يرى البعض أن حركة الاحتجاج التي تحولت سريعا إلى انتفاضة منذ أيامها الأولى من شهر أكتوبر/تشرين الأول، شيعية، وبكلمات أوضح أن الانتفاضة ما تزال محصورة في المدن الشيعية فقط، بينما لم تشارك فيها المدن السنية والكردية حتى الآن.
وإذا كان توصيف (حراك شيعي) يمكن أن ينطبق على انتفاضة مدن الجنوب العراقي ذات الأغلبية الشيعية، فهل ينطبق هذا التوصيف على ما يحدث في العاصمة بغداد؟ ومن المعلوم أن ساحات الحراك في العاصمة مختلطة، ولا توجد هوية طائفية للمشاركين فيها، بل أن أحد أهم سماتها هو رفض التوصيف، أو التنميط الطائفي أو العرقي في الساحات والمناطق التي شهدت حراك انتفاضة تشرين.
لكن من جانب آخر يقول البعض أن الانتفاضة تركزت في جانب الرصافة ذي الأغلبية الشيعية، بينما لم تخرج في مناطق جانب الكرخ ذي الأغلبية السنية مظاهرات. وهذا الكلام مردود عليه أيضا، لأن «ساحة التحرير» وهي ساحة الانتفاضة الرئيسية تقع في الرصافة في مركز بغداد، وعندما تم قطع الطرق ومنعت القوات الحكومية جموع الناس من التوافد على ساحة التحرير، سرعان ما تحولت ساحة النسور في قلب الكرخ إلى ساحة انتفاضة موازية، لكن سرعان ما تم تفريق المتجمهرين بالقوة المفرطة، نتيجة قرب هذه الساحة من المنطقة الخضراء شديدة التحصين، ونتيجة خوف قوى الأمن الحكومية من زحف المحتجين باتجاه المنطقة الخضراء، التي لا يفصلها نهر دجلة كما هو الحال في ساحة التحرير. وإذا أردنا تسليط الضوء على موقف إقليم كردستان من انتفاضة تشرين، نقول أن هناك مجموعة معطيات يجب أخذها بنظر الاعتبار، أهمها أن وضع الإقليم والحراك الشعبي، الذي حصل فيه احتجاجا على الأوضاع الاقتصادية السيئة، وحملات القمع الشرسة التي جوبه بها هذا الحراك من حكومتي الإقليم في أربيل والسليمانية، والتي اتصفت بالعنف المفرط، أدت إلى تحجيم الحراك وانكفائه نهائيا، كما أن حملات قمع الحريات واغتيال الصحافيين مستمرة وبشكل ممنهج. يضاف إلى ذلك خوف الشارع الكردي، والإحساس بالخيبة الذي يسود الجو العام في الإقليم بعد فشل تجربة الاستفتاء على الانفصال، هذا الإحساس جعل الشارع الكردي يصاب بحالة نكسة وانغلاق، ودفعته نحو الخوف من التعاطي مع الإشكالات الوطنية العراقية، واعتبارها أمرا بعيدا عن أولوياته المنصبة على الخروج من الأزمة الاقتصادية الخانقة التي يعيشها الإقليم، بالإضافة إلى ترسيخ إعلام الحزبين الكرديين الكبيرين للمخاوف في وعي رجل الشارع الكردي بإشاعة مفادها؛ أن قوة بغداد يعني بلا أدنى شك عودة الديكتاتورية التي ستضطهد الأكراد. بينما بدا الموقف الرسمي لحكومة إقليم كردستان واضحا عبر تصريحات مسعود بارزاني المتخوفة من نجاح الانتفاضة العراقية في تحقيق مطالبها، وفي مقدمتها تعديل الدستور، وإقالة الحكومة، والذهاب إلى تعديل قانون الانتخاب، وتشكيل مفوضية عليا للانتخابات مستقلة بشكل حقيقي. ولأن بارزاني يتخوف من قوة بغداد، وما ستحصل عليه من دعم شعبي في حال انتصار إرادة المنتفضين، ما قد يقوض كل ما حققه سابقا من إنجازات تمثلت في شراكة قائمة على حالة الاستقلال في القرار، وعدم تحمل المسؤولية في الأخطار.
وفي محاولة للهروب إلى الأمام، طالب بارزاني بتحويل كركوك إلى إقليم، ومن ثم توحد إقليمي كردستان وكركوك، ليرتبطا مع بغداد بشراكة كونفدرالية، بمعنى أن بارزاني يسعى للحصول على ما فشل في تحقيقه في استفتاء الانفصال، عبر فرضه على شركائه السياسيين المهددين بالإطاحة بهم اليوم في خضم ما ولدته الانتفاضة من تهديدات لكل الطبقة السياسية.
