يبدو جلياً أن محادثات جنيڤ ٣، والتي جرى تقديمها على أنها هادفة لإيجاد حل سياسي للأزمة السورية المقتربة من إتمام عامها الخامس، قد قامت على خديعة. ففيما كانت البعثات الديپلوماسية من كبرى العواصم العالمية منشغلة بتذليل الخلافات الإجرائية الدقيقة، كانت موسكو تحضّر لشنّ هجوم جوي مدعوم بالقوات الخاصة على مواقع المعارضة في حلب وريفها، فيما جيش النظام وما يسانده من الفصائل اللبنانية والعراقية وغيرها من الأدوات الإيرانية، يتأهب للاستفادة من الإنهاك المرتقب للمعارضة. وبالفعل، فعند افتتاح أعمال اللقاء في جنيڤ، كانت روسيا قد نجحت في تبديل الوقائع على الأرض، ومكّنت النظام من دخول مواقع استعصت عليه لسنوات. وانتهت أكذوبة المحادثات قبل أن تبدأ.
ولهذا الفصل الجديد من المأساة السورية عواقب خطيرة على مستقبل سوريا، وعلى استقرار المنطقة والمنظومة الدولية. ففي حال سقطت حلب، يقترب استكمال تحقيق «سوريا المفيدة» والتي هي على ما يبدو هدف المسعى الروسي. والظاهر أن روسيا وصولاً إلى مبتغاها في المسرح السوري تسعى لتطبيق الدروس المستقاة من تجربتها في حرب الشيشان الثانية. فمن هنا تعمّدها استعمال القوة المفرطة بتغاضٍ سافر عن الاحتجاجات المبنية على ضرورة صون حقوق الإنسان، سعياً لإفهام المعارضة أن الخضوع هو السبيل الوحيد لتجنب الموت والدمار. ومن هنا أيضاً، كما يبدو من الإشارات الصادرة من موسكو، أن إعادة تمكين قبضة النظام قد يتبعها اعتماد خطوات إصلاحية مفترضة تقتصر على الشكليات وتشمل وجوه معارضة مزعومة يجري تحضيرها لهذه الغاية للتوّ في العاصمة الروسية، فيما يشهد الواقع عودة بكامل الزخم للأجهزة الأمنية لغرض اجتثاث شبكات النشاط المعادي والتوجهات القطعية التي تغلغلت في ثنايا المجتمع. أما المناطق الواقعة خارج «سوريا المفيدة»، والخاضعة لتنظيم «الدولة الإسلامية»، فتبقى عرضة لحرب مفتوحة إلى أن تتهاوى هذه الدولة المزعومة إزاء توالي نقاط الضغط عليها.
ويبدو اندفاع الوقائع لوهلة متوافقاً مع هذه القراءة المتفائلة (من وجهة نظر موسكو ودمشق)، غير أن هذا التصور ينضوي على قدر كبير من المغالطات ما يجعل من تهاويه أمراً شبه محتوم. فدمشق ليست موسكو، والمعارضة السورية ليست الانفصاليين الشيشان.
وروسيا، رغم اندحارها ورسوبها من موقع القوة العظمى في التسعينات من القرن الماضي، لم تفتقد يوماً القوة العسكرية الباطشة. ولم يكن الشيشان إلا عصائب من الثوار غير قادرين إلا على بعض النكاية بها. وبلاد الشيشان، المتواضعة من حيث الحجم والاقتصاد وعدد السكان، والمعزولة في هضابها وجبالها، لا طاقة لديها لمقارعة الجبروت الروسي. أما المعادلة في سوريا فمختلفة تماماً. ومهما تكرر الإنكار، ومهما جرى استدعاء سرديات الصمود والتصدي للمؤامرات الصهيونية والإمپريالية، فإن المواجهة في سوريا أضحت اليوم بين جمهور واسع يستقر في انتمائه إلى الهوية السنية ونظام لم يعد قادراً على التنصل من تلاصقه مع الطائفة العلوية. وحيث أن الهوية السنية ليست الغالبة على سوريا وحسب، بل على عموم جوارها، فإن موازين القوى ليست لصالح النظام. ولولا الدعم الخارجي الذي استفاد منه هذا النظام، والذي جرى استقدامه على أسس طائفية، فإنه ما كان ليشهد احتمال إسقاط مدينة حلب اليوم. فقدرته على المحافظة على ما يتحقق له من مكاسب مرتبطة بمدى استعداد داعمَيه، روسيا وإيران تحديداً، وقدرتهما على مواصلة الدعم. واستمرار الضخ على المدى البعيد من طرفهما لصالح النظام ليس أمراً محسوماً.
