جيل الإنترنت: هل دمرت الهواتف الذكية جيلاً كاملاً؟ (1-2)

جيل الإنترنت: هل دمرت الهواتف الذكية جيلاً كاملاً؟ (1-2)


تتعقب هذه الدراسة، التي أجرتها مختصة نفسية، تأثيرات الهواتف الذكية والأجهزة اللوحية على المراهقين في الولايات المتحدة. ولا شك في أن هناك فروقات ثقافية واجتماعية بين مجتمعاتنا ومجتمعهم، مثل عادات شرب الكحول والمواعدة والجنس، التي تُميز انتهاء المراهقة وبدء مرحلة النضج عندهم. لكن هناك تشابهات كثيرة أيضاً بين المراهقين في كل مكان، عندما يتعلق الأمر بالتفاعلات الاجتماعية، والعلاقة بالأبوين والأسرة، والتي تتأثر بقضاء المراهقين معظم أوقاتهم مع هواتفهم أو أجهزتهم الموصولة بالإنترنت. ونستطيع أن نشعر بهذه التأثيرات بقوة في مجتمعاتنا التي أصبحت هذه الأجهزة جزءاً منها أيضاً، بما حملته من تأثيرات اجتماعية ونفسية.
الأمر الخطير الذي استكشفته المسوح التي تستعرضها الكاتبة، هو ظهور إشارات على اعتلال الصحة النفسية والعقلية الذي ينجم عن قضاء المراهقين معظم أوقاتهم وحيدين في غرفهم مع أجهزتهم الذكية، من دون إشراف الوالدين، ومن دون التفاعل الشخصي، وجهاً لوجه، مع الأصدقاء، ومن دون ممارسة أنشطة مثل الخروج والتجول ومحادثة الأصدقاء وممارسة الرياضة وغير ذلك من أنشطة “غير الشاشة”. وإذا ترافق ذلك في مجتمعاتنا مع اضطرابات البيئة العامة بسبب الأزمات والأحوال الاقتصادية وضيق فرص العمل، فإن الحصيلة تصبح إنتاج جيل معرض في أغلبيته للاكتئاب والإحباط وافتقاد السعادة.
بطبيعة الحال، ثمة الكثير من أجراس الإنذار التي تُقرع حول التأثيرات السلبية التي جلبتها الهواتف الذكية والاتصال بالشبكة العالمية، لكن الحلول -إن وجدت- ما تزال نظرية، وقلة هم الذين يشعرون بحجم الآثار التي تترتب على أبنائهم ويفكرون في الحلول. بل إن هناك افتقاراً في مجتمعاتنا إلى رصد الظاهرة وإجراء المسوح والدراسات على مستوى جيلي لتعقب الاختلاف ووجهاته. ولا شك أن الحاجة تمسّ إلى الشروع في مثل هذه الجهود البحثية التي تأخذ في اعتبارها الخصوصيات الثقافية والحضارية في مجتمعاتنا، وتبحث عن حلول. والدراسة المرفقة هي مثال على أنواع هذه الجهود، بما تثيره من الانتباه، وما تطرحه من الأسئلة، وما تعرضه من الكيفيات.
هل دمرت الهواتف الذكية جيلاً كاملاً؟
ذات يوم في الصيف الماضي، عند الظهيرة، اتصلت هاتفياً بأثينا، وهي فتاة بعمر 13 عاماً تعيش في هيوستون، تكساس. وأجابت على هاتفها -لديها جهاز “آيفون” منذ كان عمرها 11 عاماً- وبدا كما لو أنها استيقظت من النوم تواً. دردشنا عن أغنياتها وبرامجها التلفزيونية المفضلة، وسألتها عما تحب أن تفعله مع أصدقائها. قالت: “نحن نذهب إلى مركز التسوق”. سألتها، وأنا أتذكر أيامي في المدرسة الإعدادية، عندما كنت أستمتع ببضع ساعات من التسوق مع أصدقائي من دون وجود الوالدَين: “هل يوصلُك والداك إلى هناك؟”، وأجابت: “كلا -أنا أذهب مع عائلتي. نحنُ نذهب مع ماما وإخوتي ونسير خلفهم على بعد مسافة قليلة. وعليّ أن أخبر ماما بأين سنذهب. ويجب أن تتحقق مني كل ساعة أو نصف ساعة”.
