«السترات الصفر» … تناقضات ودروس مستفادة

«السترات الصفر» … تناقضات ودروس مستفادة

يوم السبت الماضي كانت فرنسا على موعد مع الأسبوع السادس لحركة السترات الصفر، لكن المظاهرات افتقرت للزخم وانخفضت أعداد المشاركين، وبدا وكأن الحركة في طريقها للاختفاء، فثمة انقسام في الرأي العام الفرنسي، وفي صفوف المحتجين بشأن الاستمرار في الاحتجاج بعد إعلان ماكرون عن رفع الحد الأدنى للأجور وتخفيض الضرائب، والتي ستكلف الموازنة العامة ما بين 8 و 10 بلايين يورو، وهو ما يشكل ضغطا على عجز الموازنة الفرنسية، من هنا أعلنت المفوضية أنها ستدرس هذه الإجراءات في ضوء المعايير المالية، التي ينبغي أن تلتزم بها كل دول الاتحاد الأوروبي .

المشهد الفرنسي يبدو مرتبكا وخاضعا من وجهة نظري إلى أربعة تناقضات أساسية مترابطة إلى حد كبير ،وهي :-

الأول: بين مقتضيات الالتزام بالنيوليبرالية والتي يعتمدها الاتحاد الأوروبي، وبين الوفاء بالمتطلبات الاجتماعية لقطاعات واسعة من الطبقة الوسطى والفقراء، ويمثل هذا التناقض إشكالية تواجه بقية دول الاتحاد الأوروبي، ربما باستثناء ألمانيا، كما يمثل أيضاً إشكالية تواجه عديداً من الدول الأقل نموا كما في تركيا مصر وتونس والبرازيل والمغرب. وأهم أوجه تلك الإشكالية أن النيوليبرالية تسوق نفسها على أنها تعني الإصلاح الاقتصادي وجذب الاستثمارات وتحفيز النمو الاقتصادي، ومن ثم تحسين الأوضاع المعيشية للمواطنين، لكن هذه العملية تحتاج سنوات عديدة لكي تؤتي ثمارها على الجميع، وفي أحيان أخرى قد تفشل أو تؤدي إلى تعميق عدم المساواة بين المواطنين .

التناقض الثاني: بين الوطنية أو القومية، وبين الأفكار والكيانات الأوسع كالاتحاد الأوروبي والعولمة، حيث تفرض الأخيرة إضافة إلى الاتحاد الأوروبي معايير والتزامات اقتصادية ومالية وسياسية، قد لاتتناسب والسياسيات الاقتصادية والاجتماعية الوطنية أو القومية ما يدفع بقطاعات واسعة من المواطنين إلى الاعتقاد بأن تدهور أوضاعها المعيشية ومعاناتها جاء بسبب تبني النيوليبرالية والعولمة، ولاشك أن هذا المناخ يعد بيئة مناسبة لظهور الاتجاهات الشعبوية، والتي لاتنظر إلى الخلل في البنية الاجتماعية واللامساواة داخل بلادها. وأعتقد أن هذا التناقض يفسر إلى حد كبير ظهور وصعود الترامبية وغيرها من الأحزاب والحركات الشعبوية في أوروبا والدول النامية .

التناقض الثالث يرتبط بالتناقض السابق من زاوية أن حركة السترات الصفر في فرنسا وعديد من الدول الأوروبية تعمل على خلفية العداء للاتحاد الأوروبي كفكرة وكيان فضلا عن رفض العولمة، ومع أن الحركات الصفر في أوروبا لاتنطلق من أيديولوجية واحدة، لأنها تضم اتجاهات سياسية وفكرية متنوعة، لكن من المؤكد أن بين هذه الحركات من يرفض فكرة الاتحاد الأوروبي والتزاماته ذات التوجة النيوليبرالي، والتي تقلل من المكاسب الاجتماعية التي تمتعت بها الشعوب الأوروبية لعقود عديدة. القصد أن السترات الصفر كحركات اجتماعية ضد الفقر والتهميش الاجتماعي قد تقوض ضمنيا من فكرة أوروبا الموحدة، لأن بعض أصحاب السترات يعتقدون أن الاتحاد الأوروبي هو أحد أسباب تدهور الأوضاع المعيشية في أوروبا، ويبدو أن هذا الاعتقاد قد يفسر أسباب تصويت البريطانيين لمصلحة الخروج من الاتحاد الأوروبي. وبالتالي قد تثار أسئلة صعبة حول مستقبل الأحزاب والحركات الشعبوية في أوروبا ومستقبل الاتحاد الأوروبي، في حالة ما إذا نجحت بعض هذه الأحزاب في إجراء استفتاءات على الاستمرار أم الانسحاب من الاتحاد الأوروبي.

