في فيلم وثائقي صدر عام 2011 يكشف هادي زكاك، مخرج الفيلم، الهيمنة النفسيّة التي مارستها سيارة مرسيدس بنز على المجتمع اللبناني، حيث كانت العربة المفضلة للنقل بالأجرة (التاكسي والسرفيس)، وبالتالي كانت مجال رزق «الكادحين»، كما أنها كانت سيّارة النخبة، من رئيس الجمهورية والوزراء والنواب، إلى قادة الأحزاب والميليشيات، على اختلاف أهوائهم وطوائفهم (وعلى خلفية من مشاهد الحرب الأهلية والدمار والقتل والفولكلور التقليدي المضحك، يظهر اللبنانيون المتقاتلون أبناء في طائفة واحدة قديسها أو قائدها أو سيّدها هو «مار سيدس» (لا أدري إن كان المخرج تعمد استخدام تهجئة «مارسيدس» لاسم السيارة – الذي هو أيضا عنوان الفيلم ـ بحيث يشبه اسم مؤسس القديسين اللبنانيين، كمار مارون وشربل إلخ).
انتبه كتّاب وإعلاميّون، أيضاً، كما فعل زميلنا بسام البدارين، إلى اللقطة التي حملتها جنازة الجنرال قاسم سليماني في العراق، حيث شيّع بسيارة «كرايسلر» أمريكية (ورمزها كما هو معلوم الصليب)، وهي مفارقة تلخص بعض عجائب السياسات العالمية، لكن هذه المفارقة لا تكتمل إلا بملاحظة أخرى وهي أن السيّارة التي حملت الجنرال من مطار بغداد كانت سيارة تويوتا. ويكتشف من يفتش في صور قوافل السيّارات الميليشياتية سيادة واضحة لهذه السيّارة اليابانية، وسيجد المتابع صورا لقوافل عسكرية لتنظيم «الدولة»، والحوثيين، و»الحشد الشعبي» وقوات خليفة حفتر وغيرهم كلها تستخدم طوابير طويلة من سيارات «تويوتا»، فما هو سرّ هذه «الحظوة» السياسية للسيارة اليابانية؟
الشركة البائسة من «العالم النامي»
في كتابه «السامريّ السيئ: أمم غنية، سياسات فقيرة وتهديد دول العالم النامي»، يسرد المفكر البريطاني الكوري ها ـ جون تشانغ، كيف قامت دولة من «العالم النامي» (كما يصفها) بتصدير سيارتها الأولى للولايات المتحدة الأمريكية، التي ووجهت بفشل ذريع، فتم سحبها وتبع ذلك نقاش واسع فطرح البعض عودة الشركة إلى منتجها الأساسي، وهو تصدير الحرير وإنتاج أدوات خياطة بسيطة، فبعد 25 سنة من محاولة صناعة سيارة جيدة، فالأكيد أن لا مستقبل لها في صناعة السيارات. لقد قامت الحكومة بكل ما يمكن لتأمين أرباح عالية لتلك الشركة من خلال وضع تعريفات عالية وشروط فظيعة على الاستثمارات الأجنبية في صناعة السيارات ومنذ زمن غير طويل حمتها من الإفلاس بغطاء ماليّ من أموال الشعب.
جادل آخرون في أن لا بلد في العالم تمكن من النجاح اقتصاديا، من دون صناعات «مهمة» كإنتاج السيارات، وأنهم بحاجة إلى وقت أكثر لصنع سيارات تستجيب لمتطلبات الجميع. جرى ذلك عام 1958، وكان البلد هو اليابان، والشركة كانت تويوتا التي بدأت بصناعة السيارات عام 1933، ولحمايتها قامت الحكومة بطرد شركتي فورد وجنرال موتورز الأمريكيتين عام 1939 وأمّنت استثمارات لتويوتا من البنك المركزي. صارت السيارات اليابانية اليوم أمرا طبيعيا مثل السلمون الاسكتلندي والنبيذ الفرنسي، لكنها قبل 50 عاما، كان أغلب الناس، بمن فيهم يابانيون كثر يعتقدون أن صناعة السيارات يجب أن تتوقف.
انتقلت عائلتي إلى لبنان وأنا في عمر السابعة وسار والدي على نهج باقي اللبنانيين فاقتنى سيّارة مرسيدس في نزوع واضح للانخراط في سلك الوجهاء، فقد افتتح والدي مطابع في شارع مهم من بيروت، على مبعدة حجر من بناية كان يسكنها نبيه بري، ولم يكن حينها رئيسا لحركة «أمل» بعد (كان زعيمها هو حسين الحسيني)، وكذلك زاهر الخطيب، النائب اللبناني عن إقليم الخروب. لم تدم فترة الوجاهة كثيرا فقد بدأت الحرب الأهلية وأغلقت «مطابع الحسام» (تفاؤلا باسمي!) فافتتح والدي مطعما في حيّ رأس النبع قريبا من بيتنا (غير بعيد عن مقر للحزب الشيوعي اللبناني)، وحين ضاقت به الأحوال وأغلقت المحلات والشوارع واستفحلت الحرب، استخدم سيارة المرسيدس في نقل الركاب من منطقة البربير إلى شارع الحمراء.
