خلال السنوات العشر الماضية تقريباً، كان القادة في واشنطن مترددين في تحمل العبء الذي يفرضه وضع الولايات المتحدة باعتبارها القوة المهيمنة في الشرق الأوسط. ومع ذلك، لم يستند هذا القرار بالرجوع أو التراجع عن انخراط الولايات المتحدة في المنطقة على أي شكل من أشكال الحكم السليم والمنطق المحسوس، وإنما تأسس على التردد والخمول في سياسات واشنطن الشرق أوسطية. وفي هذه اللحظة سيئة التعريف، تبدو إدارة ترامب غير واثقة إزاء ما تريد وما هو المهم بالنسبة لها، وهو ركود يجعل الشرق الأوسط يمر بمرحلة إعادة تشكيل. وفي حين أن الأسئلة المتعلقة بالصراع الدائر في سورية وآفاق التوصل إلى سلام فلسطيني-إسرائيلي تبقى بلا إجابات في واشنطن، دخل لاعبون إقليميون جدد إلى المسرح، وتشكلت تحالفات جديدة كنتيجة للغياب الأميركي.
تشكل إعادة التشكُّل الجارية في الشرق الأوسط إرثاً مشتركاً لباراك أوباما ودونالد ترامب. وقد ظلت الرسالة التي تم إعلانها خلال حقبة أوباما والرسالة التي نراها حالياً هي نفسها: إذا كان أصدقاء أميركا في المنطقة يرغبون في تحقيق الأمن الجيوسياسي، وتعزيز السلام، وبلوغ مستوى جديد من الاستقرار، فمن الأفضل أن يحاولوا حل مشاكلهم بأنفسهم بدلاً من الانتظار بلا عمل حتى تقدم لهم واشنطن الحلول. وفي الحقيقة، ظهر هذا الاتجاه لإعادة التمحور الأميركي بوضوح كبير في العام 2013، بقرار أوباما عدم إنفاذ “الخط الأحمر” المفترض ضد استخدام الرئيس السوري بشار الأسد الأسلحة الكيميائية. وقد آذن ذلك ببداية عملية بسط نفوذ روسيا البطيء، وإنما المتزايد في الصراع السوري، مع قرار ترك فجوة كان الرئيس بوتين سريعاً إلى ملئها.
على الرغم من آمال الكثيرين بأن ترامب -كشخص خارجي، وبروابط قليلة مع مؤسسة السياسة الخارجية- سوف يضخ مقاربة جديدة ومستنيرة وبراغماتية في السياسة الأميركية الخاصة بالمنطقة، من أجل استعادة وضع الولايات المتحدة باعتبارها القوة المهيمنة، فإن عملية إعادة موازنة القوى لصالح روسيا، والتي كانت قد بدأها أوباما، تكثفت فقط منذ ذلك الحين. وكان ترامب قد تسابق إلى المنصب على ظهر إعلان أنه سيتخذ موقفاً أكثر حذراً وأقل تدخلية تجاه الشرق الأوسط، وأنه سيتبنى نهجاً أكثر نزاهة وتعقلاً إزاء قضية إسرائيل وفلسطين، وسوف يتجنب توريط الولايات المتحدة في حروب لا تنتهي. ومع ذلك، ولدى تولي سدة الرئاسة، كان تطبيق أهداف الحملة هذه -باستثناء القتال ضد “داعش”- مشوشاً ومرتبكاً: فقد ظل ترامب متردداً وغير حاسم فيما بتعلق بالعمل الأميركي في الصراع السوري من خلال توجيه ضرباته الصاروخية إلى ذلك البلد، وإقلاق التوازن الخاص بالتوصل إلى اتفاق سلام فلسطيني-إسرائيلي، كما هدد بالحرب مع إيران.
يعرض الصراع في سورية أوضح مثال على تكوُّن نظام إقليمي ما-بعد-أميركي في الشرق الأوسط. ويشكل عدم التنظيم في سياسة واشنطن السورية مؤشراً على فشلها في تحديد دور جديد لنفسها في النظام السياسي العالمي، كما دلت على ذلك العملية العسكرية ضد الأسد في نيسان (إبريل) 2018. وعلى الرغم من الرسالة التي قصدت الولايات المتحدة وحلفاؤها في باريس ولندن إرسالها إلى النظام السوري، فقد حققت العملية القليل، وكشفت لقادة العالم أن ترامب لا يمتلك استراتيجية سورية. وهكذا، وبالنظر إلى هذا العجز عن تقرير أي دور هو الذي تريد الولايات المتحدة أن تلعبه، شرع الآخرون في ملء الفراغ. وقد استفادت القيادات في موسكو وطهران من هذا التقاعس الأميركي، وأصبحت تنظر إلى توسيع نفوذها في سورية على أنه لا يتعلق بمجرد إنهاء الحرب المستمرة هناك، وإنما يتعلق أيضاً بإضعاف القوة الغربية في المنطقة. وفي الحقيقة، تشكل سورية مكاناً تنخرط فيه كل المصالح الأميركية، والتي أصبحت كلها في خطر.
