أحد الأمثلة ليوسيفوس اليوناني يتحدث عن شخص أراد شراء حمار، لكنه أراد أيضاً فترة لفحصه قبل اتخاذ قرار نهائي. أخذ الحمار إلى مزرعته ووضعه في الحظيرة التي كانت الحيوانات الأخرى تأكل فيها، وشاهد كيف يقف هذا الحمار إلى جانب الحمار الكسول النهم في المجموعة، وعلى الفور أعاده للبائع الذي كان مذهولاً. يوسيفوس حول التفسير الذي قدمه المشتري إلى مثل إنجليزي يقول “الشخص يُعرف حسب المجموعة التي تحيط به” – المعروف أيضاً حسب صياغة مؤلف “دون كي شوت”، نغيل دي سرفانتس. بعد مرور آلاف السنين، قال: “قل لي من أصدقاؤك أقل لك من أنت”.
استطلاع نشره هذا الأسبوع معهد بيو، الذي تحدث عنه أمير تيفون، واستهدف فحص نظرة سكان العالم تجاه دونالد ترامب، ألقى ضوءاً محرجاً على المجتمع الذي يحيط بإسرائيل في هذه الأيام. إسرائيل هي في المكان الثاني في مقياس التأييد لترامب. وإلى جانبها في هذا النادي الحصري الفلبين (المكان الأول) وكينيا ونيجيريا والهند وبولندا. لا يوجد بين هذه الدول أي دولة تعتبر ،على أقل تقدير، دولة ديمقراطية غربية قوية. في ألمانيا وبريطانيا وحتى في كندا وأستراليا، ثمة مكانة متدهورة لترامب.
شمل الاستطلاع أيضاً أسئلة عن مجالات كثيرة من سياسة ترامب، التي برز فيها الإسرائيليون بالمعنى السلبي. إسرائيل، حسب الاستطلاع، هي في المكان الأول من العالم في تأييد السور الذي يريد ترامب إقامته بين الولايات المتحدة والمكسيك، وفي سياسة تقليص الهجرة التي اتبعتها هنغاريا وسلوفاكيا، الدولتان اللتان فيهما نزعة قومية وعرقية. إسرائيل بالطبع في عزلة تامة في دعمها لانسحاب ترامب من الاتفاق النووي مع إيران. ولكن بصورة غريبة، كما يبدو، فإن إسرائيل تؤيد أيضاً اتصالات الرئيس الأمريكي مع كيم جونغ اون، حيث أمامها هناك اليابان وكوريا الجنوبية التي تخشى من بيونغ يانغ خوفاً شديداً.
ومثل مؤشر “بيغ ماك” للمجلة الأسبوعية “الإيكونوميست” التي تعرض تشويهات في أسعار التبادل العالمية من خلال مقارنة سعر الهامبورغر الذي يباع في العالم في دول مختلفة، هكذا يمكن أن نوجد أيضاً مؤشر “بيغ دونالد”، الذي فيه تشويهات في روح الأمة تنعكس من درجة تأييدها للرئيس الأمريكي. في هذا عدالة شعرية: “بيغ ماك” في شركة ماكدونالدز هو أحد أصوات ترامب المفضلة، خاصة في الساعات الطويلة التي يشاهد من خلالها وهو في سريره شبكة “فوكس”.
الاستطلاع يتابع الارتفاع المتزايد الذي حدث في السنوات الأخيرة في تأييد ترامب في أوساط أحزاب اليمين الشعبوي في أوروبا، التي تكره مهاجرين مثله. هذه التي ابتعدت عنها إسرائيل في الماضي بسبب نتانة اللاسامية والتي تلتصق بها في الوقت الحاضر بسبب تقارب فكري وطني متطرف وبسبب كراهية الأجانب. ولكن تشجيع أحزاب اليمين في أوروبا لترامب لا يصل إلى كاحل التقديس الذي لدى الجمهور الإسرائيلي بشكل عام واليمين الإسرائيلي بشكل خاص.
