تمكنت القيادة الإيرانية من إكمال المرحلة الثانية من الانتخابات الرئاسية في الخامس من تموز 2024 والتي تم فيها اعلان فوز مرشح التيار الإصلاحي مسعود بزشكيان بعد 19سنة من سيطرة المحافظين على قيادة الدولة وهيمنتهم على مقاليد الحكم في إيران،
ومنحت نتائج الانتخابات صورة واضحة عن مدى رفض أبناء الشعوب الإيرانية للمرشح سعيد جليلي الذي لقى دعمًا من مؤيدي ومناصري التيار المحافظ وعدد من القيادات العليا في الدولة ومن مسؤولي الأجهزة الأمنية والعسكرية وقيادات الحرس الثوري الإيراني الذي يعتبر جليلي أحد الشخوص التي سبق لها وأن عملت في تشكيلاته إضافة إلى كونه كان رئيساً للمفاوضين الإيرانيين في حوارات البرنامج النووي، ومع كل هذه الاعتبارات كان صوت الشعب الذي ذهب وفي المرحلة الثانية إلى مراكز الانتخاب وصوت في صناديق الاقتراع بنسبة 50٪ والتي ارتفعت عن المرحلة الأولى بنسبة 10٪،وكان لوجود وزير الخارجية الأسبق محمد جواد ظريف مع الرئيس الجديد المنتخب في جميع جولاته ولقاءاته أثرًا بالغًا في تحقيق الفوز مع دعم مساندة الرئيس السابق حسن روحاني.
رسمت نتائج الانتخابات مرحلة جديدة أرادها المرشد الأعلى علي خامنئي لتكون إشارة لشرعية النظام والتزامه بالتقاليد الديمقراطية وفسح المجال للإيرانيين بالتعبير عن ارائهم وحقهم في انتخاب من يرونه مناسبًا لهم في هذه المرحلة من حياتهم وتاريخ دولتهم كما وأن المرشد قد بعث برسالة ضَمنَها أن هناك أسباب موجبة لوصول قيادي في تيار الإصلاح لسدة الحكم، ورسالة خامنئي بعثت بمضامين تتعلق بأنه إذا كان النظام قد سمح بفوز التيار الإصلاحي فهي رغبة النظام السياسي القائم في احتواء الغضب الشعبي المتنامي من سياساته ومحاولة معالجة الأزمات التي تعصف بالمجتمع الإيراني عبر رؤية جديدة وبرامج ميدانية وبأفق استراتيجي تخدم تطلعات القيادة الإيرانية والتي جاءت وفق الأراء والمقترحات التعهدات التي نادى بها الرئيس بزشكيان قبل انتخابه والتي تضمنت منع الرقابة وتقييد الإنترنت وتحقيق تمثيل حكومي أوسع للنساء والأقليات القومية والمذهبية في وزارات ومؤسسات الدولة ومنهم الأكراد والبلوش،مع النظر إلى أن بزشكيان نفسه ينتمي لأب أذري وأم كردية.
وكانت الأهداف السياسية التي احاطت بخطاباته والتي أعدها جواد ظريف المستشار له السياسي والذي أصدر قرارًا بتعينه رئيسً للمجلس الإستراتيجي الإيراني وهو اول قرار بتأخذه تتمحور في اعتماد سياسة الانفتاح على العالم وعدم وجود معاداة أي طرف أو جهة بغية تحقيق توازن في علاقات إيران الخارجية سياسيًا واقتصاديًا وعدم السماح لأي طرف بتحويل العقوبات الدولية إلى مدخل لفرض شروطه على إيران وربط علاقاتها الخارجية وانفتاحها على المحيط والخارج بمصالحه الخاصة والاستراتيجية، وهذا ما يتوافق مع الهدف الأساسي الذي حدده المرشد الأعلى خامنئي في العديد من خطاباته ولقاءاته بضرورة العمل على رفع العقوبات الدولية وانهاء الأزمات الاجتماعية والاقتصادية والتمسك بسياسية قبضة النظام،ثم مناداة الرئيس الجديد بمحاولة العودة للتفاوض بغية وإحياء الاتفاق النووي وإلغاء العقوبات الاقتصادية والانضمام إلى معاهدة (باليرمو) لمحاربة تبييض الأموال وتمويل الجماعات الإرهابية التي باتت تشكل عائقاً أمام قدرة إيران في الحصول على عائداتها المالية من قطاع الطاقة والتجارة الدولية.
وبغية تحقيق الانفتاح في العلاقات الدولية فإن الفريق السياسي للرئيس مسعود بزشكيان يرى ان إعادة التوازن في العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية والغرب سيعيد إيران لدورها الإقليمي وتأثيراتها في المحيط الدولي كما أنها ستكتسب إضافة نوعية في تحقيق مصالحها ومنافعها استثمار الفرص السياسية التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط والتعامل معها بشكل إيجابي وبما يخدم جميع الأطراف، وهذا شكل اهتماماً روسيًا وخشية من تعاظم الاتجاه نحو الغرب بعدما كانت السياسة الإيرانية قد رسمت خطًا مستقيمًا نحو الشرق، وهذا التوجه
شكل حالة من القلق السياسي لدى حلفاء طهران الرئيسين روسيا والصين، مما دفع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى التأكيد أن موسكو على استعداد للتوقيع النهائي على ورقة التفاهم الاستراتيجي بين البلدين وتحويلها إلى اتفاق تنفيذي في أقرب فرصة ممكنة.