هذه الرحلات إلى مركز التسوق متباعدة -نحو مرة في الشهر. أما الأكثر تكراراً، فهو قضاء أثينا وأصدقائها الوقت معاً على هواتفهم، بلا رقابة ولا إشراف. وعلى عكس المراهقين من جيلي، الذين ربما كانوا يقضون في بعض الأحيان أمسيةً وهم يحتجزون خط هاتف الأسرة الأرضي للثرثرة، فإن أثينا وأصدقاءها يتحدثون عبر “سنابتشات”، تطبيق الهواتف الذكية الذي يسمح للمستخدمين بإرسال الصور والفيديوهات التي تختفي بسرعة. وهم يتأكدون من إبقاء شريط إرسالياتهم على “سناب” متصلاً، ليبين كم من الأيام المتعاقبة تواصلوا بواسطة التطبيق مع بعضهم بعضاً. وفي بعض الأحيان يحتفظون بلقطات شاشة لصور تكون سخيفة بشكل خاص. وتقول أثينا: “إنها وسيلة جيدة للابتزاز”. (لأنها قاصر، لا أستخدم اسمها الحقيقي). وقالت لي إنها تُمضي معظم الصيف وحيدة في غرفتها مع هاتفها. وهكذا بالضبط يفعل أبناء جيلها، كما تقول. “لم يكن لدينا الخيار لنعرف أيَّ حياة من دون ’آي-باد’ و’آي-فون‘. أعتقد أننا نحب هواتفنا أكثر مما نحبُّ الناس الحقيقيين”.
كنت عاكفة على إجراء البحوث عن الفروقات الجيلية طوال 25 عاماً، وبدأتُ عندما كنت طالبة دكتوراه بعمر 22 في تخصص علم النفس. ونمطياً، تظهَر الخصائص التي تُعرِّف جيلاً بالتدريج، وفي سلسلة متصلة. وتستمر المعتقدات والسلوكيات التي كانت تظهر وتصعد بفعل الشيء نفسه، ببساطة. وعلى سبيل المثال، يتسم جيل الألفية (1) بأنه بالغ الفردية، لكن الفردية كانت في ازدياد منذ أن ظهرت عندما جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية، (2) وعاش، ورحل. وقد أصبحتُ معتادة على الرسوم الخطية للاتجاهات الجيلية، التي تبدو أشبه بالتلال المنخفضة والوديان، ثم عكفتُ على دراسة الجيل الذي تنتمي إليه أثينا.
حول العام 2012، لاحظتُ تحولات في سلوكيات المراهقين وحالاتهم العاطفية. وأصبحت الانحناءات الخفيفة في الرسوم الخطية شديدة الانحدار ومليئة بالمهاوي، وشرعَت الكثير من الخصائص المميزة لجيل الألفية في الاختفاء. وفي كل تحليلاتي للبيانات الجيلية -والتي يعود البعض منها وراءً إلى الثلاثينيات- لم أرَ أبداً أي شيء يشبه ذلك.
جاذبية الاستقلال، التي كانت قوية جداً للأجيال السابقة، أصبح لها تأثير أقل على مراهقي اليوم.
في البداية، افترضت أن هذه ربما تكون طفرات، لكن الاتجاهات استمرت، عبر سنوات عدة وسلاسل من المسوحات الوطنية. ولم تكن التغييرات تتعلق بالدرجة فقط، وإنما في النوع أيضاً. وكان الفارق الأكبر بين جيل الألفية والأجيال التي سبقته هو الكيفية التي ينظرون بها إلى العالم؛ وأصبح المراهقون اليوم يختلفون عن جيل الألفية، ليس في وجهات نظرهم فحسب، وإنما في الكيفية التي يقضون بها الوقت. وأصبحت التجارب التي يختبرونها كل يوم مختلفة بشكل جذري عن تلك التي عاشها الجيل الذي نضج قبلهم ببضع سنوات فقط.
ما الذي حدث في العام 2012 ليتسبب بمثل هذه التحولات الدرامية في السلوك؟ كان ذلك بعد فترة “الركود العظيم” التي دامت -رسمياً- من العام 2007 وحتى 2009، وكانت لها آثار أكثر قتامة على جيل الألفية الذين يحاولون العثور على مكان لهم في اقتصاد أخرق. لكن تلك كانت بالضبط هي اللحظة التي تجاوز فيها عدد الأميركيين الذين يملكون هواتف ذكية نسبة الـ50 في المائة.