كما أن روسيا، في تصديها لمشكلتها الشيشانية، وعلى الرغم من تفوقها الهائل، لم تتمكن من الحل، بل نجحت وحسب في تفتيت المشكلة وتوزيعها داخلياً وتصديرها خارجياً. فالقطعية التي كانت تقتصر على الشيشان في الماضي، أصبحت اليوم منتشرة في مختلف المجتمعات المسلمة في روسيا، من داغستان إلى تتارستان وما يتجاوزهما، فيما الجهاديون الشيشان يشاطرون نظراءهم في العراق وسوريا ما اكتسبوه من خبرات وما بلغوه من قسوة وشدة. فيمكن توقع تكرار هذه النتائج السلبية، تحت شعار النصر المزعوم، إنما على مستويات أكثر ارتفاعاً، مع إمعان روسيا في منح النظام السوري انتصاراً على الجمهور السوري السني.
والعديدون، في سوريا وعموم المنطقة، يعتبرون أن اندفاع النظام نحو إمكانية تحقيق انتصار جاء بفعل خيانة. والغدر من طرف العدو ليس مفاجئاً. فدمشق وموسكو وطهران، في سعيها للحسم قد أبدت لامبالاة سافرة بما أنتجته من آلام وموت بحق السوريين. وهذا أمر متوقَّع. أما ما يصعب استيعابه بالنسبة للناشطين في مواجهة النظام القمعي، فهو موقف الولايات المتحدة. ذلك أن المعارضة المسلحة، المعادية لتنظيم الدولة، قد تمكنت على مدى العام الماضي من تحقيق الانتصارات المتتالية التي أوشكت أن تطيح بالنظام. غير أن هذه الانتصارات بقيت مكبّلة برفض الولايات المتحدة السماح لحلفائها في المنطقة تزويد المعارضة بالسلاح النوعي، ومقوّضة نتيجة المواقف السياسية الأمريكية الملتبسة والمترددة، والتي أتاحت المجال في نهاية المطاف لخطوة إقدامية حازمة من طرف روسيا أمسكت معها بزمام المبادرة ولا تزال.
وما يُنقل عن الناشطين والمعارضين السياسيين للنظام منذ اندلاع التدخل الروسي بشكله الصريح هو وضوح رؤية مفاجئ من جانب الولايات المتحدة في الإصرار على رضوخ المعارضين للشروط والقيود الروسية، على الرغم من إدراكهم الثابت بأن ما تقدم عليه روسيا مغامرة غير محمودة النتائج. فالضغوط التي مارسها وزير الخارجية الأمريكي جون كيري على المعارضة للانصياع للشروط الروسية حول شكل المشاركة في محادثات جنيڤ، ثم ما نقل عنه من تأنيب للمعارضة وتحميلها مسؤولية فشل هذه المحادثات وما قد يترتب عن ذلك من سقوط لحلب، جميعه من وجهة نظر المعارضين وغيرهم دلائل على تورط أمريكي في المسعى الروسي.
فهل أن جنيڤ ٣ كانت فخّاً نصبته موسكو لواشنطن، أو هل أنها كانت فخّاً نصبته موسكو وواشنطن معاً للمعارضة السورية؟ متابعة التذبذب المتواصل في السياسة الأمريكية على مدى الأعوام الماضية تسمح بالقبول بالفرضية الأولى، أي أن واشنطن هي من وقع في الفخ. إلا أن القناعة المستتبة في الشرق الأوسط، ولا سيما في الأوساط السنية المفتوحة بازدياد أمام التوجهات القطعية، هي أن الصواب في الفرضية الثانية، أي تورط واشنطن مع موسكو.
وفيما روسيا تنشط بالأعمال العسكرية، يبدو أن الولايات المتحدة عاجزة حتى عن إدارة الصورة المتداولة بشأنها. ولا سبيل إلى استعادة الهيبة الأمريكية المستنزفة إلا من خلال موقف مبدئي صارم لواشنطن، يؤكد الالتزام بالقيم والقناعات، ويدعم هذا التأكيد بالإرادة الكفيلة بتحقيق العدالة الدولية. وفي ذلك دون غيره الطريق إلى ضمان المصلحة الوطنية للولايات المتحدة وصون الاستقرار العالمي.
حسن منينمة
معهد واشنطن