إسرائيل نتنياهو 2019 تماماً مثل ترامبستان زائدة المنشطات: هي تفضل الرئيس الأمريكي ضعف رعاياه. في جميع العالم الغربي، فإن الحزب الجمهوري فقط هو ما يتفوق عليها، وبصعوبة كبيرة. إن اندماج التاريخ والظروف والطابع القومي، حولت إسرائيل إلى جوقة المشجعين رقم 1 لترامب في العالم الغربي، وبهذا يأتي الفرق عن بقية الشعوب، على الأقل الديمقراطيات الليبرالية التي أرادت في الماضي أن تكون شبيهة بها.
تأييد ترامب يستند في المقام الأول إلى شعور التأييد والشكر الذي لدى الجمهور الإسرائيلي للولايات المتحدة التي بقيت قوية حتى في فترات كان فيها الرئيس الأمريكي أقل شعبية في إسرائيل، مثل براك أوباما على سبيل المثال. هذا التأييد يتغذى من أن الرأي السائد في إسرائيل منذ عقد، وبالتأكيد منذ انتخابات 2015، هو توأم الانفصالية والغطرسة والليبرالية الجديدة والصقورية والمسيحانية، وقد يقول البعض أيضاً إن العنصرية تغذي الولاء لترامب في اليمين الأمريكي. ترامب نفسه بوقاحته وشجاعته وأنانيته وغيرته وازدرائه للقواعد وحربه ضد النخب واستخفافه بكل العالم وزعمائه، يبدو أحياناً مثل ممثل أكثر إخلاصاً للنموذج الإسرائيلي من نتنياهو المبرمج والمحوسب.
ولكن إلى جانب كل ذلك، يقف الدعم المدهش وغير المسبوق لترامب، ليس فقط لمواقف إسرائيلية تشكل إجماعاً تقريباً مثل نقل السفارة الأمريكية إلى القدس واعترافاً بالسيادة على هضبة الجولان، بل أيضاً لتلك المواقف التي هي محصورة تقريباً في اليمين الإسرائيلي؛ من مسألة شرعية المستوطنات حتى الشك والمقت الذي تبديه إدارة ترامب تجاه الفلسطينيين ومن يقفون على رأسهم.
جبهة المعارضة التي بناها نتنياهو بواسطة ممثله في واشنطن، رون ديرمر، خلال سنوات المواجهة مع أوباما، والذي يستند إلى الإفنغلستيين وصقور جمهوريين ومتبرعين يهود يمينيين أسخياء، تحول إلى رافعة قوية في البيت الأبيض الذي يسكنه ترامب. ولليهود، على الأقل في إسرائيل، ثمة بهجة وفرح.
ليس هناك مجال يبدو فيه تأثير إسرائيل بشكل عام أو تأثير نتنياهو بشكل خاص، أكثر بروزًا وقوة منه في مواجهة ترامب مع إيران. لم يصدق أحد ترامب عندما وعد خلال الحملة الانتخابية بالانسحاب من الاتفاق النووي، مثلما لم يخطر ببال أحد أن تعهده بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس يزيد عن ضريبة كلامية معتادة للسياسيين الأمريكيين في موسم الانتخابات. ولكن في حين أن نقل السفارة كان حدثاً رمزياً في جوهره، لم يغير شيئاً في واقع حياتنا، فإن بانسحاب ترامب من الاتفاق النووي خرق النظام الدولي. هذه الخطوة دقت إسفيناً بين الولايات المتحدة وحلفائها في أوروبا ورفعها على مسار التصادم الذي لا يمكن منعه مع طهران، الذي خلق هذا الأسبوع أجواء عشية حرب.
انسحاب أمريكا من الاتفاق النووي الذي يعني إفراغه من مضمونه، جسد أحلام نتنياهو الجميلة بصورة تفوق أي تخيل. عداء ترامب إزاء سلفه أوباما وشهيته التي لا تتوقف عن تحطيم بقايا إرثه، خدمت رئيس الحكومة. تبنى ترامب تبريرات نتنياهو ضد الاتفاق النووي، وأضاف إليها الخيال الإبداعي المحبب إليه، وفاق معلمه بعشرات المرات في وصف غباء الاتفاق والدوافع المظلمة لمبدعيه، من أوباما وما دونه.
