في مثل هذه الأيام من العام 1944 احتشدت أرصفة الشانزيليزيه، في قلب باريس، بعشرات الآلاف من المواطنين الذين تقاطروا للاحتفال بتحرير العاصمة من الاحتلال النازي، وتحية الجنرال ديغول الذي قطع الجادة الشهيرة سيراً على الأقدام. والتاريخ يسجّل أنّ المناسبات الوطنية الفرنسية التي شهدت حشوداً أكبر لم تكن نادرة فقط، بل تكاد تقتصر على احتفالين في الواقع، هما فوز فرنسا بكأس العالم في سنة 1998، وتكرار الفوز بالكأس هذه السنة أيضاً.
ولعل العنصر الأول الجدير بالاستذكار والتسجيل مجدداً هو حقيقة أن منتخب كرة القدم الوطني الفرنسي كان في سنة 1998 متعدد الأعراق، يضمّ لاعبين من أصول مختلفة، أشهرهم زين الدين زيدان الذي تعود أصول أسرته إلى الجزائر. وهذه السنة كان لاعبو فرنسا الثلاثة والعشرون ينحدرون، لجهة الأب أو الأم، إلى الجزائر والمغرب وأنغولا والكونغو وغينيا والكاميرون ومالي وموريتانيا والسنغال وتوغو وغواديلوب والمارتينيك والفليبين وهاييتي، بالإضافة إلى ألمانيا والبرتغال وإسبانيا.
وقد يقول قائل إن هذا التعدد في الأعراق ليس سوى مآل طبيعي لتواريخ الاستعمار الفرنسي، ومعظم هؤلاء اللاعبين هم من أبناء المستعمرات السابقة، وليس وجودهم في الفريق الوطني سوى تحصيل حاصل. وهذه خلاصة صحيحة من حيث الشكل، لكنها لا تعكس إلا بعداً واحداً من الحقائق الكثيرة في حكاية النجاح التي شهدتها كرة القدم الفرنسية خلال العقدين المنصرمين. وقد تكون الحقيقة الأهم هي أن الديمقراطية الفرنسية، وأياً كانت المظان ضدها، نجحت في إعلاء شأن القيم الجمهورية وحقوق المواطن وحس الانتماء الوطني، بمعزل عن تناحر الهويات وصدام الأصول.
كذلك إذا صح القول بأن مناسبات الأفراح الكبرى على غرار الفوز بكأس العالم يمكن أن تخلق مشاعر التلاحم الوطني الجماعي وسرعان ما تبهت أو تضعف، فمن الصحيح في المقابل أنها تترك تأثيرات سياسية وتربوية وسلوكية وثقافية بعيدة المدى، لا تخمد بسهولة بل تستقر عميقاً في الوجدان الوطني. الدليل على ذلك أنّ اليمين المتطرف الفرنسي سخر في سنة 1998 من «ألوان» الفريق وعدّها غريبة عن «جوهر فرنسا»، ولكن اليمين ذاته يسارع اليوم إلى مباركتها والتهليل لها، وهذا تطوّر لا يقتصر على القيادات وحدها وإنما يشمل شرائح غير قليلة من القواعد أيضاً.
وبالطبع، هناك الكثير الذي قيل وسيظل يقال عن ارتباط الرياضة بالسياسة، خاصة في لعبة كونية ساحرة مثل كرة القدم، ولهذا يصح هنا الافتراض بأن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد يكون أحد أبرز الرابحين من تنظيم كأس 2018. ولكن، في المقابل، كيف يمكن للمراقب المنصف أن يضع على قدم المساواة أي تسييس أنطوى عليه حماس الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لمنتخب بلاده، مع ذاك الذي خضع له لاعبو مصر أو السعودية من جانب أجهزة عبد الفتاح السيسي ومحمد بن سلمان؟ وأي فارق كبير بين رياضة تترعرع في ظلّ الديمقراطية والمواطنة والحقوق فتكون مبادئها هي رافعة كأس العالم، وأخرى تعيش تحت نير الاستبداد والفساد وسطوة النظام فلا تخرج إلا من الباحات الخلفية.
القدس العربي