واشنطن وطهران: هل سيقود صراعهما على العراق إلى الصدام المباشر

واشنطن وطهران: هل سيقود صراعهما على العراق إلى الصدام المباشر

 

تشهد بغداد هذه الأيام حراكاً سياسياً لتشكيل الحكومة العتيدة. غير أنه وراء الكواليس، وحتى على خشبة المسرح، يشتبك لاعبان خارجيان: إيران وأمريكا. عمّ يبحث كل منهما في بلاد ما بين النهرين؟ وهل يتهدد العراق المزيد من التشظي؟ فقد شهدت جلسة مجلس النواب العراقي التي عقدت السبت لمناقشة تردي الأوضاع في محافظة البصرة جنوبي العراق، مشادة كلامية بين رئيس مجلس الوزراء حيدر العبادي ونواب محافظة البصرة، إضافة إلى مشادة أخرى جرت بين العبادي ومحافظ البصرة أسعد العيداني حول موضوع التخصيصات المالية لمشاريع البنى التحية في المحافظة. وطالبت القائمتان الرئيسيتان اللتان فازتا في الانتخابات التشريعية التي جرت في مايو، الماضي، باستقالة حكومة العبادي، في أعقاب جلسة استثنائية للبرلمان لمناقشة الأزمة القائمة في البصرة.

أن الأمور تعقدت في المشهد السياسي العراقي بعد المطالبات باستقالة الحكومة، لكن مع ذلك يمكن القول بأنها في طريقها إلى الحل، ذلك أن الأزمات في بعض الأحيان تشتد لتجد في النهاية حلا لها. فما حصل داخل البرلمان العراقي من مشادات كلامية يعبر عن عمق الأزمة في عموم العراق، وأن أخذت البصرة عنوان لها، التي تشهد احتجاجات ومظاهرات وحرق مقرات، ومع أنها بدأت تهدأ، إلا أن الأزمة في جانب منها هي أزمة سياسية مع وجود جانب متعلق بالخدمات التي دفعت المواطنين للتظاهر. وحتى الآن لا نعرف مخارج هذه الأزمة كيف ستكون، فهل توقف مظاهرات البصرة يعد توقفا نهائيا واصبحنا أمام معالجات لحل الأزمة، أم أن الجانب السياسي سوف يطغى على الحراك الشعبي. والاسبوع القادم سوف يبين كل ذلك عندما يلتئم البرلمان العراقي.”

تتشابك خيوط العملية السياسية في العراق وتزداد تعقيداتها، بالتزامن مع توسع دائرة الإحتجاجات في البصرة، والتي بدأت بعض شراراتها تتطاير باتجاه أهداف دولية وإقليمية.وتشتعل وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي في العراق منذ عدة أيام بسجال حاد حول الكتلة الأكبر التي ستشكل الحكومة القادمة، وتباينت تصريحات رؤساء الكتل والنواب الجدد حول جمع أكبر عدد من التوقيعات التي تمهد لولادة التشكيلة الحكومية القادمة.

وقد أفرزت التحركات السياسية عن كتلتين رئيسيتين، الأولى هي “الإصلاح والإعمار” ويتزعمها رئيس الوزراء الحاليحيدر العبادي ومعه “سائرون” و”الوطنية” والحكمة” وغيرها، فيما يقف تحالف ” البناء” في المعسكر الآخر رئيس قائمة الفتح الممثلة للحشد الشعبي هادي العامري و”دولة القانون”، ونواب من عدة محافظات. وبدا واضحا حجم التنافس الأميركي الإيراني في وضع لمسات تشكيل الحكومة كما يقول الكثيرون، وعبرت عن ذلك تصريحات متفرقة، تتهم العبادي بالخضوع لأوامر السفير الأميركي، والعامري من معه بالسير في ركاب طهران.ومع تسارع الأحداث في البصرة وما جرى فيها من إحراق لمكاتب أحزاب ومجموعات مسلحة بالإضافة إلى القنصلية الإيرانية، وما قابلها في الطرف الآخر قصف لمحيط السفارة الأميركية ببغداد عدة مرات، تبدو الأمور وكأنها تسير نحو تصعيد أكبر خلال الأيام القادمة، رغم التهدئة التي تم الإعلان عنها.