كلما استعرضتُ المسوحات السنوية لتوجهات المراهقين وسلوكياتهم، وكلما تحدثتُ مع الصغار مثل أثينا، أصبح أوضح لي أن جيلهم هو واحد شكلته الهواتف الذكية والصعود المصاحب لوسائل الإعلام الاجتماعية. وأنا أسميهم “جيل-الآي”.(3) وأفراد هذا الجيل، المولودون في الأعوام بين 1995 و2012، ينشؤون ويكبرون مع الهواتف الذكية، ويصبح لديهم حساب على “إنستغرام” قبل بدء المدرسة الثانوية، ولا يتذكرون زمناً قبل الإنترنت. وقد كبر جيل الألفية مع الشبكة أيضاً، لكنها لم تكن دائمة الحضور في حياتهم وفي متناول اليد كل الوقت، ليلاً ونهاراً. كان أكبر أبناء جيل “الآي” في أول المراهقة عندما تم إنتاج هاتف “الآي-فون”، في العام 2007، وكانوا طلاباً في المدارس الثانوية عندما دخلت الأجهزة اللوحية “آي-باد” المشهد في العام 2010. وقد وجد مسح أجري في العام 2017 على أكثر من 5.000 مراهق أميركي أن ثلاثة من كل أربعة يمتلكون جهاز “آي-فون”.
سرعان ما جاء في أعقاب قدوم الهاتف الذكي وابن عمه الجهاز اللوحي، “التابلت”، القلق من الآثار الضارة لما يُدعى “وقت الشاشة”. لكن أثر هذه الأجهزة لم يتم تقديره بالكامل، وهو يتجاوز المخاوف المعتادة من حجز الانتباه. فقد غيَّر وصول الهاتف الذكي بشكل جذري كل عنصر من عناصر حياة المراهقين، من طبيعة تفاعلاتهم الاجتماعية، إلى صحتهم العقلية. وأثرت هذه التغيرات على الشباب والشابات الصغار في كل زاوية من البلاد، وفي كل أنواع الأسر. وتظهر هذه الاتجاهات بين المراهقين من الفقراء والأغنياء؛ ومن كل خلفية عرقية؛ في المدن، والضواحي والبلدات الصغيرة. وحيثما توجد أبراج للهاتف الخلوي، هناك مراهقون يعيشون حياتهم على الهاتف الذكي.
لأولئك منا الذين يتذكرون بحنين مراهقة أكثر تناظراً، ربما يبدو هذا غريباً ومثيراً للقلق. ومع ذلك، فإن هدف الدراسة الجيلية ليس الخضوع للحنين إلى الطريقة التي كانت عليها الأمور؛ إنها تهدف إلى فهم الكيفية التي أصبحت عليها الأمور الآن. بعض التغيرات الجيلية إيجابي، وبعضها سلبي، والكثير منها خليط من الأمرين. فبعد أن أصبحوا أكثر راحة في غرف نومهم بدل أن يكونوا في السيارة أو في حفلة، أصبح مراهقو اليوم أكثر أمناً من الناحية الجسدية مما كان عليه نظراؤهم في أي وقت مضى. إنهم أقل احتمالاً بشكل مدهش للتعرض إلى حادث سيارة، وهم أقل عرضة -وقد أصبح لديهم ميل أقل للكحول من الذين سبقوهم- لمعاناة العلل المصاحبة للشرب.
لكنهم، نفسياً، أكثر هشاشة مما كان أبناء جيل الألفية: فقد حلقت معدلات اكتئاب المراهقة وحوادث الانتحار منذ العام 2011. وليس من المبالغة وصف “جيل الآي”، بأنه على حافة أسوأ أزمة للصحة العقلية في عقود. ويمكن تعقب الكثير من هذا التدهور إلى هواتفهم الذكية.