تبنى ترامب الاستراتيجية الأساسية لمعالجة المسألة الإيرانية بالكامل. بعد الانسحاب من الاتفاق خلافاً لرأي عواصم العالم والأغلبية الساحقة لخبراء نزع السلاح، بدأت سياسة “الضغط بالحد الأقصى” التي تشمل عقوبات شديدة على الاقتصاد الإيراني بهدف إثارة احتجاج شعبي، إضافة إلى تهديد عسكري أمريكي موثوق ورادع. في أفضل الحالات، قال نتنياهو ومبعوثوه لترامب إن آيات الله سيركع على ركبهم وسيتوسل من أجل عقد اتفاق جديد. وفي أسوأ الحالات التي تبدو أيضاً أكثر واقعية، فإن الولايات المتحدة ستضطر إلى تدمير البنية التحتية النووية الإيرانية بطائراتها المدمرة وصواريخها.
إن تقلب ترامب وميله إلى القول، وأيضاً فعل الأمر ونقيضه، أدت إلى كثير من ارتفاع النبض في تل أبيب في الأشهر الأخيرة: من إعلانه المتسرع والمشوش عن الانسحاب من سوريا، وحتى إلى ملاحقاته التلقائية للرئيس الإيراني حسن روحاني، التي هددت للحظات باستنساخ اتصالاته المرفوضة مع كيم جونغ أون رئيس كوريا الشمالية الذي يواصل تطوير قدراته النووية دون أي عائق. ولكن بعد ذلك جاءت تصفية قاسم سليماني، التي تعد من الخطوات المفاجئة والأكثر جرأة، بل والأكثر إسرائيلية لأمريكا في الشرق الأوسط منذ الأزل.
في الأسبوع نفسه الذي أعلن فيه لشعبه بأن الهجوم الصاروخي الإيراني سيبقى دون رد أمريكي في الوقت الحالي، وبأنه لا يكرر المقولة الأساسية فحسب، فقد أضاف إليها من الرصيد المسرحي المحبب على رئيس الحكومة. وبينما كان يتقدم نحو المنصة التي كان يقف على جانبيها رتل من مرؤوسيه وجنرالاته بملامحهم التي تعبر عن قوة ممزوجة بالخوف، أقسم ترامب مثل كاهن في معبده بأن إيران لن تحصل على السلاح النووي. فقط في حينه وبعد توقف دراماتيكي مأخوذ من مرشد لألعاب المبتدئين، هنأ ترامب المراسلين الذين يقفون في انتظاره.
خصومه اتهموه بإحداث اضطرابات مع إيران من أجل حرف الاهتمام عن عملية العزل المرفوعة ضده. سواء نجح ترامب أو فشل في المهمة، فإن المواجهة مع إيران تمس بأدق المشاعر لدى الجمهور الأمريكي. هو يثير روح الحرب التي وحدت الجمهور الأمريكي خلف الحربين اللتين بادر إليهما بوش في أعقاب عمليات 11 أيلول، ولا يقل أهمية عن ذلك.. يصب الزيت على نفاد الصبر والعداء تجاه منتقدين ومستهزئين، الذي هو حجر أساس في النظرية السياسية لوريث بوش، ترامب.
إن مقاربة “أنت معنا أم ضدنا؟” توجد في قلب علاقات إسرائيل – أمريكا، تحديداً في الفترات التي يسيطر فيها زعماء اليمين على المجلسين ويطبقون الخيار القسري في الداخل. الرؤية التي تقول إن إسرائيل هي موقع متقدم للثقافة الغربية في الجبهة أمام الإسلام البربري، موضوعة منذ ذلك الحين في أساس رؤية اليمين الإسرائيلي والأمريكي على حد سواء. وهي تعمق التماهي المتبادل لهما. ومن خلال ذلك تخدم التطلعات السياسية لنتنياهو وترامب على حد سواء. هما زوج غريب في نظر العالم الذي يخاف من أن تؤدي صداقتهما المدهشة إلى حرب فظيعة.
حيمي شليف
القدس العربي