مع ذلك، ليس هذا النوع من إعادة موضعة السلطة شأناً فريداً ومقتصراً على السياق السوري. فباستهداف النظام الإيراني واتخاذ موقف صارم ضد تركيا، قامت إدارة ترامب –عن غير قصد- ببناء تحالف بين روسيا وتركيا وإيران: وهو محور تأتي مصالحه المناهضة لأميركا على حساب تفوق الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. وفي واقع الأمر، ليس هذا التحالف طبيعياً، وإنما كان النتيجة المباشرة لدبلوماسية ترامب المتعثرة والمتشددة. ومنذ الأيام التي كافحت فيها روسيا القيصرية ضد الإمبراطوريات العثمانية الفارسية، عانت روسيا من علاقات جيوسياسية متضاربة مع تركيا وإيران؛ وقد أفاد قبول تركيا في حلف الناتو بالكاد العلاقة بين موسكو وأنقرة أيضاً. ومع ذلك، وبينما تواصل التوترات تصاعدها بين البيت الأبيض وتركيا -متركزة حول فرض الإقامة الجبرية على القس الأميركي أندرو برونسون في تشرين الأول (أكتوبر) 2016 والفرض اللاحق للعقوبات الأميركية على تركيا- فإن بعض المحللين وضعوا على الطاولة خيار أن تركيا ربما ترغب في التخلي عن تحالف الناتو نفسه أكثر من التنازل للولايات المتحدة، والسعي بدلاً من ذلك إلى إبرام صفقات بديلة مع روسيا عن طريق التحرك أقرب إلى مدار نفوذها.
تزامن كل هذا مع قرار ترامب أحادي الجانب سحب بلده من الاتفاق النووي الإيراني للعام 2015، وإعادة تطبيق العقوبات على إيران، وتطبيق المزيد من العقوبات على روسيا. ويبدو هذا النوع من الدبلوماسية محكوماً بحتمية التأثير سلباً على الولايات المتحدة فيما يتعلق بسياستها تجاه الشرق الأوسط في المستقبل، وقد دفع مسبقاً نحو التئام تحالف ينطوي على إمكانيات القوة، والذي لا تتطابق أهدافه في المنطقة مع أهداف واشنطن.
كما أن حماس العرب للشراكة مع ترامب فيما يخص “صفقة القرن” التي يعدها لتحقيق السلام الفلسطيني-الإسرائيلي أصبح يفتر بوضوح: وهو مجال آخر يشهد فيه النفوذ الأميركي في المنطقة تراجعاً. فبعد أشهر من الدبلوماسية المكوكية وسلسلة من الاجتماعات مع القادة العرب، فشل مبعوثا الولايات المتحدة، جاريد كوشنر وجيسون غرينبلات، في إقناع مصر ودول عربية رئيسية أخرى مثل السعودية والإمارات العربية المتحدة بأن الولايات المتحدة يمكن أن تتوسط في صفقة عادلة. وفي حين قال رئيس لجنة الشؤون العربية في البرلمان المصري أن مصر ترى أن مزاعم ترامب عن الدعم المتواصل لعملية السلام هي “زائفة بالكامل”، فقد أشار بقوة أيضاً إلى أن “معظم العالم العربي، بما فيه مصر والسعودية- رفض صفقة القرن التي اقترحتها الولايات المتحدة”.
في واقع الأمر، كانت عملية السلام التي تقودها الولايات المتحدة منحازة دائماً وبشكل لا يصدق لصالح الاحتلال الإسرائيلي، إلى حد جعل التوصل إلى تسوية عادلة مستحيلاً. ولكن، كانت هناك في الحد الأدنى درجة من النزاهة، والتي تستطيع معها الولايات المتحدة ادعاء أنها مفاوض نزيه قبل أن تقوم القوة العظمى بنقل سفارتها من تل أبيب إلى مدينة القدس متعددة الإثنيات، جاعلة من نفسها البلد الوحيد في العالم الذي يعترف بالمدينة عاصمة لإسرائيل. كما أن الجهود التي تبذلها الولايات المتحدة هذا الصيف لإغلاق وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) –التي تقدم المساعدة والعون للاجئين الفلسطينيين في الأردن وغزة والضفة الغربية- صبت الوقود فقط على هذا الحريق. وكانت النتيجة هي التسبب بخيبة الأمل للعرب الذين يتذكرون باعتزاز تلك الصورة الشهيرة في أيار (مايو) 2017 في قمة الرياض لمحاربة الإرهاب.
إذا كان الحلم بـ”باكس أميركانا” للشرق الأوسط قد مات، فإن ذلك حدث فقط بسبب قيام أميركا بنحر ذلك الحلم. وكان الكثير من الدول العربية المعتدلة لترحب بسياسة أميركية أكثر انخراطاً ونشاطاً تجاه المنطقة، لكنها ستنظر بخلاف ذلك إلى أماكن أخرى لطلب العون. وقد تضاعف التراجع الأميركي فعلياً بفعل التحركات المناهضة للهيمنة الأميركية، بقيادة دول مثل روسيا وتركيا وإيران، والتي شرعت في الانسياب إلى الفجوة التي تركها التقاعس الأميركي. وقد قوبلت دعوة ترامب “دعوا الناس الآخرين يعتنون بذلك الآن” بالتلبية الصادقة؛ وإنما ليس من جهة أولئك الذين أمل الرئيس في أن يلتقطوا الراية.
سوف يكون أفضل مسار عمل للولايات المتحدة هو رفع الطلب على نشاطها في الشرق الأوسط، وبغير ذلك ستكون أمامها مشاكل أكبر لمواجهتها هناك في المستقبل.
الغد