يشكّل السوريون ما يقرب من ثلث جميع اللاجئين في العالم، وتستضيف تركيا63.4% منهم، أي 3,570,352 شخصاً. ويمثّل هذا العدد، الذي تم انتقاؤه الشهر الماضي من إحصائيات تم تحديثها بشكل دوري من قبل “المفوض السامي للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين”، زيادةً بنسبة4.2% في عدد سكان تركيا لعام 2017 البالغ 81,745,000 نسمة. لذا، تتطلّب هذه الإضافة الكبيرة الفجائية إجراء تحليل أكثر عمقاً لما يحدثه السوريون النازحون من آثار ديموغرافية واقتصادية واجتماعية وسياسية على المجتمع التركي.
التأثير الديموغرافي
يُعدّ تدفق اللاجئين السوريين بين عامي 2011 و2017 التحوّل الديموغرافي الأهم في تركيا منذ “التبادل السكاني” مع اليونان بين عامي1923 و1924. فقد فتحت الحكومة التركية أبوابها أمام الناس للهروب من وحشية نظام الأسد في نيسان/أبريل 2011، مما أسفر عن فرار مليون شخص عبر الحدود بحلول أيلول/سبتمبر 2014. وبعد مرور عام، تضاعف العدد إلى مليوني شخص، ليبلغ ثلاثة ملايين في عام 2017. ووفقاً للأمم المتحدة، فإنّ 1,926,987 من هؤلاء السوريين هم من الذكور و1,627,085 من الإناث، وهناك أكثر من مليون لاجئ دون سن العاشرة.
وفي الوقت الحالي، أصبحت الغالبية الساحقة من اللاجئين (أي 3,554,072 فرداً) مختلطةً مع السكان الأتراك، في حين يتم إيواء 212,816 لاجئ في المخيمات. ويتركز حوالي 2.8 مليون منهم في إثني عشر محافظة من أصل واحد وثمانين، وهي: أضنة، وبورصة، وغازي عنتاب، وهاتاي، واسطنبول، وإزمير، وكهرمان ماراس، وكيليس، وقونية، وماردين، ومرسين، وسانليورفا.
وتضم اسطنبول العدد الأكبر من اللاجئين:563,015 لاجئاً، أي3.6% من إجمالي سكان المحافظة لعام 2017. وفي المقابل، تستضيف ثماني محافظات جنوبية حوالي 57% منهم، حيث يكتسي الأثر الديموغرافي هناك أهميةً خاصة. كما يشكّل السوريون الهاربون 19.3% من سكان سانليورفا (474,077,لاجئاً) و21.2% من سكان هاتاي (443,871) و16.1% في غازي عنتاب (385,541) و10.4% من مرسين (208,687) ونسبةً هائلة تبلغ 49% من سكان محافظة كيليس الصغيرة (131,261).
وفي مقاطعات أخرى، تستضيف ثلاث محافظات صناعية – هي قونية وقيصري في وسط تركيا، وأزمير على طول الساحل الغربي – أعداداً كبيرة من اللاجئين، ولكن الأثر السكاني المحلي أقل بكثير من حيث النسبة المئوية. ففي إزمير، يمثل 137,612 لاجئاً 3.1% من عدد سكان المحافظة، في حين تستضيف قونية104,431 لاجئاً (4.6%)، وقيصري 74,601 (5.4%). ومجتمعةً، تستضيف أكبر ثلاث محافظات في تركيا – أنقرة (73,016 لاجئاً، أي1.3% من سكانها)، واسطنبول وإزمير – ما يقارب 22% من اللاجئين.
الأثر العرقي
على الرغم من أن الكثير من هذه الأعداد قد تبدو صغيرةً مقابل مجموع سكان تركيا، يُحدث اللاجئون أثراً كبيراً على التكوين العرقي لبعض المحافظات، لا سيّما المناطق التركية والكردية والعربية المختلطة بالقرب من الحدود السورية. وهذه المحافظات ليست هامشية من الناحية الديموغرافية، إذ إن غازي عنتاب وهاتاي وكهرمان ماراس وكيليس وماردين وسانليورفا هي موطن أكثر من 10.6% من سكان البلاد، كما تُعد عاصمة غازي عنتاب ثامن أكبر مدينة في تركيا.
