عودة موسكو إلى المشهد الآسيوي

عودة موسكو إلى المشهد الآسيوي

كان لروسيا حضور في بعض الأقطار الآسيوية قبل سقوط الاتحاد السوفييتي، من خلال دعمها بالأسلحة والخبراء وتدريب الكوادر على نحو ما كان جلياً في الهند وفيتنام على سبيل المثال. لكن هذا الحضور بدأ بالتراجع تدريجياً في أعقاب انتهاء الحرب الباردة وما تبعه من انفتاح البلدين على الغرب من جهة، ومن جهة أخرى بسبب انشغال موسكو بترتيب بيتها الداخلي ومعالجة اقتصادها المنهار خلال العقود الثلاثة الماضية تقريباً.

اليوم هناك ما يشبه الصحوة الروسية لجهة ضرورة العودة إلى الساحة الآسيوية بقوة من منطلق عدم تركها لقمة سائغة للأمريكيين والصينيين. أما الطريقة التي تنتهجها موسكو فهو العودة من خلال نفس الباب القديم (باب تصدير السلاح والخبراء والفنيين). وإذا كان هذا قد تجلى مؤخراً في حالة تركيا ومن قبلها في حالة سوريا، فإنه في سبتمبر 2018 وقعت هانوي وموسكو صفقة عسكرية بقيمة مليار دولار. وقبل ذلك وقع البلدان عقداً بقيمة ملياري دولار تزود موسكو بموجبها هانوي بست غواصات استلمت هانوي أولاها بالفعل في يناير 2017.

وما حدث بين فيتنام وروسيا تكرر بين الأخيرة والهند، الحليفة الاستراتيجية السابقة للاتحاد السوفيتي. ففي أكتوبر 2017 طار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى نيودلهي لعقد صفقة عسكرية بقيمة خمسة مليارات دولار يزود الروس بموجبها الهنود بصواريخ روسية متطورة من نوع إس 400 التي قال المحللون إن الهند اضطرت لشرائها حماية لأراضيها من تهديدات صينية محتملة، خصوصاً وأن الصين والهند كانتا في هذه الفترة قاب قوسين أو أدنى من التصادم العسكري في أعقاب توغل القوات الصينية إلى مملكة بوتان الجبلية لشق طريق في أراض متنازع عليها.

والحقيقة أن عودة موسكو اليوم إلى آسيا يأتي في وقت تغير فيه المشهد الجيوسياسي الآسيوي بظهور التنين الصيني كقوة مهابة سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، الأمر الذي خلط الأوراق وجعل من الطموحات الروسية أكثر صعوبة.

غير أن موسكو على ما يبدو متمسكة بطموحاتها وتراهن على تطابق سياساتها مع سياسات بكين لجهة التصدي للنفوذ الأمريكي والغربي في آسيا. وليس أدل على ذلك من قيامها مؤخراً بتدريبات جوية مع بكين فوق بحر اليابان، ناهيك عن مناورات عسكرية مشتركة العام الماضي تحت إسم «فوستوك 2018» اشترك فيها 300 ألف عنصر من القوات الروسية و3200 عنصر من الجيش الأحمر الصيني، وذلك لأول مرة منذ الحرب العقائدية بين الصين والاتحاد السوفيتي في الستينات.

على أن هذا التقارب والتعاون الروسي ــ الصيني يختفي تحته شكوك وهواجس مصدرها بكين. فالأخيرة منزعجة من الاتفاقيات العسكرية التي أبرمتها وتبرمها موسكو مع خصمين لدودين من خصومها (الهند وفيتنام). لذا قيل إن موسكو تحاول ترضية بكين بتصدير السلاح الروسي المتطور لها أيضا. حيث باعت موسكو لبكين في عام 2017 وحده ما قيمته 15 مليار دولار من الأسلحة شاملة الطائرات المقاتلة من نوع سوخوي المتطور وصواريخ جو ــ جو وغيرها.

سياسة روسيا هذه، وصفها الخبير العسكري الأمريكي «ستيفن بلانك» بالدبلوماسية المزدوجة. بمعنى أن موسكو تزود بكين بالسلاح من باب تأييدها ضد المخططات الأمريكية، وفي الوقت نفسه تزود خصوم الصين بالسلاح نفسه وتؤيدهم خلف الأبواب المغلقة لجهة التصدي لطموحات بكين في أعالي البحار وادعاءات الصينيين السيادة المطلقة على مياه بحري الصين الجنوبي والشرقي.

بعض المحللين قال إن قيام موسكو بالتعاون العسكري مع بكين هدفه جذب الاستثمارات الصينية لروسيا، لأن الأبواب الاستثمارية الأخرى مغلقة أمامها. البعض الآخر قال إن هدف موسكو من سياساتها المزدوجة هو منع قيام نظام عالمي جديد بقطبين أمريكي وصيني، وبالتالي فإن ما يفعله بوتين ليس سوى خلق توازن ضروري.

أما البعض الثالث فقد أشار إلى إن للموضوع جانباً اقتصادياً يتعلق بعزم موسكو على تجديد دورها وتعزيز نفوذها في آسيا من خلال مبيعات الأسلحة التي تمثل مصدراً من مصادر الحصول على العملة الصعبة مثلها مثل النفط الخام والغاز والمنتجات البتروكيماوية.

ولا ننسى هنا تودد موسكو إلى كل من جاكرتا ورانغون عبر تصدير السلاح لهما بمليارات الدولارات.

البيان