انتفاضة تشرين مثلت خطوة مهمة في إعادة وهج الروح الوطنية الساعية لاحتواء كل الهويات الفرعية ضمن وطن واحد يحتضن الجميع
أما الشارع السني، فما زال متخوفا من تكرار تجربة ساحات الاعتصام التي شهدتها المدن السنية عام 2013، والتي فشلت حكومة المالكي الثانية حينها في احتوائها، عبر إيجاد حلول سياسية حقيقية تقنع الشارع السني، ما حول ساحات الاعتصام إلى بؤرة استقطاب لمختلف قوى الإرهاب، وفي مقدمتها تنظيم «القاعدة» الذي تسلل إلى خيام المعتصمين، والنتيجة ارتفاع رايات «القاعدة» على منصات الاعتصام، ومن ثم الانجرار إلى ما حصل بعد ذلك عندما سقطت كل مدن السنة بيد تنظيم «داعش». عمليات تحرير المدن السنية من سيطرة تنظيم «داعش» الارهابي كلف هذه المدن وسكانها الكثير، وأبرز تجلياتها سنيا، هجرة الملايين وتشتتهم في معسكرات الإيواء، ومدن مدمرة لا أحد يعلم متى سيتم إعمارها. لنشهد بعد ذلك عودة السياسيين السنة الفاسدين إلى بغداد، وكأن شيئا لم يكن، ودخولهم ائتلافات حكومية جديدة في انتخابات 2018، ووضع إيديهم بأيدي من قاتلوهم إبان حرب «داعش»، وبات المشهد الذي راقبه العراقيون باندهاش مضحكا مبكيا، وبقيت الحيرة إزاء هذا المشهد تلف الشارع الشيعي، الذي دفع دماء الآلاف من شبابه في قتال «داعش»، وليبقى الخاسر الأكبر ابن الشارع السني الذي هُجّر ودُمرت مدنه وتشتت عوائله في المخيمات والمنافي. لذا نحن اليوم إزاء موقف سنة العراق، الذي يمكن أن يترجم وفق النوايا المتعاطية مع طروحات الشارع السني، إذ نجد البعض يبررها بأنها خوف من بطش القوات الحكومية، وتحديدا فصائل الحشد الشعبي ذات اليد الطولى في المدن السنية المحررة، إذا ما حصل فيها حراك شعبي، وعندها سوف يتهمون بانهم خلايا «داعش» النائمة التي بدأت تتحرك لينقضوا عليهم بكل عنف، بينما يرى البعض موقف الشارع السني موقفا انتهازيا، ينتظر نتيجة الاقتتال الشيعي المتوقع، وهو يرفع شعار (نارهم تأكل حطبهم) بمعنى أن موقفه يتماهى مع موقف حكومة إقليم كردستان المتمثل بالجلوس على التل، وانتظار ما ستفرزه الانتفاضة، وحينها سيكون لكل حادث حديث.
لكن هنالك نقطة مهمة جديرة بالانتباه، وهي أن القوى السنية والكردية المشاركة في الحكومة والبرلمان مهددة بالاطاحة، فالانتفاضة لا تطالب بإقالة الشيعة والابقاء على السنة والكرد، بل المطالب واضحة وتتمثل بتغيير جذري للعملية السياسية، يعني أن رئيس البرلمان السني محمد الحلبوسي، ومن سبقه ممن ترأسوا البرلمان من السنة متهمون، وهنالك مطالب بفتح ملفات فسادهم ومحاسبتهم، كذلك الحال مع رئيس الجمهورية الكردي برهم صالح ومن سبقه من رؤساء الجمهورية يواجهون اليوم مطالب بفتح ملفات فسادهم ومحاسبتهم أيضا. كما يجب تسليط الضوء على نقطة أخرى هي؛ أن أحزاب الإسلام السياسي الشيعي، التي تغنت طوال ستة عشر عاما من سيطرتها الكبيرة على العملية السياسية، مدعية تمثيل الشيعة، رافعة شعار رفع المظلومية التاريخية عنهم، وإن هذه الاحزاب طرحت نفسها باعتبارها المتحدث الرسمي باسم المناطق المهمشة، التي لم تحظ بخيرات العراق، والنتيجة نكبة على كل الأصعدة، والذي يقارن أوضاع العراق بين ما كان وما هو كائن اليوم سيكتشف أن مافيات الفساد، التي انشأتها أحزاب الإسلام السياسي الشيعي وشركاؤهم في العملية السياسية في بغداد والمناطق الشيعية فشلت في تحقيق ولو جزء صغير مما حققته حكومة إقليم كردستان من مظاهر رخاء وتوفير الخدمات والاستقرار الأمني، على الرغم من أن حكومة الإقليم هي الاخرى متهمة بالكثير من ملفات الفساد، إلا أن كارثة مدن الشيعة في زمن حكم أحزاب الشيعة كانت غير مسبوقة على كل الاصعدة.
بالتالي، عندما يخرج اليوم ابن مدينتي كربلاء والنجف، وهما معقلا التشيع في العراق، ويهاجم رموز الإسلام السياسي الشيعي، فلن يجرؤ أحد على اتهامه بانه داعشي أو بعثي أو عميل لإسرائيل أو أمريكا، وعندما يخرج ابن مدينة الثورة الذي عاش ست عشرة سنة من الحرمان، أضيفت إلى حرمانه السابق وويلاته التي عاشها تحت ظل الحكم الديكتاتوري، عندما يخرج مطالبا بوطن يحترم حاجاته ويوفرها له من دون منة، فلن يلومه أحد، لأنه انتفض على الفاسدين من قيادات التيار الصدري الشيعي الشعبوي، الذي زعم احتكار تمثيل فقراء الشيعة على مدى المدة المنصرمة كلها. لكن في هذه الفورة الثورية شديدة الحماسة هل يمكننا الركون إلى معطياتها والقول، إن انتفاضة تشرين فككت كل الاحتقانات الطائفية، وأعادت تقديم الهوية الوطنية الجامعة، كما يحاول المتحمسون للانتفاضة القول؟ أنا أشك في ذلك لان هذه البنية العميقة تحتاج لعمل دؤوب قد يستمر لسنوات مقبلة، لإزاحة صدأ ما تراكم على الروح العراقية، لكن انتفاضة تشرين وبكل تأكيد مثلت خطوة كبيرة ومهمة في إعادة وهج الروح الوطنية الساعية لاحتواء كل الهويات الفرعية وصونها ضمن وطن واحد يحتضن الجميع.