شهدت ولاية بتليس التركية أمس الأحد فعالية شارك فيها الرئيس رجب طيب إردوغان بنفسه إحياء للذكرى الـ947 لمعركة ملاذكرد التي تمكن فيها السلطان السلجوقي ألب أرسلان من هزيمة جيش بيزنطي كبير وتمكن من أسر الإمبراطور رومانوس ديجانوس، الامر الذي فتح الطريق أمام الأتراك للانتشار في آسيا الصغرى التي باتت تعرف حاليا باسم تركيا.
كان لافتا في خطاب إردوغان بالمناسبة قوله إن «تركيا ليست بقعة جغرافية داخل حدودها» وأنها «سد شامخ لو انهار لن تبقى إفريقيا والشرق الأوسط وآسيا الوسطى والبلقان والقوقاز على حالها»، وهذه الأقوال تحمل رسالتين متناظرتين، تحاول الأولى أن تؤكد حقيقة جغرافية سياسية ودينية راسخة أدى إليها سقوط الإمبراطورية البيزنطية وكانت نتيجتها ظهور السلطنة العثمانية وبعدها تركيا الحديثة، والثانية تريد استخدام هذا الرأسمال الرمزي التاريخي لمعركة ملاذكرد لتحشيد الأتراك والمسلمين لمواجهة التحدّي المعاصر الذي تعيشه تركيا، مع إبدال الإمبراطورية البيزنطية، بأعداء كثيرين، تقف الولايات المتحدة الأمريكية وإدارة رئيسها دونالد ترامب على رأس هؤلاء حاليا.
ورغم الطابع الديني الذي يفترض أن تحمله هذه المعركة فإن مقصودات السياسة التركية الحالية تتجاوز هذا الطابع (الموجّه لجمهورها العام التركي) بالتأكيد، فالأزمة التي تواجهها تركيا مع إدارة ترامب الأمريكية جعلت أنقرة تتقرّب من أوروبا وروسيا (المسيحيّتين)، رغم أن الأتراك خاضوا في تاريخهم عشرات الحروب السابقة ضد هاتين المنطقتين، وما تزال آثار هذه الحروب موجودة وبعضها معاصر، كما حصل في ضم روسيا قبل سنوات لشبه جزيرة القرم التي كانت يسكنها التتار الأتراك المسلمون والتي كانت جزءاً من الإمبراطورية العثمانية، وفي علاقة تركيا القديمة بالقوقاز والشيشان، كما يحتفظ الأتراك بذكريات مريرة لمحاولة أوروبا احتلال بلادهم وتقسيمها خلال الحرب العالمية الأولى.
أهمّية ملاذكرد عملياً في أنها كانت نقطة تأسيسية في تاريخ الأمم التركية التي تمتد على مساحة هائلة في آسيا الكبرى والصغرى، وكانت نقلة كبرى في تاريخ العالم، أوقفت إلى ما يقرب من ألف عام الخطر البرّي والبحري القادم من سهوب أوروبا، وهو ما كلّف جيوش التحالف المهاجمة لتركيا في الحرب الكونية الأولى هزيمة أدت لمقتل 55 ألف جندي وسقوط مئات آلاف الجرحى في حملة الدردنيل، وكان أن التفّ الحلفاء على تركيا من المشرق العربيّ فاحتلوا العراق وفلسطين وسوريا، وهو ما أسس لأغلب المآسي العربية والإسلامية اللاحقة.
لقد حلم كثيرون من الساسة والمؤرخين أن تؤدي العولمة إلى تقارب الأمم والأديان والحضارات، ولكنّ ما نراه حاليا في أمريكا وأوروبا وحتى في الهند والصين وميانمار، هو صعود هائل للعنصريّات المؤسسة على الأديان والقوميّات، والمؤسف أن المسلمين يدفعون في مشارق الأرض ومغاربها الثمن الأكبر لهذه العنصريات، وهو ما يدفعهم، بالضرورة، إلى استدعاء أحداث تاريخية كملاذكرد لتذكيرهم بدورهم العظيم السابق، إضافة إلى تذكيرهم أيضاً بتشتتهم الحالي وحصارهم لبعضهم البعض وتنافسهم في خدمة الأجنبي الذي يستغلهم ويسخر منهم.
ما المقصود من الاحتفال التركي بمعركة الانتصار على البيزنطيين؟
القدس العربي