يبدو توصيف العلاقة الإيرانية-الأمريكية في العراق أمراً ليس باليسير؛ إذ أنها تتراوح من المنافسة، بشقيها السلبي والإيجابي، إلى الخصومة وصولاً للتعاون الوثيق في بعض المفاصل. في حين يرى البعض أن ما يجري مجرد توزيع للأدوار بين واشنطن وطهران وأنهما متفقتان على الأساسيات. وذهب البعض الآخر إلى تشبيه تلك العلاقة مجازاً بالتأرجح بين زواج الإكراه وزواج المصلحة. هناك  من يصف العلاقة بين واشنطن وطهران في العراق كالتالي: “منذ 2003 طبعت التنافسية تلك العلاقة، إلا أنها اليوم مع ترامب أصبحت صراعية”.  وتخلل ذلك محطات تعاون: لدى إسقاط نظام صدام حسين وتنسيق أمني في عامي 2006 و2007. وبعد الانسحاب الأميركي، بدا وكأن إدارة أوباما قد تركت النفوذ في العراق كاملًا لإيران، وهو واقع كان مؤثرًا بشكل مباشر في تكريس التغييرات التي كانت قد حدثت خلال هذه الفترة في العراق سياسيًّا وديمغرافيًّا وفي تكديس الثروة والقدرة على أساس طائفي، بل وحتى في تصعيد السياسات الطائفية، وإقامة علاقات خاصة مع إيران وصلت بمسؤول كبير مثل علي يونسي، مستشار الرئيس الإيراني، حسن روحاني، إلى القول: إن “إيران أصبحت إمبراطورية كما كانت سابقًا وعاصمتها بغداد، وهي مركز حضارتنا وثقافتنا وهويتنا اليوم كما كانت عبر التاريخ”وفي “زمن ترامب” وتصعيده ضد إيران من الواضح أن واشنطن تسعى لمواجهة الدور الإيراني في العراق: “واشنطن تريد من العراق حسم موقعه: هل هو في صفها أم في صف إيران؟”.

ويرى مراقبون للشأن العراقي أن معظم ما يتردد حتى اللحظة حول تشكيل الكتلة الأكبر لا يزال غير مؤكد لعدة أسباب من أهمها أن الكتل السياسية لم تسلم إلى الرئيس المؤقت أي ورقة تحوي تواقيع جميع النواب وإنما تواقيع رؤساء الكتل.وحول وصف “العابر للطائفية” المتنازع عليه بين الفريقين، يشير المتابعون للشأن العراقي إلى وجود نواب سنة وشيعة داخل التكتلين، موصين الحكومة القادمة بالمرونة وأن يكون رئيسها ذا علاقات واسعة بالمجتمع الدولي، خاصة مع اقتراب تطبيق الحزمة الثانية من العقوبات الاقتصادية على إيران في شهر الثاني/ نوفمبر القادم مما قد ينعكس سلبا على العراق. وهناك من يعتبر أن تصفية الحسابات بين واشنطن وطهران قد جرت بالفعل في البصرة، خاصة فيما يتعلق بحادثة إحراق القنصلية الإيرانية وهو الحادث الذي يراه رسالة إلى إيران مفادها أن المحور المناهض لها هو “المنتصر”. ويدور في الأوساط السياسية عن تنسيق بين العبادي والتيار الصدري لسحب قطعات عسكرية من البصرة وتركها لانفلات أمني، رغم أن حركة التظاهرات كانت تسير بشكل طبيعي قبل يوم واحد فقط، معتبرا أن الصراع الأميركي الإيراني وصل إلى مرحلة كسر العظم، على حد قوله.

إن المطالبة باستقالة الحكومة يعد أمرا غير ذي جدوى، كون الحكومة الحالية هي فقط لتصريف الأعمال، والجهات التي طالبت باستقالة السيد العبادي هي تريد أن تقول بشكل أو بآخر أنها لم تعد تؤيده لولاية ثانية، وهو أمر جديد بالنسبة لكتلة سائرون، كون كتلة الفتح تعتبر منافسة لكتلة السيد العبادي. وموضوع ولاية العبادي الثانية ليس مرتبط فقط بالعراق، وإنما بتحولات إقليمية ودولية، وبالأخص الصراع الأمريكي الإيراني، وما يحصل جزء من هذا الصراع، وربما في نوفمبر المقبل سيتضح الموضوع بشكل أكبر عندما تشتد العقوبات على إيران، وبالتالي مسألة تشكيل الحكومة العراقية سوف تتأخر انطلاقاً من هذه المعطيات، وهذا يفسر عدم استقرار التحالفات نتيجة تلك المؤثرات الإقليمية والدولية.”والسؤال الذي يطرح في هذا السياق لماذا تتصارع طهران وواشنطن على تشكيل الحكومة العراقية؟

