كانت روسيا، ولعقود طويلة، مركزا لولادة أبطال عالميين كبار في لعبة الشطرنج مثل كاربوف وكرامنيك وكاسباروف، ومن الأمور الشديدة الدلالة أن الأخير انتقل، بسهولة، من عالم تلك اللعبة الذهنية المعقدة إلى شطرنج السياسة الروسية والعالمية حيث أسس حركة حزبية معارضة وحاول المشاركة في الانتخابات الرئاسية عام 2008، وما زال ناشطا حقوقيا شرسا ضد نظام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
على خلفية القرار الأمريكي بإلغاء الاتفاق النووي مع إيران، والعمل على الحد من تدخّلات طهران في المنطقة العربية، ووضع مجموعة شروط قاسية عليها، وفرض عقوبات متزايدة ضدها، قامت روسيا بعدة «نقلات» شطرنج سياسية في الفترة الأخيرة جديرة بالقراءة والتفحّص، بدءاً من أماكن صدورها في روسيا نفسها، مروراً بلقاء بوتين مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وبعده لقاؤه (أو بالأحرى استدعاؤه) الرئيس السوري بشار الأسد إلى سوتشي، متبوعا بلقاء الأسد، في دمشق هذه المرة، بممثل بوتين للشأن السوري ألكسندر لافرينتيف، وبين هذه اللقاءات هناك الغارات الإسرائيلية المتكررة على وحدات عسكرية تابعة لإيران في سوريا، والمحاولة اليتيمة للرد عبر إطلاق إيران 20 صاروخا نحو الجولان.
ترتبط هذه النقلات، بداية، بانتقال الملف السوري في روسيا، مع بدء التدخل العسكري الروسي عام 2015، من الخارجية الروسية، إلى وزارة الدفاع وأجهزة الأمن. لا تغيّر هذه النقلة حقيقة أن القرار الأخير في موسكو هو للرئيس بوتين شخصياً، لكنّها تبيّن طرق تأويل الجهتين، الخارجية والدفاع، لما يريده الرئيس، وعلى ضوء هذه المسألة يمكن، في خصوص إيران، فهم حدود ومقاصد التصريحات الدبلوماسية التي تصدر عن وزير الخارجية سيرغي لافروف، ومساعده ميخائيل بوغدانوف (الذي قال أمس إن على النظام السوري اتخاذ قرار بشأن القوات الأجنبية)، ترجمة لتصريح بوتين قبل قرابة أسبوع للأسد أن «على كافة القوات الأجنبية» الانسحاب من سوريا، بينما قام لافرنتييف (مندوب بوتين من وزارة الدفاع) بترجمة أكثر صراحة وعنفا حين وضح أن تصريح رئيسه «قصد كافة الوحدات العسكرية الأجنبية في سوريا بما فيها الأمريكيون والأتراك وحزب الله وبالطبع الإيرانيون».
تبيّن هذه التصريحات (وكذلك «الامتناع عن التعليق» على غارات إسرائيل على الوحدات الإيرانية في سوريا) أن روسيا تضغط بوضوح على رأس النظام السوري للطلب من إيران إخراج قواتها (والميليشيات اللبنانية والعراقية والأفغانية التابعة لها) من سوريا، أو أنها، بالأحرى، تبلغه قرارها الواجب التنفيذ.
أما انسحاب القوات الإيرانية من جنوب سوريا، من جهة أخرى، فيعني إما أن النظام قد طلب من الإيرانيين الانسحاب فعلا (وهو أمر مشكوك فيه لما لإيران من حظوة وقوى ضاربة زرعتها على مدار عقود داخل النظام نفسه)، أو أن الإيرانيين يريدون تخفيف وطأة الضغط عليهم عبر استرضاء الطرف الأكثر تطلبا وشراسة في المعادلة: إسرائيل.
على الرقعة العالمية، اشتغلت روسيا على خطّين، الأول يترك الباب مفتوحا لتفاهمات عالمية وإقليمية كبرى مع الولايات المتحدة الأمريكية، تمتد من كوريا الشمالية وأوكرانيا وحدود أوروبا إلى سوريا، والثاني يتابع أشكالا عديدة من التحدي والاستفزاز العسكري والسياسي والإعلامي والحروب الرقمية، فكلما اتسعت حدود المعارك (والتفاهمات) كلّما كانت المكاسب الاستراتيجية أكبر، وإلا فإن المعارك ستصل إلى روسيا نفسها وربما إلى نقلة كبرى، كما حصل عند انفراط الاتحاد السوفييتي، تؤدي إلى «كش ملك» تاريخية!
القدس العربي