ولم تجمع الحكومة بيانات عن الأصول العرقية للمواطنين منذ تعداد النفوس عام 1960. وفي ذلك الوقت، كان العرب (الذين يُعرَّفون بأن لغتهم الأم هي العربية) يشكلون1.25% فقط من مجموع السكان، حيث انتشرت النسبة الأكبر منهم في ثلاث محافظات جنوبية هي: هاتاي (34%) وماردين (21%) وسانليورفا (13%). وتشير بيانات أخرى إلى أن الرقم الوطني لم يتغير كثيراً على مر العقود. فعلى سبيل المثال، تبيّن في استطلاع وطني أجرته مؤسسة “كوندا” عام 2007 أن1.38% من المجيبين أعلنوا أن لغتهم الأم هي العربية. ومع ذلك، فإن التدفق الساحق للاجئين العرب السنّة من البلدان المجاورة قد أحدث تغييرات جذرية في المحافظات الجنوبية ذات الكثافة السكانية العربية الأكبر.
واليوم، يشكّل اللاجئون والمواطنون الناطقون باللغة العربية 56% من سكان هاتاي، مما يجعلها أول محافظة ذات أغلبية عربية في تركيا. وفي حين سيطر العلويّون على مجتمع هاتاي العربي قبل الحرب، فإن تدفق اللاجئين جعل المجتمعات العربية السنية والعلوية متساويةً في الحجم. وعلى نحو مماثل، كانت نسبة السكان العرب في مدينة كيليس تقل عن 1%، ولكن من المنتظر الآن أن تصبح ثاني أكبر محافظة عربية في تركيا. وفي هذا الصدد، أفادت بعض التقارير أن السكان العرب قد حققوا قفزات كبيرة في عدد السكان في ماردين (من 21% إلى 31.2%) وفي سانليورفا (من 13% إلى 32.3%).
معوّقات الاندماج
من عام 2011 حتى عام 2016، حافظت أنقرة على سياسة الباب المفتوح من خلال قبول اللاجئين السوريين المشمولين بنظام “الحماية المؤقتة” بشكل قانوني. ويستند هذا النظام، الذي أنشأته “المديرية العامة لإدارة الهجرة” (GIGM) في تشرين الثاني/نوفمبر 2014، على ثلاثة مبادئ: تُبقي تركيا حدودها مفتوحةً أمام الأشخاص الذين يلتمسون الأمان؛ ولن يتم إرسال أي أفراد من سوريا إلى ديارهم ضد إرادتهم؛ وسوف تتم تلبية الاحتياجات الإنسانية الأساسية للأشخاص الفارين من الحرب.
وفي حين أن الحماية المؤقتة هي إجراء إنساني غير سياسي، إلّا أن “المديرية العامة لإدارة الهجرة” تفرض العديد من المتطلبات والقيود البيروقراطية. فلدى اللاجئين مهلة زمنية محددة للحصول على بطاقات تعريف خاصة بالحماية المؤقتة، ولا تُعتبر هذه البطاقات بمثابة تصاريح إقامة أو تصاريح عمل. بالإضافة إلى ذلك، ففي مقال نشره “معهد صحافة الحرب والسلام” عام 2015، كتب عمر يوسف أنه يجب على السوريين التقدم بطلب للحصول على تصريح إقامة مؤقت من أجل التنقل بحرية داخل تركيا، غير أنّ الحصول على هذا التصريح يتطلب جواز سفر ساري المفعول (لم يعد يملكه العديد من اللاجئين) وتأمين صحي تركي (بتكلفة لا تقل عن 300 دولار سنوياً) وحساب مصرفي يحتوي على ما لا يقل عن $6,000 (مبلغ باهظ لمعظمهم). وتنطبق هذه القيود على أي مهاجر غير شرعي، وليس على السوريين فقط.