التناقض الرابع يرتبط بطموح فرنسا ماكرون للعب أدوار أكبر ضمن الاتحاد الأوروبي وفي العالم، بينما قدراتها الاقتصادية في هذه المرحلة لاترشحها لذلك، فإجمالي الدين العام يعادل حوالي 98 في المئة من الناتج القومي ومعدل البطالة في حدود 9 في المئة بينما في ألمانيا 3.4 في المئة، وأوضحت أحدث البيانات أن معدل النمو السنوي للاقتصاد الفرنسي ثبت عند نسبة 1.5 في المئة، فيما كانت الحكومة تستهدف نسبة 1.7 في المئة للعام الجاري 2018. وأشارت البيانات إلى أن الاقتصاد الفرنسي مقاسا بإجمالي الناتج المحلي حقق نموا بواقع 2.3 في المئة في العام الماضي 2017. من هنا كان حرص ما كرون على اتخاذ خطوات إصلاحية صعبة وإعادة هيكلة لقطاع الطاقة كي تؤكد فرنسا التزامها بمقررات تحسين المناخ والحفاظ على البيئة والتنوع البيولوجي.

مهما يكن من أمر التناقضات السابقة فإنه يمكن القول أن التقاليد والثقافة الفرنسية لعبت دورا كبيرا في الإسراع بعملية احتواء حركة السترات الصفر، والتي لن تقتصر على زيادة الحد الأدنى للأجور وخفض الضرائب، وإنما يواكبها حوار وطني وإعادة ترتيب للبيت الفرنسي، باختصار فرنسا – كما عودت العالم بعد كل انتفاضة أو ثورة – ستتغير بعد حركة السترات الصفر، وبالطبع لن يكون تغيرا ثوريا، وإنما تغير إصلاحي مهم وواسع، وهنا يبرز الدرس الفرنسي الأهم وهو القدرة على تعامل الدولة والنظام السياسي مع انتفاضة شعبية واسعة واستيعابها بهدف تطوير مؤسسات النظام وتحسين الأداء العام ومراعاة الجوانب الاجتماعية بغض النظر عن التكلفة الاقتصادية.

لقد اعتمدت الدولة الفرنسية على القبضة الأمنية والحزم في مواجهة بعض عمليات التخريب، والتي تترافق دائما مع أي مظاهرات شعبية واسعة ليس لها قيادة محددة أو برنامج واضح، لكن الدولة الفرنسية لم تتمسك فقط بالحل الأمني أو بسرديات المؤامرة ووجود جماعات تخريبية وفوضويين، وإنما مزجت بين الحلول الأمنية والسياسية والاجتماعية، وفي الوقت نفسه أكد ماكرون على استمرار سياسته الاقتصادية ورفض إعادة ضريبة الثروة .

والمفارقة أن رمزية السترات الصفر كدلالة وخطاب بسيطة وواضحة وهي .. «انتبهوا الينا «.. ابتكار وممارسة فرنسية ناجحة انتقلت بسرعه عبر أوروبا والعالم إذ التقطها المهمشون وأصحاب الحاجات والمطالب، ونظموا أنفسهم عبر الفايس بوك، هكذا.. انتشر النموذج الفرنسي للسترات الصفر عبر العالم، إلى بلجيكا وهولاندا وألمانيا وتركيا وإيطاليا والسويد وبلغاريا وبريطانيا وإسرائيل وتونس ولبنان والعراق، إضافة إلى ظهور دعوات لتنظيم مظاهرات واسعة في إسبانيا في مطلعكانون الثاني (يناير) القادم، هؤلاء المهمشون غير المرئيين للنخب السياسية في بلادهم، خرجوا حالمين بتكرار نجاح النموذج الفرنسي، هذا النموذج الثوري المتكرر عبر التاريخ منذ الثورة الفرنسية 1789 ربما يكون قد شجعهم، لكن من المؤكد أنهم تظاهروا نتيجة مظالم اجتماعية وسياسية يعانون منها في بلدانهم، وربما أيضاً قد جمعهم شيء من العداء للعولمة أو الاتحاد الأوروبي !! رغم أن السوشيال ميديا هي إحدى أدوات العولمة التي يشتكون من آثارها السلبية !! مهما تكن الأسباب، فإن السؤال الذي أطرحه للتفكير هو هل يمكن تصدير أو استنساخ الدرس الفرنسي بشقية، أي التظاهر وتعامل الدولة؟ أطرح هذا السؤال لأن لكل بلد ظروفه وثقافته وتقاليده السياسية، كما أن مطالب أصحاب السترات الصفر مختلفة من بلد لآخر. وأعتقد أن ما يجمعهم أمرين هما البحث عن العدالة الاجتماعية، واستخدام الفايس بوك – طبعا على غير ما كان يقصد مؤسسه مارك زوكريبرغ – كأداة للحشد السياسي والتعبئة وانطلاق ثورات وانتفاضات شعبية واسعة من دون قائد أو أيديولوجية واحدة، ما ساعدت على ظهور وانتشار عديد وانتفاضات لم تخل من فوضى، كما تعثرت في تحقيق أهدافها. من الانتفاضات والثورات الشعبية منذ مطلع هذا القرن، وهي في معظمها ثورات.

الحياة