على الرغم من أن الخارجية الأميركية انتقدت مذكرة التفاهم التي أبرمتها أنقرة وطرابلس للتعاون الأمني، والاتفاق بينهما بشأن الحدود البحرية في شرق المتوسط والتي وصفتها بأنها استفزازية وغير مفيدة، إلا أن المحرك الأساسي للتوجه الأميركي حالياً هو الكونغرس الذي سعى بكل قوة لمواجهة جهود تركيا في شرق المتوسط عبر دعم حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة مثل اليونان وقبرص وإسرائيل، فقد كان التشريع الذي أقره الأسبوع الماضي ضمن حزمة الإنفاق الحكومي وصدّق عليه الرئيس الأميركي دونالد ترمب، هو رأس الحَربة الذي تدخل به واشنطن كلاعب رئيسي في معركة الصراع على الغاز الطبيعي عبر اتفاقات تشاركية في مجالي الأمن والطاقة مع دول شرق البحر المتوسط.
وبينما يعزز تشريع الكونغرس العلاقات العسكرية بين اليونان والولايات المتحدة، كما يرفع حظر تصدير السلاح الأميركي إلى قبرص المفروض منذ 10 أعوام فإنه يؤكد أيضاً التزام الولايات المتحدة تجاه حلفائها ويضع طموحات تركيا الإقليمية محل اختبار وفي موضع المحاسبة.
فجر جديد
وحسب السيناتور الجمهوري ماركو روبيو، فإن هذا التشريع الذي شارك في صياغته، يقدم مقاربة شاملة لتحقيق الاستقرار للشركاء الإقليميين الأساسيين، في حين وصف السيناتور الديمقراطي بوب مننديز التشريع بأنه يشكل فجر يوم جديداً لتواجد ومشاركة الولايات المتحدة في منطقة شرق المتوسط.
ويقول مراقبون في واشنطن، إنه في ظل اكتشاف حقول ضخمة للغاز خلال العقد الماضي في مياه المتوسط بين مصر وقبرص وإسرائيل، تغيرت ديناميات المنطقة المضطربة، ووفرت سبل جديدة للتعاون الاقتصادي بين إسرائيل وجيرانها العرب، كما شكلت دفعة للتنمية الاقتصادية وزيادة القدرة التنافسية على سوق الطاقة الأوروبي، ما يتوقع معه أن يضر بروسيا التي تصدر الغاز للسوق نفسها، كما جعل ذلك تركيا عدوانية بشكل متزايد، ولهذا وقعت اتفاقاً بشأن الحدود البحرية مع حكومة الوفاق في ليبيا من شأنه أن يخترق المياه الإقليمية لقبرص واليونان ويهدد مطالبها وحقوقها في الاكتشافات الغازية المتفق عليها ضمن مناطقها الاقتصادية.
شراكة وشيكة
وبينما ترفض اليونان وقبرص الاتفاق التركي الليبي باعتباره منافياً للعقل من الناحية الجغرافية لأنه يتجاهل وجود جزيرة كريت اليونانية في منتصف الطريق بين تركيا وليبيا، فإن التصرف التركي سيصب الزيت على نار الخلافات المشتعلة أصلاً، إذ تتهم أثينا أنقرة بانتهاك المجال الجوي اليوناني بشكل متكرر، كما ستفجر الخطوات التركية نزاعاً اقليمياً تاريخياً مستمراً منذ نصف قرن بسبب احتلال تركيا لنصف الجزيرة القبرصية الشمالي منذ أوائل السبعينات، ما يجعل المنطقة غير مستقرة ويدفع الولايات المتحدة إلى عقد شراكة وشيكة مع قبرص واليونان وإسرائيل في ظل التحول التركي بعيداً عن الغرب، وفقاً لوصف غوس بيليراكيس عضو مجلس النواب الأميركي عن ولاية فلوريدا.
