استباحة شركات الإنترنت لخصوصيات الناس تهدد السيادة الوطنية

استباحة شركات الإنترنت لخصوصيات الناس تهدد السيادة الوطنية

“من قوّض الأخبار” سؤال أجاب عنه ألان روسبريدجر بالقول “إن آخر مربع لخلاص الصحافة هو أن تبقى ملكا عاما”. كان ذلك السؤال عنوان مقال نشره روسبريدجر في الغارديان في 31 أغسطس تحدث فيه عن انحدار الإعلام البريطاني إلى حد القول “إن الإعلام هناك أصبح قائما على منوال اقتصادي ركناه الفضائح الجنسية وخصوصيات الناس”.

وسيتخلى البرلمان الفرنسي منذ نهاية ديسمبر القادم عن استخدام محرك البحث غوغل لتعويضه بالمحرك الفرنسي الجديد “كوانت” وهو أمر سبقته إليه وزارة الدفاع ومؤسسات فرنسية سيادية أخرى.

وبين الخوف على المؤسسات الفرنسية وغيرها في بلدان أخرى والقلق الذي عبر عنه روسبريدجر من استباحة خصوصيات الناس رابط منطقي ومتين يربط بين السيادة الوطنية والحرية. فلا معنى للحرية بلا قانون ولا قانون في دولة بلا نظام مؤسساتي قوي ولا معنى لكل ذلك عندما تُستباح السيادة الوطنية في دولة ما لأن السيادة هي الضامنة للحرية قوام الديمقراطية.

لقد تبدل مفهوم السيادة الوطنية وتبدلت ممارستها منذ نحو ثلاثة عقود وتعقدت الأمور في العقد الماضي وغادر جزء من السيادة الوطنية الحدود الجغرافية إلى فضاء عالمي أوسع يُفلت فيه البعض من تلك السيادة من أيدي السلطات الشرعية ليقع ذلك البعض في أيدي شركات تغولت مثل فيسبوك وتويتر وغوغل ولنكد إن ونتفليكس ومايكروسوفت وآبل ومثلها مؤسسات كبرى عديدة.

وواضح أن الوعي بتلك الإشكالية المسماة بالسيادة الإلكترونية أصبح وعيا متقدما بلغ مرحلة الفعل وما إطلاق “الإعلان العالمي من أجل الإعلام والديمقراطية”، إلا دليل على القلق بشأن علاقة الإعلام بالديمقراطية التي لا تتحقق إلا بالسيادة. وقد لا يكون من المنطق القول إن تهديد تلك المؤسسات للسيادة الوطنية وللإعلام، أساس الديمقراطية، متساو في الإساءة. فإن لم يثبت ذلك على غوغل مثلا الذي يُلام عليه استخدام الإعلانات الموجهة فإن الأمر يختلف تماما بشأن فيسبوك.

إضعاف الإعلام التقليدي الوطني بفعل شبكات التواصل الاجتماعي يمسخ النقاش العام الذي يحدد نتائج الانتخابات

فعندما يقر مارك زوكيربرغ بأنه من المحتمل أن يكون 146 مليون أميركي من مستخدمي المنصة تعرضوا إلى أخبار ومعلومات مغلوطة بين يناير 2015 وأغسطس 2016 في ما يخص الحملة الانتخابية الأميركية وحتى بعدها يصبح من قبيل الأمر الواقع أن الديمقراطية لم تعد شأن المواطنين الأميركيين وحدهم في مسار معلوم يقوم على النقاش العام والانتخاب دون تأثير الأخبار الزائفة في دائرة السياسيين والمواطنين والإعلام النزيه والشفاف.

ولفيسبوك شركاء في مهمة إفساد الديمقراطية وفي السطو على حرية الناس في الاختيار وليست ببعيدة فضيحة “أناليتيكا” البريطانية التي استجابت لفريق الرئيس الأميركي دونالد ترامب بأن صنفت الناخبين الأميركيين إلى فئات حسب صفحاتهم وأرسلت إليهم أكثر من 175 ألف رسالة لتحريضهم على مساندة ترامب مساء الحوار المباشر بينه وبين كلينتون، الأمر الذي رفّع في نسبة رضا المشاهدين عن ترامب.

