لا ينفصل المشهدان اليمني والسوري عن سلسلة مآزق النظام الإيراني. المتغيرات الفاجعة أوصلته إلى نقطة الافتراق بين طموحاته التوسعية الخيالية وبين واقع المنطقة المشتبك الذي يوشك أن يشعل النيران في الحقول الإيرانية الداخلية نفسها، واحدا بعد واحد. وهذا ما يفسر لجوء النظام إلى التلويح بالرغبة في الحوار مع الخصوم واللجوء إلى التهدئة.
وقد لخّص مسؤول كبير في المنطقة الخضراء العراقية واقع المشهد الإيراني الأخير بالقول إن السكاكين تتجمع من حول البقرة الموشكة على السقوط. وإن على النظام أن يبدأ سلسلة تنازلات مُذلة. ولكن دونها قد يغرق الحصان نفسُه، وليس راكبه وحده.
والمؤكد وغير الظاهر للعيان أن حرب النظام الإيراني مع القوى المناهضة لتوسعه لا تدور رحاها الأخطر والأصعب في اليمن وسوريا ولبنان فقط، بل في عقر داره العراقي.
واعتمادا على بعض التقارير السرية الخاصة التي يسرّبها مسؤولون كبار في المنطقة الخضراء يمكن القول إن أصعب الحروب السياسية والعسكرية والاقتصادية والطائفية تدور رحاها في العراق، اليوم، بين المعسكر الإيراني العراقي المنهك والمكروه من ملايين العراقيين، بعد أربع عشرة سنة من الفساد والاستغلال والفشل والعمالة، وبين جبهة عريضة عراقية وعربية خليجية، تقودها أميركا بشحمها ولحمها.
وتقول تلك التقارير إن أميركا قررت محاربة إيران في العراق، لسببين، أولا لأنها ندمت على إدخال الدبّ الفارسي إلى كرمها العربي، والثاني لأنها اكتفت بما حصدته من توريط إيران في العراق والمنطقة. وأهم ما تؤكده المصادر المطلعة في المنطقة الخضراء أن هذه الحرب تخاض بقفازات من حرير وقطيفة، ومن الباطن.
أميركا تؤيد حيدر العبادي، في العلن، وتشجعه على الابتعاد عن إيران، باسم الإصلاح المطلوب شعبيا ومرجعيا، ولكنها تعمل، في الباطن، على تحشيد أكبر عدد من المعارضين لوجود حزب الدعوة من رجال الدين، من النجف بشكل خاص، ومن القوى والأحزاب والمنظمات المتضررة من هيمنة الائتلاف الشيعي على السلطة، ولكن على نار هادئة جدا، ودون ضجيج، في انتظار ما تأتي به الأيام القادمة.
وتقول تلك المصادر إن خيمة اعتصام السيد مقتدى الصدر ولدت وانتهت بالتنسيق الكامل مع وسطاء إيرانيين حضروا خصيصا لمواكبة التغييرات التي آمنوا أخيرا بأنْ لا مهرب منها. بمعنى آخر لا بد من تغيير الناطور للحفاظ على الحقل ذاته، قبل فوات الأوان.
وتقول تلك المصادر إن حكومة التكنوقراط المقترحة لم تولد بسهولة، خصوصا وأنها ستخلو من أهم وأكبر الحلفاء العراقيين لإيران، وخاصة إبراهيم الجعفري وحسين الشهرستاني ووزيريْ المجلس الأعلى، عادل عبدالمهدي وباقر صولاغ. وبسبب إصرار السفارة الإيرانية الحازم على إبقاء وزارة الداخلية في قبضة هادي العامري، وكيلها المعتمد في العراق، تمت الموافقة المبدئية على عدم طرد وزيرها، رغم الاعتراضات العديدة على أدائه.
وكما توقع كتّابٌ ومحللون كثيرون، عراقيون وعرب وأجانب، منذ بدايات الهجمة الإيرانية الشرهة على العراق، ومنه على سوريا ولبنان واليمن وفلسطين، فقد تعبت الخيول الإيرانية، سريعا، ونهضت بوجهها، سيوف كثيرة متنوعة جمَعَها، رغم تباين أهدافها ومصالحها، رفضُها للهيمنة الإيرانية على العراق وسوريا واليمن ولبنان.
الإعلان عن قبول الحوثيين بالحوار وإلقاء السلاح وإعادة ما نهبوه من معسكرات الجيش والوزارات والمؤسسات الحكومية، طعنة غائرة في الجنب الإيراني، بعد أن طبّل كبار وزرائها وقادتها العسكريين لانقلاب الحوثي، وبشرونا بعصر الكماشة الإيرانية المحكمة المطبقة على الوطن العربي من شرقه وغربه ومن شماله وجنوبه، بكثير من غرور القوة والجبروت.
وتأتي مسرحية جنيف السورية التي تؤذن بقرب رحيل بشار الأسد وتشكيل حكومة وفاق وطني ليس فيها سفير سوري لخامنئي وحسن نصر الله قاسم سليماني لتشكل الطعنة الثانية في الجنب الإيراني النازف المريض.
وهذا ما يفسر إقدام إيران على أن تحني رأسها العراقي للعاصفة، وقبولها باستبدال خيولها، في انتظار الفرصة المواتية لاستعادة القوة والهيمنة المطلقة، من جديد.
وتتوقع المصادر ذاتها أن يفشل البرلمان في إجازة حكومة تكنوقراط حيدر العبادي، الأمر الذي سيجبره على التنحي. يومها ستتجه الأنظار إلى أميركا وحلفائها العرب لتقديم مشروع سياسي عراقي جديد يحيل حزب الدعوة على التقاعد، ويُقزّم المجلس الأعلى، و(يفركش) التحالف الشيعي، ويدفع العراق إلى مرحلة جديدة من الحرب التي لا يرى أحد دخانها، ولكنه يشم روائح بارودها، ويسمع دقات طبولها، وينتظر ما سوف تنجلي عنه أستارها المغلقة.
إبراهيم الزبيدي
العرب اللندنية