مطرقة الكونغرس
ويشير محللون سياسيون في العاصمة الأميركية إلى أن تحرك الكونغرس هذه المرة يختلف عن إجراءاته السابقة، فقد خرج التشريع بتوافق كامل بين الجمهوريين والديمقراطيين ما سيصعب معه اعتراض الرئيس ترمب على تنفيذ أحكامه مستقبلاً، بل شبّه البعض التشريع الأخير بالمطرقة ضد تركيا لكونه يفوض للوكالات الفيدرالية والهيئات الحكومية الإبلاغ عن أي انتهاكات تركية للمجال الجوي والمياه الإقليمية لكل من قبرص واليونان حلفاء حلف شمال الأطلسي (الناتو)، كما يمنع الأحكام الرئيسة في تشريع الكونغرس حلفاء (الناتو) من الانضمام إلى برنامج انتاج الطائرة الشبحية الأميركية المتطورة (إف 35) طالما احتفظت بمنظومة الصواريخ الدفاعية الروسية (إس 400) ضمن تسليحها.
قوة جماعات الضغط
ولعبت جماعات الضغط في واشنطن دوراً مهماً في تمرير التشريع ضد تركيا، وتقول جولي رايمان نائبة مدير الشؤون السياسية والدبلوماسية في اللجنة اليهودية الأميركية التي وقفت خلف تمرير تشريع الكونغرس، إن فقرات القانون الجديد المتضمن في مشروع الميزانية تضع الولايات المتحدة في موضع يسمح لها بالمساهمة في وقائع متغيرة على الأرض، كما يسمح بمحاسبة تركيا بقوة بفضل ما يتيحه من إجبار الكونغرس والحكومة الأميركية على الرد تجاه أي اعتداء أو استفزاز تركي ما سيكون له أثراً كبيراً.
كما دانت منظمة “مسيحيون موحدون” من أجل إسرائيل، والتي تعد واحدة من أكبر المنظمات الإنجيلية الداعمة للرئيس ترمب، الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بسبب تهديداته للولايات المتحدة وإسرائيل، وقال مؤسس المنظمة ورئيسها الحالي القس جون هاغي في بيان له، إن تركيا تحت إدارة أردوغان السلطوية تخلت عن القيم التي جعلتها يوماً دولة حليفة للولايات المتحدة، وإن أقلّ ما يمكن عمله هو زيادة التعاون بين الولايات المتحدة واليونان وقبرص وإسرائيل كي ترى تركيا أن الدول الصغيرة والكبيرة لن تتأثر بالاستفزازات التركية.
وأوضح القس هاغي أنه إذا واصلت تركيا تحولها وتقاربها مع كل من روسيا وإيران، فإن اقتصادها سيعاني، وسوف يكتشفون قريباً جداً أن حلفاءهم الوحيدين هم ذلك المحور الصغير من الدول المنبوذة.
سياسة الباب المفتوح
غير أن تركيا لم يُغلق الباب في وجهها بالكامل على الرغم من التهديد بمحاسبتها حسب وصف إندي زيمينديس، المدير التنفيذي للمجلس الأميركي الهيلينستي، وأحد الداعمين للمشروع الذي أقره الكونغرس، إذ عبّر عن شكوكه تجاه رغبة أي طرف في شطب تركيا من المعادلة، لكن الجميع الآن يتفق على رفض السماح لتركيا بلعب سياسة الرهائن مع الأطراف الأخرى، وأشار إلى أنه على الرغم من تعزيز دفاعات كل من قبرص واليونان، فإن وزيري خارجية البلدين ألمحا أنهما يتركان الباب مفتوحاً أمام تركيا كي تنضم إلى الاتفاقيات المحيطة بتنمية طاقة الغاز الطبيعي في المنطقة.
وكان وزير الخارجية القبرصي نيكوس كريستودوليدس صرح لوكالة “أسوشيتد برس” أن هناك أهدافاً مشتركة ومقاربات (في إشارة إلى تركيا)، وأن الخطوات التي اتخذتها اليونان وقبرص ليست موجهة ضد أي طرف، بل إنها إيجابية، وندعو أياً كان للمشاركة فيها طالما وافق على الإطار المنظم لها، لكنه عبّر في الوقت نفسه عن اعتقاده بأن الإطار المناسب لمواجهة أفعال من يريدون خلق أجواء عدم الاستقرار في شرق المتوسط عبر انتهاك القانون الدولي، يجري إنشاؤه حالياً.
ومن المتوقع أن تعلن كل من قبرص واليونان وإسرائيل في الثاني من شهر يناير (كانون الثاني) المقبل عن خطط لتشييد خط أنابيب غاز طبيعي من شرق المتوسط إلى أوروبا.
اندبندت العربي