بعد مرور حوالي أربعين عامًا على بداية الجمهورية الإسلامية، فشِلَ هذا المشروع. فأقرّ آية الله خامنئي بعدم وجود دولة إسلامية في إيران. كما أن المجتمع الإيراني ليس إسلاميًّا بشكلٍ مطلق ومثلما أرادته الثورة: بالأحرى، تتبع الحكومة الإيرانية القواعد الإسلامية وتطبّقها على المجتمع وحسب. فمع إعادة فرض الحظر والعقوبات الدولية والمحلّية على إيران، تبدّل الآن هدف الجمهورية الإسلامية من التوسّع إلى حماية المصالح الوطنية الإيرانية في حين يدخل البلد في أضعف حقبةٍ عرفها في الذاكرة الحديثة. وإلى جانب بناء الضغوطات الدولية، يفتقر النظام الإيراني أكثر فأكثر إلى دعم شعبه الخاص. فإذا استمرّت العقوبات الاقتصادية ضد سكّان إيران، قد يختبر البلد في نهاية المطاف ثورةً تقودها الحاجة إلى اللوازم الأساسية.
سبق أن مارست الاحتجاجات الكبيرة في عددٍ من المدن والمناطق الضغطَ على الحكومة حتى تعيد تقويم استراتيجيّتها السياسية: ففيما باستطاعة الحكومة أن تحدّ من نمو الاحتجاجات نوعًا ما عبر الإيعاز الديني وباستخدام القوة، إلا أنها تعجز عن إيقاف التحرّك كلّيًّا. وفي غضون ذلك، يستهدف الخطاب السائد في الاحتجاجات النظام السياسي في البلد وقيادته مباشرةً، مع التركيز على الفساد الممنهج فهذه الاحتجاجات غير مركزية، وهي توجّه الخطابات إلى النظام السياسي وقائد البلاد، وليس إلى القوى الخارجية. أمّا جذور الأزمة في إيران، فهي مترسّخة في التاريخ، وتنبع من الفساد المنهجي. وفيما شكّلت العقوبات الأمريكية محفّزًا، فهي لم تقم إلا بالمساعدة على إظهار الأزمة الاستراتيجية العميقة التي يعاني منها النظام. فقد أنشأ النظام الإسلامي هذا النوع من عدم الاستقرار، بسبب اعتماده على العقيدة وسوء إدارته للأموال وإنشائه للحكومات الموازية.
يشير أيضًا واقع اقتراب آية الله خامنئي بسرعة من نهاية عمره الطبيعي إلى أن هذه الاحتجاجات تعلن عن بداية نهاية حقبةٍ. ففي التاريخ الإيراني، من الصعب تصوّر شخصيةٍ سياسية جعلت هويتها الشخصية الخاصة ترتبط بهوية البلد أكثر منه. وفيما قاد آية الله الخميني الثورة، قاد خامنئي البلد لثلاثين عامًا، ما جعل النظام يرتبط بشخصيته الخاصة. وخامنئي نفسُه مدركٌ لهذا الواقع، ويمكن القول إنه يقدّر قيمة الحفاظ على الدولة ككيانٍ موحّد أكثر من الحفاظ على طابعها الإسلامي. وقد يفسّر هذا الموقف الاهتمام الواضح الذي يُبديه آية الله بدعم تطوير حكومةٍ عسكرية أكثر منه بالبنية الحالية عند وفاته.
لا يعني ذلك أن آية الله خامنئي يريد إضعاف النظام الحالي لولاية الفقيه، أو أنه سيقوم بذلك، إلا إذا أصبح يعتقد أن هذا النظام غير قادر على الحفاظ على وحدة البلد. بالأحرى، قد تدفعه تخوفاته من التهديدات الخارجية لاستقرار البلد إلى وضع سلامة البلد في عهدة بنيته العسكرية، واعتبار أن هذا الفرع من النظام مجهّزٌ بالشكل الأفضل للقيام بذلك.
يبدو أصلًا أن مثلّث النظام – أي خامنئي بصفته المرشد الأعلى، والقوّات العسكرية الإيرانية، وحكومة إيران – يسير في هذا الاتجاه.فسيطرة الجيش على الخطابات السياسية للحكومة، ومواصلة أنشطة “فيلق القدس” داخل البلد وخارجه، فضلًا عن التغيير في لهجة حسن روحاني التي أصبحت تؤيّد القوات العسكرية بدلًا من استنكارها، كل ذلك يبدو مرتبطًا باعتماد وجهة نظر المرشد ومحاولة سلوك هذا المنحى الضيّق.
