الصراع بين الولايات المتحدة وإيران إلى تصاعد. أقله في المدى المنظور. ليس في الأفق ما يوحي بأن ثمة قنوات خلفية تمهد لحوار بينهما، لا في سلطنة عمان ولا في غيرها. بل إن حملة الوعيد والتهديد التي أطلقها الرئيس دونالد ترامب ورجال إدارته في نيويورك الأسبوع الماضي، تشي بأن واشنطن في جعبتها الكثير. وأن العقوبات على قطاع الطاقة ومشتقاتها الشهر المقبل لن تكون آخر السلسلة. بل قد تليها أخرى أكثر إيلاماً. وهناك من يتوقع أن تشمل قطاع المواصلات الجوية لعزل الإيرانيين واستنزاف اقتصادهم. ينتظر الطرفان نتائج الانتخابات النصفية للكونغرس. إذا تراجع الحزب الجمهوري، ستختار طهران الصبر والعمل مع المتمسكين بالاتفاق النووي لعلها تعمق الخلاف بينهم وبين واشنطن. والتحايل على العقوبات بالرهان على مساعدة دول حليفة وصديقة بينها الصين وروسيا والعراق وتركيا وبعض أوروبا. ويمكنها ربما التحمل حتى مجيء إدارة ديموقراطية يمكن أن تتفاوض معها مجدداً. والمرشد علي خامنئي لم يستبعد فكرة الحوار ولكن ليس مع الإدارة الحالية.
لا يعني أن انسداد باب الحوار بين الطرفين سيقود في النهاية إلى مواجهة عسكرية. الرئيس حسن روحاني أكد أن بلاده لا ترغب في محاربة القوات الأميركية في المنطقة. وكذلك الإدارة الأميركية لا ترغب في أي حرب جديدة، خصوصاً في الشرق الأوسط. وما يجري في الميدان وما يدور من استعدادات لا يعدو كونه جزءاً من الضغوط المتبادلة ورفع سقف التحديات. طهران اعتمدت خيار التمسك بسياستها السابقة. قواها العسكرية تواصل بناء ترسانتها العسكرية وتعزيز برنامجها الصاروخي. وهي تدرك جيداً أن ما يقلق أميركا، وحتى روسيا، هو انخراط الإقليم كله في سباق صاروخي قد ينزلق إلى مغامرة عسكرية بين الجمهورية الإسلامية وخصومها العرب. الأمر الذي قد يورط الدولتين الكبريين في هذه المغامرة. وكان واضحاً منذ أيام ولايتي الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما أن القوى الإقليمية غادرت مظلة القوى الكبرى وتفاهماتها. وكان تحرك التحالف العربي في اليمن لمواجهة تمدد إيران وانقلاب حليفها الحوثي على السلطة المنتخبة هناك قراراً لا يتسق مع رغبة الإدارة السابقة التي كانت تحابي طهران لإنجاز اختراق في المفاوضات النووية، والتي انتهت بعد أشهر من بدء الحرب لاستعادة الشرعية في صنعاء في توقيع الاتفاق النووي بين إيران والدول الخمس الكبرى وألمانيا.
في الدورة السابقة للجمعية العمومية للأمم المتحدة، ركز الرئيس دونالد ترامب في كلمته على الزعيم الكوري الجنوبي كيم أون. سخر منه وأطلق عليه أوصافاً مقذعة. وهدده وتوعده… لكنه بعد أشهر كان يجلس معه في سنغافورة. في الدورة الحالية، جند رجال إدارته في حملة كبيرة على إيران. ووسع دائرة الخصوم. لم يوفر الصين التي اتهمها بأنها تتدخل في الانتخابات الأميركية النصفية الشهر المقبل. وأنها لا ترغب في فوز حزبه الجمهوري. كذلك فعل بروسيا التي أخذ عليها دعم الرئيس السوري بشار الأسد. خرج على كل ما توافق عليه المجتمع الدولي في العقدين الأخيرين في مجالات عدة، من مسألة المناخ إلى قوانين التجارة الحرة. واللائحة تطول. وهو ما استدعى رداً غير مباشر من نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي رفض سياسة الفرض بالقوة التي يمارسها سيد البيت الأبيض في علاقاته الدولية. وكان الأخير ورجال إدارته توزعوا الأدوار في التلويح بتوسيع سياسة العقوبات. لا شك في أن تلويح ترامب بالقبضة الحديد تمليه اعتبارات عدة. فالرجل يتشدد مع اقتراب موعد انتخابات الكونغرس النصفية ليعزز فرص حزبه ويضمن لنفسه التجديد ولاية ثانية. لذلك، يستعجل إرغام إيران على الرضوخ لمطالبه. وأبعد من ذلك يريد البقاء أميناً للشعارات التي رفعها في حملته الانتخابية. لذا، يبدو نهجه خليطاً من الانكفاء الذي مارسه رؤساء أميركيون سابقون، ومن الانخراط في مواجهات سياسية، معتمداً على عصا العقوبات المتشددة. فهو الآن مثلاً لا يزال يغازل الزعيم الكوري الشمالي، وقد خصه بتقريظ في كلمته أمام الجمعية العمومية. لكنه يود بقاء العقوبات الدولية على بيونغ يانغ حتى تخلصه من برنامجها النووي. ويحفظ وداً لنظيريه الروسي والصيني، لكنه لا يتردد في فرض عقوبات اقتصادية على بلديهما. وحتى طهران التي يلوح لها بحصار غير مسبوق ويعزز تحالفاته العسكرية في الإقليم، من مصر إلى الكويت، يبدي استعداداً للحوار معها.
