب القراء بقوة، ويجعلهم يتعاطفون مع الموضوع”.

ويمكن القول إن أحد الأسباب التي تجعل كتاب مايكخيد عميقاً للغاية، هو أنه يتضمن كثيراً من القصص الشخصية لأوكرانيين آخرين. ومن بين السرديات الأكثر تأثيراً تلك التي تروي تجارب أطفال أوكرانيين والتي تم تفصيلها في أطول فصول الكتاب وتحمل عنوان “حافلة زرقاء – حافلة بيضاء. آنيا وأطفال الحرب” Blue Van – White Van. Anya and the Children of War.

الآباء كتبوا إليه يصفون القلق الشديد الذي ينتابهم، إلى درجة أنهم كانوا يتقيّأون ما يصل إلى 10 مرات في اليوم، وبدأوا يلعبون ألعاباً مثل “إبحث عن الروس واقتلهم” Find and Kill the Russians لتمضية الوقت، أو بناء ملاجئ للنمل في حديقة المنزل لأن الحشرات، على عكس أسرهم، ليس لديها مكان تهرب إليه.

وفي وقت لاحق من هذا الفصل، يروي مايكخيد قصصاً عن شباب أوكرانيين لم يعرفوا من الحياة سوى الغزو. وتكتب إحدى الأمهات عن طفلتها الصغيرة: “بعد كلمتي ’أمي‘ و’أبي‘، كانت الكلمات التالية التي تعلمت أن تنطقها هي: ’كل شيء على ما يرام!‘”، في إشارة إلى انتهاء صفارات الإنذار من الغارات الجوية.

ويصف مايكخيد حجم الهجمات الروسية وتأثيرها المدمر في أوكرانيا بالقول “إنه أمر يتجاوز الخيال”.

ويضيف: “عندما يحدث شيء بهذا الحجم المروع، فإنك تجد نفسك عاجزاً عن التعبير عن مشاعرك. ويبدو الأمر كأن الأرض تنزلق من تحت قدميك، وتجد صعوبة في فهم كيف حدث كل ذلك”. ويتابع: “إن الكتاب هو محاولتي لالتقاط تلك اللحظة عندما تخذلني الكلمات فجأة”.