مرحلة ما بعد اغتيال الجنرال قاسم سليماني مفتوحة على المألوف واللامألوف. والمشهد يزداد إثارة في المبارزة بين لاعب الشطرنج الإيراني ولاعب البيسبول الأميركي. الرئيس دونالد ترمب يلعب في غموض استراتيجي بالنسبة إلى حلفائه وخصومه حيال إيران والشرق الأوسط، كما تقول “نيويورك تايمز”. والمرشد الأعلى على خامنئي يلعب ضمن استراتيجية واضحة وثابتة حيال أميركا والمنطقة.
الأول يحيط به فريق متشدد يضمّ نائب الرئيس مايك بنس ووزيري الخارجية والدفاع مايك بومبيو ومارك إسبر، ومستشار الأمن القومي روبرت أوبراين، وينتقده خصومه الديمقراطيون ونخبة المسؤولين الذين عملوا مع الرئيس باراك أوباما.
والثاني يخضع له المحافظون والإصلاحيون، بحيث يزايد الرئيس حسن روحاني ووزير الخارجية محمد جواد ظريف على الجنرال حسين سلامي قائد الحرس الثوري، والعميد إسماعيل قاآني، خليفة سليماني في قيادة فيلق القدس. وهما معاً ضد الذهاب إلى حرب شاملة، لكنهما محكومان بآليات التصعيد في الرد.
ولا فرق، سواء استمر الصدام المباشر باغتيال أميركا سليماني، ورد طهران بقصف قاعدة عين الأسد العراقية التي تضم قوات أميركية، أو انتقل إلى مرحلة الحرب بالوكالة عبر وكلاء طهران في المنطقة.
هدف ترمب أصغر من إمكانات أميركا وقدرتها كقوة عظمى: تغيير سلوك إيران، لا تغيير نظامها، ودفعها إلى التفاوض. وأسلوبه المفضل هو “الضغط الأقصى” عبر العقوبات الاقتصادية. إذ هو، كما يقول ميكا زنكو، المتخصص في الأمن القومي، باستعماله كما الرؤساء الأميركيين للقوة “صقر سلبي” يريد أن يبدو “صارماً” من دون أن يتخذ القرارات العسكرية التي ترتّب عليه التزامات بعيدة المدى.
وهدف خامنئي أكبر من إمكانات إيران كقوة إقليمية: إخراج القوات الأميركية من المنطقة. وهو هدف غير جديد ولا وحيد، وإن صار على جدول الأعمال بعد اغتيال سليماني. فهو ضمن الأهداف الجيوسياسية لجمهورية الملالي منذ عقود. فضلاً عن أنه عنصر يساعد في اكتمال الهدف الأهم، أي إعادة هيكلة الشرق الأوسط وتغيير نسيجه الاجتماعي لإقامة إمبراطورية ثيوقراطية تعيد كتابة التاريخ و”تصحيحه”.
والمعادلة واضحة: آلية التصعيد تجعل من الصعب الاستمرار في إدارة الأزمة بين أميركا وإيران بشيء من حرب العصابات وشيء من “التساكن” في أفغانستان والعراق بعد الخدمة التي قدمتها واشنطن لطهران بإسقاط نظامي صدام حسين وطالبان.
حتى “حرب العصابات الصاروخية” التي تبدو الخيار المرجح حالياً، فإن أي خطأ فيها يقود إلى تصعيد خطير محتوم. وليس أمراً قليل الدلالات أن يركز مجلس الأمن القومي الإيراني بحضور استثنائي لخامنئي بعد اغتيال سليماني على القول إن “أميركا ارتكبت أكبر خطأ استراتيجي في غرب آسيا، ولن تتخلص بسهولة من دفع ثمن الخطأ في الحسابات”. أليس من أقوال تاليران المشهورة في السياسة قوله “هذه أكبر من جريمة، إنها غلطة”؟ وإذا كان من الصعب الحفاظ على “ستاتيكو” أزمة يتحرك قليلاً، فإن الاحتمالات تقود إلى واحد من طريقين، حرب شاملة أو تفاوض شامل. وفي الحالين مشكلة.
ذلك أن لدى خامنئي ما يخسره في الحرب وفي المفاوضات. ولدى ترمب ما يخسره في الحرب، وما يربحه في المفاوضات. الحرب الشاملة مع أميركا تعني خسارة نظام الملالي كل ما بناه في الداخل على مدى عقود، وخصوصا القوة العسكرية التي يفاخر بها. وتعني أيضا خسارة إيران لمشروعها الإقليمي في اليمن والعراق وسوريا ولبنان. والتفاوض يقود إلى خسارة أشياء مهمة للنظام وربح شيء واحد، هو الحفاظ على النظام والتحول من “قضية إلى دولة”، على حد التعبير الذي استخدمه الدكتور هنري كيسنجر في وصف الخيار أمام إيران بأنه خيار “قضية أو دولة”. لماذا؟ لأن ما يطالب به ترمب هو التفاوض على اتّفاق نووي جديد يقيد إلى الأبد قدرة طهران على امتلاك سلاح نووي. فضلاً عن أن بنود المفاوضات تركز على إنهاء النفوذ الإيراني في المنطقة وتقييد برنامجها الصاروخي، أي جوهرة التاج في المشروع الإمبراطوري.
وأهم ما يخسره ترمب في الحرب هو ضرب قواعد قواته، وما يخسره حلفاء أميركا وأصدقاؤها في المنطقة: تدمير البنية التحتية، والمنشآت النفطية، والمشاريع الاقتصادية المهمة في برامج التنمية البشرية. وأقل ما يربحه في التفاوض هو إعادة إيران إلى حجمها كدولة إقليمية عادية مرشحة لأن يكون لها “مستقبل مزدهر”، على حدّ تعبيره.
ولا أحد يعرف كيف تتطور الأمور. لكن الظاهر، حتى إشعار آخر، أن واشنطن تزيد من حجم قواتها في المنطقة بالرجال ونوعية العتاد، وسط طموح إيران لإخراجها من كل غرب آسيا. فاللعبة تغيرت، كما قال مارك إسبر عشية اغتيال سليماني. وهو رد على المقولة الإيرانية الدائمة بأن أميركا تستطيع أن تبدأ الحرب، لكن إيران هي التي تنهيها، بالقول “نستطيع أن ننهي الحرب”.
رفيق خوري
اندبندت العربي