المشاكل والتحديات التي يتصدى لها الرئيس ترامب هي نفسها واجهها سلفه الرئيس أوباما. لكنه نهج أسلوباً مختلفاً يتسم بالعجلة والضغط والتلويح بالقوة، على رغم أنه لا يرغب في إرسال أبناء الأميركيين إلى حروب جديدة. وإذا كان عليهم أن يساهموا في حفظ الأمن والدفاع عن الحلفاء والأصدقاء شرقاً وغرباً فعلى هؤلاء أن يتحملوا الأعباء والتكلفة. فالخلافات بين الصين والولايات المتحدة ليست جديدة. سلفه باراك أوباما بذل الكثير لمنع بكين من مواصلة سياسة الهيمنة في بحر الصين. وكان خفض الأخيرة سعر صرف اليوان موضوع خلاف دائم مع واشنطن لأنه يخل بالميزان التجاري بين البلدين. وأطلق في بداية ولايته مشروع «الشراكة عبر المحيط» لمواجهة خطط التوسع التجاري لبكين التي كانت تتهمه بالتدخل في الخلافات بينها وبين جاراتها في المنطقة، على رغم اعترافها بأن واشنطن عامل فعال في آسيا منذ منتصف القرن الماضي. وتفضل التعاون معها. ولم تكف الإدارة السابقة عن التحذير مما أطلقت عليه «الاستعمار الجديد» في أفريقيا، وهي تقصد الانتشار الصيني في القارة السمراء.
كذلك لم يكن الرئيس الأميركي السابق معجباً بنظيره الروسي فلاديمير بوتين وبكثير من قادة أوروبا. لكنه نهج سياسة عنوانها لا يختلف كثيراً عما يريد خلفه ترامب، ولكن بأسلوب مختلف. أصر على وجوب قيام تعاون دولي لإدارة شؤون العالم. سحب القوات من العراق، وأبرم الاتفاق النووي مع إيران، ودفع الأوروبيين إلى التعامل مع أحداث العالم العربي التي اندلعت مطلع العقد الحالي. وترك لروسيا التعامل مع الأزمة السورية. ومن أيامه، كانت طموحات الرئيس بوتين واضحة. فالأخير منذ دخوله الكرملين وعد مواطنيه بأن بلادهم بقيادته ستكون مختلفة تقدماً وازدهاراً. وستكون قوة عظمى مجدداً لها دورها البارز في العالم. وقد حقق جانباً من هذا الوعد على حساب الجانب الآخر. أثبت حضور موسكو حتى في قلب اللعبة السياسية الداخلية في الولايات المتحدة ودول أوروبية. لكن سياسة العقوبات الغربية على بلاده خلفت آثاراً سلبية على اقتصادها ورفعت نسبة الفقر فيها. ولم يجد أخيراً الوقت مفراً من التوجه نحو جيرانه الغربيين وتوطيد علاقاته مع الصين أيضاً. وهو ما بدأ ينهجه أخيراً. الزيارة التي قام وزير الخارجية سيرغي لافروف إلى برلين قبل أيام أثبتت الحاجة الماسة إلى مثل هذا التوجه. أفادت روسيا ولا تزال تفيد من التبدلات في السياسة الأميركية. أتاحت لها إدارة أوباما التقاط أنفاسها. رسخت حضورها في جورجيا وأوكرانيا بعد ضمها شبه جزيرة القرم. وبنت لها على الساحل السوري قاعدة متقدمة في المشرق العربي. وزرعت مزيداً من المخاوف في الاتحاد الأوروبي. ورفعت وتيرة تدخلاتها، مستخدمة شتى الوسائل، وبينها «جيشها الإلكتروني»، في أميركا وأوروبا… لكن كل هذه «الإنجازات» لم تثمر في تقدم اقتصادها. كما أنها لم تؤد إلى إضعاف الولايات المتحدة.