وحتى عندما يلعب حدث زلزالي –حرب، طفرة تقنية، أو تغيير جذري في الثقافة- دوراً ضخماً في تشكيل نمط مجموعة من الشبان، فإنه ليس هناك عامل مفرد على الإطلاق يمكن أن يعرِّف جيلاً. فأنماط الأبوة والأمومة تستمر في التغير، وكذلك تفعل المناهج المدرسية والثقافة، وهذه الأشياء كلها تهُم. لكن الصعود التوأم للهاتف الذكي ووسائط الإعلام الاجتماعية تسبب بزلزلال من حجم لم نر له مثيلاً منذ وقت طويل جداً، إذا كنا قد شاهدناه أصلاً. وهناك أدلة دامغة على أن الأجهزة التي وضعناها في أيدي الشباب تمارس تأثيراً هائلاً على حياتهم -وتجعلهم غير سعيدين بشكل جدّي وخطير.
في أوائل السبعينيات، التقط المصور بيل ييتس سلسلة من الصور في حلبة للتزلج على الجليد في تامبا بولاية فلوريدا. وفي إحداها، يقف مراهق بلا قميص بزجاجة كبيرة من “ليكير النعناع” معلقة في حزام سرواله الجنيز. وفي صورة أخرى، يقف صبي يبدو أن عمره لا يتجاوز 12 عاماً وفي فمه سيجارة. كانت تلك الحلبة مكاناً حيث يستطيع الأولاد الهروب من آبائهم ويقطنون عالماً خاصاً بهم، عالماً حيث يستطيعون شرب الكحول، والتدخين، وممارسة الجنس في مقاعد سياراتهم الخلفية. وفي صور صارخة بالأبيض والأسود، يحدق أبناء ذلك الجيل في كاميرا ييتس بثقة في النفس، ولِدت من اتخاذ المرء خياراته الخاصة –حتى، وربما بالتحيد حتى- إذا كان والداكَ لا يعتقدان أنهما الطرف المحق.
بعد 15 عاماً من ذلك، خلال سنوات مراهقتي كعضو في “الجيل إكس”، (4) فقدت تجربة التدخين بعضاً من رومانسيتها، لكن شعور الاستقلال كان بالتأكيد ما يزال حاضراً. كنا، أصدقائي وأنا، نخطط لنحصل على رخصة قيادة السيارة بأسرع وقت ممكن، ونحدد موعد الاختبار في دائرة السير في اليوم الذي نبلغ فيه 16 عاماً، ونستخدم حريتنا المكتشفة حديثاً للهرب من حدود ضواحينا. وعندما كان أهلنا يسألوننا: “متى ستعود إلى البيت؟”، كنا نجيب بسؤال: “متى يجب أن أعود؟”.
لكن جاذبية الاستقلال، التي كانت بالغة القوة في الأجيال السابقة، أصبحت أقل تأثيراً على مراهقي اليوم، الذين أصبحوا أقل احتمالاً لمغادرة البيت من دون والدَيهم. والتغير مدهش: كان أبناء الصف الثاني في العام 2015 يخرجون مرات أقل من أبناء الصف الثامن في زمن مثل العام 2009؟
اليوم، أصبح المراهقون أيضاً أقل احتمالاً لتجربة مواعدة الجنس الآخر. والمرحلة الأولى من التودد، التي كان أبناء جيل X يسمونها “الميل” (من قَبيل: “أوه، إنه يميل إليك”!) أصبح الأولاد يسموها اليوم “التحادُث” -وهي اختبار منطوٍ على مفارقة لجيل يفضل التراسل النصي على تبادل الحديث الفعلي. وبعد أن “يتحادث” اثنان من المراهقين لفترة، فإنهما ربما يشرعان في المواعدة. ولكن 56 في المائة فقط من طلبة نهاية المرحلة الثانوية يخرجون في مواعدات في العام 2015، بينما كانت النسبة في جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية وجيل X نحو 85 في المائة.
ترافق تراجع المواعدة مع تراجع في النشاط الجنسي. والانخفاض الأكثر حدة بين طلبة الصف الحادي عشر، الذين انخفضت نسبة المراهقين الناشطين جنسياً بينهم بحوالي 40 في المائة منذ العام 1991. والآن، أصبح المراهق المتوسط يمارس الجنس لأول مرة بحلول ربيع الصف الحادي عشر، بعد سنة كاملة من المراهق المتوسط في “جيل X”. وقد أسهمت ممارسة عدد أقل من المراهقين الأميركيين للجنس في ما يراه البعض من أكثر.

جين م. توينغ

صحيفة الغد