واليوم، يبلغ عدد اللاجئين الذين يملكون تصاريح إقامة تركية 712,218 فقط، حيث يقيم 347,297 منهم في اسطنبول. ووفقاً للصحفي محمد بارودي، “غضت الحكومة الطرف” في البداية عن اللاجئين غير المسجّلين الذين تجاوزوا مهلة الثلاثة أشهر التي حددها القانون في كانون الثاني/يناير 2015، والتي استباحها العديد من السوريين من خلال الخروج من تركيا والعودة إليها. ومع ذلك، أدّت هذه الزيادة الهائلة في عدد الوافدين إلى دفع الحكومة في النهاية إلى فرض التقيّد بالمهلة المحددة كوسيلة لحثّ السوريين على التسجيل للحصول على تصاريح إقامة ومعالجة المخاوف الأمنية المحتملة.
أما بالنسبة لتصاريح العمل، فلم يتمكن سوى56,024 سورياً من الحصول عليها اعتباراً من عام 2017. وقد استحدثت تركيا نظام التصاريح في أوائل عام 2016 لمساعدة اللاجئين على الاعتماد على أنفسهم وإعفاء أنقرة من العبء المالي الناجم عن إيوائهم، غير أنّ الحواجز القانونية منعت أصحاب العمل من توظيفهم بأعداد كبيرة. فعلى سبيل المثال، قبل التعاقد مع لاجئ سوري، يخضع أصحاب العمل لفترة انتظار أمدها أربعة أسابيع، يتعيّن عليهم خلالها أن يدعموا بالوثائق عدم وجود مواطن تركي يتمتّع بمهارات متساوية لملء المنصب [الشاغر]. كما ينص القانون على أنه لا يمكن للسوريين الخاضعين للحماية المؤقتة أن يتجاوزوا نسبة 10% من القوة العاملة في أي شركة. علاوةً على ذلك، لا يستطيع اللاجئون إلا التقدم بطلب للحصول على وظائف في المحافظات التي هم مسجّلين فيها – وهو شرط يؤدي إلى إحداث تنافس قوي على صعيد العمل الرسمي لأن حوالى 78% منهم يتمركزون في 12 محافظة.
في هذا الإطار، يُسمح لبعض أرباب العمل في مجال الزراعة وتربية الحيوانات بتوظيف السوريين المشمولين بالحماية المؤقتة كعمال موسميين دون تقديم طلبات للحصول على تصاريح عمل. غير أن الكثير من المهن الأخرى مغلقة تماماً أمام السوريين، مثل طب الأسنان، والصيدلة، والطب البيطري، والعمل القانوني، وأعمال التوثيق، والأمن، والسمسرة الجمركية. وبالنظر إلى كافة هذه القيود، يشارك حالياً أقل من 1% من السوريين ممن هم في سن العمل في سوق العمل الرسمي لتركيا. فالأغلبية الساحقة “تفضل الاقتصاد غير الرسمي بسبب التكاليف المرتبطة بالحصول على تصاريح العمل”، كما كشف أحد المسؤولين في وزارة العمل خلال اجتماع عُقد مؤخراً في هاتاي.
وفي تموز/يوليو 2017، وصف عمر كادكوي من “مؤسسة أبحاث السياسات الاقتصادية في تركيا” (“تيباف”) في اسطنبول كيف أن “صدمة العرض” في سوق العمل قد ضربت جنوب شرق تركيا بشكل خاص، مما أدّى إلى “منافسة شديدة على الوظائف التي تتطلب مهارات متدنية”. أما بالنسبة إلى المواطنين المحليين، فقد ازداد معدل البطالة بينهم، خاصة في صفوف النساء والشباب. أمّا بالنسبة إلى اللاجئين، فيميل أرباب العمل إلى تقييدهم “بالعمل المرن” غير الرسمي، مشيرين إلى قلقهم إزاء “ضعف مهاراتهم اللغوية، ونقص المهارات المهنية وثقافة العمل غير المتوافقة”. ونتيجةً لذلك، فإن طالبي اللجوء السوريين الذين يتمكنون من العثور على عمل غالباً ما يحصلون على أقل من الحد الأدنى للأجور ويعملون لفترات أطول وفي ظل ظروف غير لائقة، في حين يتجنب أرباب العمل أقساط التأمين الاجتماعي ورسوم تصاريح العمل.