قرّر أخي الأصغر أن يجرّب حظه مع السيارات فاشترى رينو كافاليير، وهي سيارة سباق، وكان سباقه الأول فيها هو الأخير فقد اصطدم بسيّارة اندفعت نحو محل وحطمته، وحين حاول الهرب أمسكته عناصر من الحزب التقدمي الاشتراكي في المنطقة، وانتهى الأمر بتسليمه السيارة كتعويض عن الأضرار.
في حمى تشاوشسكو و»بيجو 504»
كانت تجربتي الأولى مع السيارات في قبرص، التي انتقلت إليها في الثمانينيات من القرن الماضي، وعبّرت هذه التجربة، عن عشوائية وقصر نظر، كما هو مفترض من شخص كانت علاقته بالواقع تمرّ عبر الكتب والأيديولوجيا، وليس عبر الحياة، فباعني أحدهم سيّارة لادا روسيّة اضطررت للتخلص منها بسرعة لسوء أدائها، ويبدو أن الشاري قد نقم عليّ فحضّر خديعة يستغل فيها سذاجتي طالبا وضع مال في حسابه ليوم واحد كي يدعم طلبه للإقامة أو لفيزا، ثم ذهب للمصرف طالبا سحب المبلغ نقدا! أعتقد أن ما ساهم في شرائي للسيّارة الروسية كان بقايا من يساريّتي المزمنة، وربما بفعل دعاية زياد الرحباني في إذاعة «صوت الشعب» للعربة البائسة بأغنية ظريفة، ورغم خيبة أملي الكبيرة منها يبدو أن أوهامي الاشتراكية كانت أقوى من النكبات، فقد خدعني بائع آخر كان يعمل في مركز أبحاث عربيّ في نيقوسيا، سيارة من ماركة «أرو»، والأغلب أن قراءتكم لهذا الاسم ستكون آخر مرة ستسمعونه بها، لأنها صناعة رومانيّة من أيام الديكتاتور الراحل تشاوشسكو.
رحّب صديق مصريّ كان يتباهى بسيّارة زوجته المرسيدس الحمراء المكشوفة بأخذ السيارة الشيوعية مجانا، ثم ندم على ذلك أيضاً لاكتشافه يباسة مقودها الخطيرة، وصعوبة قنونتها كونها مسجلة على شركة من خارج البحار! هبطت بعدها بعفوية إلى «جنّة الرأسمالية» فاشتريت سيارة «بيجو 504» بطرازها القديم الذي يشبه الدبابة، ولكن توقعات كارل ماركس عن اندحار الرأسمالية صدقت، في حالتي على الأقل، حيث هوت السيّارة بي وأنا أسوق على الطريق السريع نحو نيقوسيا واستفقت مهشما ومكسور الذراع في مشفى ليماسول، أما السيّارة الضخمة فتكوّرت على نفسها مثل جنين وأصبحت كتلة حديد بائسة. استمر مسلسل الهزائم مع السيّارات بعد الهجرة إلى لندن والسبب مفهوم طبعا وهو أن الشرط الأول للشراء كان الرخص: سيّارة تتوقف كل مئة متر تكاد تحترق بسبب عطل الرادياتور، وأخرى بمكيّف عاطل عن العمل، وثالثة كسيرة الجناحين ومهشمة الأضلع. وصلت أخيرا إلى بعض الهدوء النسبيّ مع سيّارة روفر بريطانية احتملت مشاكساتي لها عدة سنوات، قبل أن تحيل نفسها للتقاعد، لتبدأ بعدها، وهنا بيت القصيد طبعا، مرحلة السيارات اليابانية.
اشتريت تويوتا طويلة الذنب Estate أهلكتها بحمولات لمشروعات تحسين لا تحصى من المفروشات إلى الأشجار المقطعة إلى أكياس الزبالة، ثم ورثت سيّارة هوندا كانت زوجتي قد اشترتها وأصيبت بنكسة بعد محاولة ابني الصغير تشغيلها بشيفرة مشرط طويلة فبعتها لشركة تشتري السيّارات الهالكة، ثم ورثت سيارة تويوتا ثانية صغيرة من قريب لي وصار لها فترة تئن وتعوي وتتجهّز كسابقاتها للوفاة والانتقال للراحة الأبدية إلى فردوس السيارات.
بعد هذه المكابدات الطويلة والإحساس الأخلاقي المتزايد بمسؤوليتي الشخصية عن الاحترار العالمي، زرت قبل فترة وكالة «تيسلا» للسيارات الكهربائية (أيقونة الصناعة سيارات الكهرباء الأمريكية) وتدارست إمكانية تقسيط أرخص الموديلات لديها، ولكنّني اكتشفت أن هذه العربات البديعة ما تزال خارج قدراتي الماليّة فـ«حبّة» واحدة منها تساوي قيمة السيارة التي أركبها مضروبة بثلاثين مرّة، وعليه استشرت كعادتي مجلة Which? التي تنصح المستهلكين بأفضل الخيارات وكان خيارها الأول سيارة لكزس بدءا من 2015 حتى اليوم، وبالتالي فهناك مجال معقول للاختيار من السيارات المستهلكة التي تراجع سعرها عبر السنين، فهل سأحظى بشرف اللكزس التي جعلها توماس فريدمان عنوان كتابه الشهير، أم سأعود للقتال، حسب نبوءته، على أشجار الزيتون؟
حسام الدين محمد
القدس العربي