وهذا ما يجعل الرئيس بزشكيان يتجه نحو تشكيل حكومة من التكنوقراط، لا تمثل تيارات سياسية استنادًا إلى تصريحه بأنه يجب تعيين خبراء في الحكومة لإعادة حالة التوازن في التعامل مع مستلزمات قيادة البلاد وتحقيق الغايات والأهداف من أجل إعادة الدور الإيراني.
وبغية تعزيز دوره في قيادة إيران وإرسال عدة رسائل للمعارضين له، فقد توجه مهدي بزشكيان في اليوم الأول لرئاسته لالقاء خطابه بالقرب من ضريح الخميني
وإلى جانبه وزير الخارجية السابق الذي أدار حملته الانتخابية محمد جواد ظريف وحسن الخميني (حفيد الخميني) ليعطي دلالة واضحة على انه يمثل امتداد دائم للنظام وسياساته وتوجهات قياداته منذ سنة 1979 بداية الحكم الذي تلي عهد الشاه محمد رضا بهلوي، وقال ( أشكر القائد المفدى للبلاد المرشد الإيراني علي خامنئي ولولا حكمته لم نكن لنستطيع أن نصل لهذه الفرصة) وهذا تأكيد اساسي الي انه سيكون متمسك بكل إرشادات وتوجهات وسياسات المرشد علي خامنئي، ثم تابع قوله (أمامنا امتحان كبير من التحديات ومن الصعاب لتحقيق حياة كريمة للشعب الإيراني ونسعى لفك العقد التي تواجهنا بإشراف القائد وحكمته) .
وفي هذه الرمزية التي أتى بها وكلمته أمام ضريح الخميني وبحضور حفيده إنما يسعى فيها وكما أشار الى (دعم القيادة العليا الحكيمة من أجل الخروج بإيران من أزماتها).
واراد الرئيس المنتخب بحديثه ان يوصل رسالة لجميع القيادات السياسية والأمنية والعسكرية ولجميع الإيرانيين أنه رئيس يمثل التيار الإصلاحي لكنه ينتمي إلى النظام الإيراني.
ويدرك مهدي بزشكيان أن قيادة البلاد سياستها إنما يعمل على إدارتها مباشرة المرشد الأعلى الذي قد وضع برنامجًا ومنهجاً يريد للرئيس مسعود أن يسير عليه، وهو ما يشكل تكملة للسياسات الخارجية ونهج الرئيس السابق إبراهيم رئيسي، وستكون هناك محددات للسياسة الخارجية تجاه دول الجوار العربي والملف النووي الإيراني والعلاقة مع الدول الأوروبية والولايات المتحدة والتي قد تشكل عائقًا في إتمام ما يطمح إليه بزشكيان في تصويب عمل حكومته وتوجهاتها، وسيواجه قدرًا من
الاعتراضات وعدم التجاوب معه في ارائه وطبيعة قيادته لإيران من مراكز القوة الحقيقية التي تتمركز لدى بعض الأجهزة التي يقودها رجال الدين ومنها مجلس صيانة الدستور والحرس الثوري، كما وأن السلطة النهائية والكلمة الأخيرة في القرارات المفصلية والشؤون العليا للدولة ترجع لصلاحيات وقوة المرشد الأعلى علي خامنئي،وسيواجه أيضًا اعتراضات من أعضاء السلطة التشريعية في البرلمان كون اغلبهم ومنهم رئيس المجلس محمد باقر قاليباف كانوا من الداعمين المرشح التيار المحافظ سعيد جليلي، وسيشكلون عقبة أمامه في كثير من الأمور التي يحاول المضي قدمًا فيها وخصوصًا الأسماء التي ستتولى الحقائب الوزارية.
أن الرئيس الإيراني يعلم مدى صلاحياته التي تتضمن متابعة الملفات الاقتصادية والمالية والاجتماعية والثقافية والإشراف المباشر عليها وتعيين السفراء ورئاسة مجمع الأمن القومي ومجلس الثقافة العليا ومتابعة السياسة الخارجية مع الوزير المختص ولكن في القضايا الحساسة مثل العلاقات مع الولايات المتحدة والملف النووي والقضية الفلسطينية ومحاربة الإرهاب واعلان الحرب أو إيقافها لابد من الرجوع إلى المرشد الأعلى فهي من اختصاصه كونه يمتلك صلاحيات القائد العام للقوات المسلحة.
ومن الممكن أن يقوم المرشد علي خامنئي بمنح صلاحيات واسعة للرئيس مسعود بزشيكان فيما يتعلق بالقضايا السياسية التي تهم سلامة النظام وعلاقاتها الدولية والإقليمية التي تحقق المنافع والمكاسب للنظام والتي سبق وأن فعلها مع الرئيس الأسبق حسن روحاني عندما أجاز له وبكل الصلاحيات الدستورية في المضي بتوقيع اتفاقية العمل الشاملة المشتركة المتعلقة بالبرنامج النووي الإيراني سنة 2015، والحال نفسه مع الرئيس السابق أبراهيم رئيسي عندما أعلن الاتفاق السياسي مع المملكة العربية السعودية سنة 2023 وباشراف الصين الحليف الاستراتيجي.
إياد العناز
وحدة الدراسات الإيرانية