وجوه متعددة لفيسبوك

كما لفيسبوك منافسون، وإن اختلفت طرق العمل، مثل تويتر الذي لم يفسد الأمر بنية الإساءة إنما بتمكين “سياسي” مثل ترامب من استخدامه منصّة أساسية في حملته الانتخابية ضد كلينتون. وهناك اتفاق بشأن فوز ترامب بالانتخابات الأميركية، وهو فوز فاجأ الجميع شرقا وغربا، بتطويع تويتر.

واستخدام ترامب لتويتر الذي مكنه من نشر تغريدات كانت أقرب إلى التلاعب بالآراء كان استخداما غير لائق أحيانا كثيرة أساء فيها للديمقراطية مثل العدول عن بعض الأحاديث الصحافية لصحف يتهمها بمناهضته وبمساندة كلينتون مما جعله يستدر عطف عدد لا يُستهان به من الناخبين الذين رأوه ضحية لبعض من الإعلام.

وهناك أمثلة أخرى فوجئ فيها الجميع بنتائج الاستفتاء مثل البريكست في يونيو 2016 لمّا كانت الأمور تنزع إلى بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي فجاءت النتيجة مخالفة للتوقعات أو في انتخابات أخرى في هولندا في مارس 2017 أو إيطاليا في مارس 2018.

فعندما تحل الشبكات، أو بصفة أدق “الوحدات المساهمة في هيكلة الفضاء الإعلامي الاتصالي” كما يسميها الإعلان العالمي من أجل الإعلام والديمقراطية، محلّ الإعلام الوطني في تشكيل الرأي العام، وإن إلى حد ما، فإن نتائج الانتخابات ستأتي مختلفة عمّا لو جرت بمعزل عمّا تحمله تلك الشبكات. وهنا مكمن الخطر في المس بسيادة الشعوب عندما تأتيها الانتخابات بمن لا يمثلها تمثيلا مقبولا ولنا في الرئيس الأميركي المنتخب مثال أو في رغبة البريطانيين في العودة إلى الاتحاد الأوروبي مثال آخر.

هل تشكل خطرا حقيقيا على الديمقراطية؟
هل تشكل خطرا حقيقيا على الديمقراطية؟

فقبل تشظي الفضاء العام المحلي بفعل تعدد القنوات التلفزيونية خاصة ثم بفعل انتشار الشبكات والمنصات التي زادت في تشظي الجماهير كان الناس يتابعون شؤونهم العامة عبر وسائل محدودة العدد ثم كبيرة العدد غير أن هؤلاء المواطنين كانوا يعلمون بشكل أو بآخر التوجهات الأساسية في الرأي العام. كانوا يعلمون ما يجمعهم وما يفرقهم مما يسهّل الاختيار الانتخابي. أمّا اليوم فإن مواضيع تناقش بين آلاف المجموعات من البلد الواحد حول الموعد الانتخابي الواحد لا يعلمها إلا من ناقشوها في مجموعة بعينها دون المجموعات الأخرى.

وقد يكون ما جاء في الإعلان العالمي للصحافة والديمقراطية من باب ذلك. ففي الإعلان الكثير من المبادئ التي عهدها أهل الإعلام والاتصال في صياغة المواثيق الأخلاقية مثل التعددية وحرية الرأي والتعبير وكرامة المعنيين بالإعلام والتسامح وحرية تبادل الأخبار والمعلومات ونشرها بعد جمعها ومعالجتها وضمان سلامة الصحفيين وحمايتهم والحرص على خصوصيات الناس.

ضمان مقومات الديمقراطية

إن الإعلان العالمي للصحافة والديمقراطية يدعو بصراحة الوحدات المساهمة في هيكلة الفضاء الاتصالي العالمي إلى الالتزام بما تلتزم به الميديا التقليدية وإلى ضمان مقومات الديمقراطية في ذلك الفضاء.

ويدعو إلى تقفي الأخبار والآراء منذ إنتاجها حتى نشرها وفيه حرص على ألا تكون الأخبار بضاعة وذلك حالها اليوم على الشبكات وفيه تأكيد على أن المضامين ليست نشر الأخبار فقط بل هي نشر الآراء كذلك.