ولحق الرئيس رجب طيب أردوغان بنظيره الروسي. توجه إلى السيدة أنغيلا مركل. طوى سيل الحملات التي كالها لها، في سبيل إعادة ربط علاقاته مع الاتحاد الأوروبي لعل ذلك يفيده في إقامة توازن بين علاقاته بهذا الاتحاد وبروسيا أيضاً. ويخفف عنه ضغوطها وضغوط إيران، وعبء الخلاف مع الولايات المتحدة وما خلف ذلك من آثار سلبية على اقتصاد تركيا. ولا شك في أن القمة المتوقعة بين روسيا وتركيا وفرنسا وألمانيا قريباً تشكل محاولة من هذه الدول لبناء سياسة مختلفة حيال سورية خصوصاً، فضلاً عن البحث في مجالات التعاون الأخرى. فالدول الأربع تتشارك في الهموم حيال سياسة واشنطن ومستقبل الوضع في سورية. وتسعى موسكو إلى اقناع الدولتين الأوروبيتين اللتين تشكلان رافعة الاتحاد الأوروبي بالانخراط في إعادة إعمار بلاد الشام، بالتوازي مع الجهود الأممية لوضع دستور جديد لدمشق. وقد يكون الحديث عن خلافات بين الكرملين وأنقرة حيال مستقبل الوضع في إدلب على رغم الاتفاق الأخير في قمة سوتشي، أداة ضغط على باريس وبرلين للبحث الجدي في احتمال مساعدتهما في ورشة الإعمار. ولا يغيب أيضاً أن الانتشار الذي تقوم به إيران وميليشياتها في محيط محافظة إدلب سيعمق المخاوف من عودة خيار الحسم العسكري في هذه المنطقة وما قد يخلفه ذلك من تداعيات لن تكون القارة العجوز بمنأى عنه.
لا شك في أن إيران تراقب مسار اعتلال العلاقات الدولية، واعتراض دول كبرى على سياسة الرئيس ترامب. وتفضل الإقامة في محطة «الصمود والتصدي»، معتمدة على نوع من حرب الاستنزاف. لم تعد معنية بالتفاهم مع الولايات المتحدة في العراق. بل ربما حركت «حشدها الشعبي» لمضايقة الوجود الأميركي العسكري في هذا البلد بعد القضاء على «داعش». ودفعت الحوثيين إلى مقاطعة محادثات جنيف التي دعا إليها أخيراً المبعوث الأممي. وإذا كانت راعت تفاهمات روسيا في سورية فإنها لا تزال تنتشر في أماكن كثيرة بعيداً من الحدود مع إسرائيل. وتعد لفتح جبهة شرق الفرات. وعادت إلى المناورات بين فترة وأخرى، مهددة بإقفال مضيق هرمز. لذلك، لم يكن أمام الرئيس ترامب سوى رفع وتيرة الضغوط على جميع المتمسكين بالاتفاق النووي، مهدداً بمزيد من العقوبات على مخالفي سياساته. ويعكف جنرالاته على توحيد القوى العربية الحليفة لمواجهة أي طارئ. حتى إسرائيل التي قيدت موسكو تحركاتها في أجواء سورية، اتجهت إلى جبهة لبنان في حرب نفسية ضاغطة على «حزب الله» واللبنانيين عموماً. وإذا كانت الحرب بعيدة فإنها قد تقترب إذا ظلت المواقف على حالها من التشدد والتصعيد. وليس أمام واشنطن سوى رفع وتيرة الحرب الاقتصادية والحرب النفسية، فهل تنجح في إرغام طهران؟ وإلى متى تصمد هذه بوجه الضغوط الخارجية والداخلية؟ وهل يتعمق الانقسام الدولي ويتصاعد الاحتقان وحرب الاصطفافات فترتفع احتمالات المواجهة العسكرية؟