احتمالات التجنيس
في نيسان/أبريل 2013، وافقت تركيا على “قانون الأجانب والحماية الدولية” الشامل والمستوحى من “مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين”، الذي أعاد التزام البلاد بتزويد اللاجئين بالاحتياجات الإنسانية الأساسية وقام بإنشاء هيئة حكومية جديدة لإجراءات اللجوء، وهي “المديرية العامة لإدارة الهجرة” المذكورة آنفاً. ومع ذلك، لم يُشرع في عملية تسجيل العدد المتزايد باطراد من السوريين إلاّ بحلول عام 2014. وحتى في ذلك الوقت، لم يكن النظام شاملاً أو فعالاً بما يكفي لمواكبة التدفق السريع النمو. وبالتالي، لا يزال معظم اللاجئين غير المقيمين في المخيمات غير مسجلين وغير معروفين.
وفي الوقت نفسه، اعتمدت الحكومة قانوناً جديداً للجنسية التركية في أيار/مايو 2009 يسمح للاجئين بتقديم طلب للحصول على الجنسية إذا كانوا قد عاشوا في البلاد لمدة “خمس سنوات بلا انقطاع” (هناك متطلبات أخرى للقانون، ولكن في واقع الأمر، تتلخص العملية في معيار الخمس سنوات). ولكي يثبت اللاجئون أنهم استوفوا هذا الشرط، يجب أن يوفروا محل إقامة قانوني أو تصاريح مؤرخة بشكل مناسب. ويمكن الحصول على الوضع القانوني لمحل الإقامة عن طريق التقدم بطلب إلى مكتب حاكم المحافظة خلال الأيام العشرة الأولى من دخول تركيا.
إن العديد من اللاجئين، الذين تقدموا بطلبات للحصول على هذه الوثائق لدى وصولهم، قد استوفوا شرط الخمس سنوات وأصبحوا مؤهلين الآن لأن يصبحوا مواطنين أتراك. فمنذ عام 2011، حصل55,583 سورياً على الجنسية بشكل رسمي، من بينهم حوالي 25,000 شخص تحت سن الثامنة عشرة. إلّا أن هذا العدد يُعتبر ضئيلاً حينما ينظر المرء إلى أن 276,158 طفلاً قد وُلدوا لأبوين من لاجئين في تركيا بين نيسان/أبريل 2011 ونهاية عام 2017 (على خلاف الولايات المتحدة، لا تمنح تركيا الجنسية تلقائياً للأطفال المولودين على أراضيها؛ يجب أن يكون أحد والديهم على الأقل مواطن أولاً). ويشير هذا العدد الضئيل إلى أن الحكومة التركية قد لا تكون راغبةً في التعجيل [بمعالجة] طلبات التجنس الخاصة بالسوريين؛ كما قد يلوّح بأن العديد من السوريين يترددون في السعي للحصول على الجنسية التركية لأنهم يعتقدون أنها قد تعرض هدفهم بالعودة إلى بلادهم يوماً ما إلى الخطر.
الخاتمة
في حين قامت أنقرة بعمل جيد في استقبال نحو 3.6 مليون سوري وتلبية احتياجاتهم الأساسية، إلّا أن جهود دمجهم مع السكان المحليين جاءت متأخرةً، مما يشير إلى أن تركيا لا تزال تهدف إلى إعادتهم إلى سوريا. كما سبق وأن قامت الحكومة بنقل ما يقرب من 150,000لاجئ إلى المنطقة الآمنة التي تسيطر عليها تركيا في شمال سوريا. وفي المرحلة القادمة، قد ترغب أنقرة في الموافقة ضمنياً على حل سياسي ينهي الحرب ويمهّد الطريق أمام عودة المزيد من السوريين إلى بلادهم. فالمسؤولون الأتراك يتسامحون أساساً مع سيطرة نظام الأسد على السلطة حتى عندما يقولون عكس ذلك في العلن. وفي النهاية، فإن أعداداً كبيرة من هؤلاء اللاجئين قد عارضوا نظام الأسد، ويبقى أن نرى لأي عدد منهم سوف تسمح دمشق بالعودة إليها.