أن إيران تسعى أولاً وقبل كل شيء “للإبقاء” على العراق في محورها الإقليمي الذي بنته على مدار سنوات طوال. هذا على المستوى الجيواستراتيجي. ويشير خبراء إلى أن هذا المحور يمتد من طهران مروراً ببغداد ودمشق وصولاً إلى بيروت على سواحل البحر الأبيض المتوسط. أما اقتصادياً وفي ظل العقوبات الأمريكية ستكون العراق “الرئة الاقتصادية” لطهران: “تعوّل إيران على تصدير بعض من النفط عن طريق العراق وبأعلام عراقية كما كان يفعل العراق في تسعينات القرن العشرين كوسيلة للالتفاف على الحظر”. وقد بلغ حجم التبادل التجاري بين العراق وإيران خلال العام الماضي نحو 6,7 مليار دولار، بينها 77 مليون دولار فقط هي قيمة صادرات بغداد إلى طهران، وفقاً لمصدر رسمي في وزارة التجارة. ومن هنا يفسر حيدر سعيد “غضب” إيران من إعلان العبادي عن “التزام العراق بالعقوبات”. وفي المقابل، لا تريد واشنطن، وليست مستعدة، أن تخسر دولة مثل العراق لصالح إيران ليس فقط لدى ترامب بل هناك شعور عام في الولايات المتحدة أن واشنطن بذلت الكثير منذ 2003 في العراق. فهي لا ترغب خسارة ما تحقق لها عسكريّا في العراق، حيث لها سبع قواعد عسكرية، هي: “عين الأسد، والحبانية غرب العراق، وعين كاوة ودهوك بإقليم كردستان، والرستمية والمطار في بغداد، والقيارة في نينوى”. وتتشارك القوات الأميركية تلك القواعد مع قوات عراقية نظامية. وتضم تلك القواعد كتيبة مدفعية ثقيلة غرب العراق، وسرب طائرات “أباتشي” يتولى مهام عديدة، أبرزها حماية بغداد ومطارها ومناطق تواجد الأميركيين كالمنطقة الخضراء، التي تضم السفارة الأميركية، إضافة إلى أربع طائرات نقل من طراز “تشينوك”، إلى جانب أكثر من 80 طائرة مقاتلة غالبيتها من طراز (إف 16 وإف 18) تنطلق من قاعدتي أنجرليك التركية وقاعدة أخرى بالكويت، وثالثة من حاملة الطائرات، جورج واشنطن، في مياه الخليج العربي

وبطبيعة الحال، فإن هذا الحجم من القوات الأميركية لا يمثل كامل القوة القتالية أو المساندة في العراق، فللولايات المتحدة قوات ضخمة وجاهزة للتدخل الفوري تزيد عن 40 ألف جندي موجودين فعليًّا بقواعد ثابتة في دول الخليج، إلى جانب مخازن للأسلحة والمعدات والذخائر فضلًا بطبيعة الحال عن القدرات الأميركية التي يمكن حشدها، أو تلك الموجودة فعليًّا في أوروبا والبحر المتوسط وتركيا. لكن ملامح القدرة الأميركية ليست عسكرية فقط، بل إن للولايات المتحدة مصادر نفوذ مختلفة في العراق، فهي من تولى تدريب أعداد كبيرة من القوات العراقية سواء في الجيش أو الشرطة، ويمكن توقع أن تنشأ خلال ذلك فرصة للأميركيين من أجل تشكيل قدر مهم من التأثير وكسب الولاءات على مستوى القيادات العليا والوسطى في الجيش العراقي. والسؤال الذي يطرح في هذا السياق: في ضوء تلك المعطيات هل سنشهد صدام أمريكي ايراني في العراق؟

في الظروف الراهنة، لا تبدو الولايات المتحدة ولا إيران في وضع أو رغبة للصدام داخل العراق، لكن ذلك سيستمر على مستوى القوة الناعمة أو محاولات كل طرف تقليص نفوذ وقوة الطرف الآخر، كما كان خلال السنوات الخمسة عشرة السابقة. ويظهر ذلك بشكل واضح اليوم من خلال تسابق كل من طهران وواشنطن على التأثير في شكل التحالفات السياسية وهوية الحكومة المقبلة في العراق بعد الانتخابات البرلمانية التي جرت في 12 مايو/أيار 2018. ولا يبدو العراق نفسه في الوقت الحالي مهيَّئًا أو قادرًا على إبعاد الطرفين القويين من مجاله السيادي الجغرافي والسياسي والاقتصادي، فلكل منهما مراكز نفوذ وقوة وتأثير، إلى جانب وجود عسكري مباشر، وتداعيات الغزو والاحتلال ما زالت مؤثرة وبقوة على هذا البلد وخياراته الوطنية.  وعلى هذا الأساس، فعلى العراق والمنطقة، عدم توقع متغيرات حادة وعنيفة في العلاقة بين إيران والولايات المتحدة في هذا البلد، لكن هذا الواقع القوي يمكن أن ينهار في حال جرى تعرض المجال الحيوي الإيراني لخطر استراتيجي يهدد وحدة الدولة أو مستقبل النظام الحاكم، وهو أمر باتت إدارة ترامب تستثيره بشكل واضح لاسيما بعد “شروط بومبيو” التي رفضتها طهران فورًا. وهنا قد لا يكون أمام إيران سوى تفجير المنطقة برمتها لفرض حقائق جديدة تخلط بها الأوراق، وبالطبع لن يمكن في مثل الظرف إبقاء العراق بعيدًا عن النيران. 

وحدة الدراسات العراقية

مركز الروابط للبحو والدراسات الاستراتيجية