ونعتقد أن الدعوة إلى نشر مقالات الرأي أمر مهم إلى أبعد حد. فمن اليسير استدراج الناس على الشبكة بنشر “خبر” يقول إن البابا يساند المترشح ترامب في الانتخابات فيسري كالنار في الهشيم فيتقاسمه مليون مستخدم كما حدث في الولايات المتحدة أثناء الحملة الانتخابية.

 ولمقالات الرأي مزايا متعددة للحد من ظاهرة النشر الكاذب والمزيف فهي ليست في متناول المزيفين وهي بحجمها المختلف وآلياتها المختلفة لا تستهوي عددا كبيرا من المستخدمين وهي لا تتحمل الوقائع المزيفة التي لا يستقيم تحليلها أصلا، زيادة على أنها تساعد على فهم ما يجري. وهي مجال لمساعدة المتلقين على التمييز بين الجوهر والتفاصيل فيها وبين ما يستقيم وما لا يستقيم. وقد يكون جوزيف بوليتزير أفضل من لخص ذلك بقوله منذ قرن ونيف إنه “لا ينبغي أبدا الاكتفاء بنشر الأخبار مجردة”.

الوضع معقد والمتدخلون فيه كثر كل بما لديه في غابة من المصالح تتقاطع فيها سلطة السياسة وسلطة المال

 إن تحذير روسبريدجر من خطر وقوع جزء من الإعلام البريطاني في قبضة السلطة والمال انطلاقا من مثالين رئيسيين هما نشر تسريبات عميل المخابرات الأميركية سابقا إدوارد سنودن وتجسس “نيوز أوف ذي وورد” على عدد من الشخصيات البريطانية في مطلع العقد الحالي هو إشارة إلى تلازم السيادة الوطنية، بالحديث عن تهديد المخابرات، والخصوصية الشخصية بالحديث عن “نيوز أوف ذي وورد”. وما الخصوصية الشخصية إلا من سيادة الفرد على محيطه.

فعندما يقول ذلك الكلام رجل خبر الإعلام أربعين عاما، في بلد ميلاد الليبرالية، منها عشرون في خطة رئيس تحرير الغارديان، فإن علاقة الإعلام بثالوث السياسة والمال والفضائح أصبحت مقلقة وإن دعوته إلى الإبقاء على الصحافة ملكا عاما هي من صميم الحرص على السيادة واستعادتها إلى مجالها الشرعي وإن اتسع الفضاء الاتصالي العام. وإن لم يكن من اليسير استعادتها لفرط ما لحق بعضها من اختراق واهتراء فإنه يبقى ممكنا للأفراد أن يتحصنوا بما هو متاح للحفاظ على “سيادتهم”.

سرية تامة

ما كان أمرا حاصلا في الديمقراطيات وهو سرية المراسلات بددته الشبكات وأصبح مطلبا يجب اكتسابه من جديد. وتحولت مشكلة التعبير عن الرأي من مخاطبة الجميع إلى ضرورة اختيار الذين نتخاطب معهم.

 فعلى الشبكات يكون من غير المجدي مخاطبة الجميع. والآن في فرنسا تطبيق “سكراد” بدأ يشيع استخدامه وهو بديل عن الميسنجر للتحادث الآني بين شخصين ويضمن السرية التامة من جوال إلى آخر دون الحاجة إلى عنوان إلكتروني. ولا يحتاج التطبيق إلا إلى كلمة مرور دون غيرها ولا تترك أي معطيات أخرى تمكّن من اقتفاء أثر مستخدميها.

الوضع معقد والمتدخلون فيه كثر كل بما لديه في غابة من المصالح تتقاطع فيها سلطة السياسة وسلطة المال. أما دعوة عدد من الحريصين على حفظ الديمقراطية من خطر الشبكات إلى أن تلتزم بما هو ملزم للميديا التقليدية فأمر قد يؤدي إلى نتائج لا أحد يعلم مدى نجاعتها وتلك دعوة أصحاب الإعلان العالمي من أجل الإعلام والديمقراطية.

وأمّا قول ألان روسبريدجر “إن آخر مربع لخلاص الصحافة هو أن تبقى ملكا عاما” فهو من النوايا النبيلة التي تقتضي إخضاع الشبكات أولا ثمّ إغلاق المؤسسات الإعلامية الخاصة.