في هذا الوقت، يبدو أن آية الله خامنئي ينفّذ خطةً استراتيجيةً قائمةً تخفّف وطأة الانشقاق الداخلي وتضمن في الوقت نفسه استقرار الدولة:
فتفاقمت مشكلة الفساد التي بدأت قبل الثورة بشكلٍ خارجٍ عن السيطرة. وتمسّكت السلطات الدينية والإدارية الآن بفكرة “معاقبة المفسِد” كسبيلٍ لإعادة توجيه التركيز العام. ففي هذه الحالة، تسمح تهمة “الفساد” في الواقع بفصل العناصر ’الفاسدة‘ الفردية في محاولةٍ لجعل غضب المحتجّين ينصبّ على النّخَب الإدارية والمصرفيين بدلًا من النظام الإسلامي وآية الله خامنئي.
في الوقت نفسه، تحاول الحكومة الإيرانية إيجاد سبلٍ غير رسمية مع البلدان المجاورة لتسهيل استيراد السّلع إلى داخل إيران من نقاطها غير الرسمية الأوسع نطاقًا ولتفادي المجاعة. وبهدف تحقيق ذلك، تم منح السلطة إلى المحافظين في المناطق الحدودية لإيران من أجل صرف النظر عن عمليات التهريب.
ويعمل “مجلس الأمن القومي الإيراني” على رفع الحظر عن مهدي كروبي ومير حسين موسوي، اللذين قادا “التحرّك الأخضر” وهما حاليًّا تحت الإقامة الجبرية، وذلك في محاولةٍ واضحة لضم العناصر التحررية “إلى الصفوف”. فيبدو أن هذا الاهتمام الواضح بضم زعماء المعارضة يشير إلى تطوّر الإحساس بالوحدة الوطنية الذي يمكن أن يستعيد دعم الشعب للنظام السياسي. وفي الوقت نفسه، تواصل الحكومة اتخاذ إجراءات صارمة ضدّ المتظاهرين الأفراد.
بسبب عقوبات الولايات المتحدة، تعتمد إيران على إنشاء علاقات اقتصادية ثنائية مع العراق وتركيا وروسيا والصين والهند من أجل الاستمرار في دعم نفسها. كما تحاول إيران تطوير علاقات عسكرية وأمنية أكثر متانةً من خلال تعاونها مع تركيا والعراق وأفغانستان وباكستان وروسيا وعمان وقطر من أجل ضمان الاستقرار المحلّي.
المقصود من كل ذلك هو أنّ كلًّا من الحكومة الإيرانية وعدة مواطنين إيرانيين أخذوا على عاتقهم إبعاد الحرب عن موطنهم. فما زالت الحرب الإيرانية-العراقية محفورةً في الذاكرة الجماعية الخاصة بالإيرانيين، وقد يتحوّل ذلك إلى دافعٍ يشجّع على التمتع بقوة عسكرية أكبر داخل الدولة. وسبق أن زاد آية الله خامنئي دعمه لقاسم سليماني، الذي يُعتبَر حاميًا أساسيًّا لمصالح إيران من خلال قيادته لشبكة المقاتلين بالوكالة الواسعة النطاق والتابعة لـ “فيلق القدس” التي ستُبقي حروب إيران بعيدةً عن إيران نفسها.
في حين أن الدولة المركزية قد تكون الآن ضعيفةً، فمجرّد نطاق وقوّة السيطرة التي يتمتع بها “فيلق القدس” في المنطقة المحيطة يسمحان بالتعاون مع حلفاء إيران ومساعدتهم: أي مع “حزب الله” في لبنان والحوثيين في اليمن. إلى ذلك، تحافظ إيران على الوجود العسكري الملحوظ عبر وكلائها في كلٍ من سوريا والعراق. وكنتيجة لذلك، ستستمر استراتيجية إيران الدفاعية في الاعتماد على تطوير البنية التحتية للمجموعات المحلّية ودقّتها من أجل حماية مصالح الإيرانيين. فلا تؤدي القوة النسبية لهذه القوات إلا إلى زيادة الشعور بأن الاستقرار في المستقبل سيكون في حوزة القوات العسكرية. وفي غضون ذلك، يحافظ خامنئي على تولّيه السلطة في دولةٍ تزداد هشاشتها يومًا بعد يوم. ويمكن أن يتوقّع المراقبون الخارجيون مواصلة بذل الجهود لإرساء الاستقرار في البلد، لكن لا بد من مراقبة القوات العسكرية بشكلٍ أساسي لتوجّس علامات موازين القوى الجديدة في إيران.
فرزند شيركو
معهد واشنطن