تتحول ساحات التظاهر وميادين الاعتصام في جنوب ووسط العراق والعاصمة بغداد، إلى الملاذ الأكثر أمناً بالنسبة للناشطين العراقيين البارزين، إثر ارتفاع معدل حوادث ومحاولات الاغتيال التي استهدفت عدداً منهم، خصوصاً في الأسابيع الماضية، والتي لا يزال يقابلها صمتٌ حكومي مطبق، ووعود رسمية بفتح تحقيقات جديدة، فيما لا يزال مصير السابقة منها غامضاً.
وتتقاسم أجهزة الأمن العراقية مع ما بات يُعرف في البلاد بـ”الطرف الثالث”، مسؤولية حملات القمع المتواصلة التي تستهدف الحراك الشعبي، والتي حصدت منذ مطلع أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، أرواح زهاء 600 متظاهر، وسجلت عشرات الإصابات، فضلاً عن عشرات المختطفين ومئات المعتقلين. ويقصد بـ”الطرف الثالث” الفصائل المسلحة المرتبطة بإيران، والتي عارضت التظاهرات الشعبية منذ أول أيام انطلاقتها. لكن القمع لا يعتبر الهاجس الوحيد لدى المتظاهرين، فعمليات الاغتيال المنظمة باتت شبه يومية، وفي كثير من الأحيان يستقل منفذوها سياراتٍ تحمل لوحات تسجيل حكومية، وحتى إن كانت من دونها، فهم يجتازون حواجز التفتيش بسهولة.
”
يستقل منفذو عمليات الاغتيال سياراتٍ تحمل لوحات حكومية، ويجتازون حواجز التفتيش بسهولة
”
ووفقاً لمسؤولٍ رفيع المستوى في وزارة الداخلية العراقية، فإن أكثر من 40 ناشطاً بارزاً قتلوا منذ أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، بينهم صحافيون ومدونون، لافتاً إلى أن العامل المشترك بين جميع الضحايا هو أنهم كانوا مؤثرين في محيطهم، ولديهم متابعون، وشجعوا على التظاهر، بمعنى أنهم شكلوا “دينامو” ساحات التظاهر، على حدّ تعبيره.
ورأى المسؤول، الذي فضّل عدم الإفصاح عن اسمه، أنه “لم تعد غريبة أو مفاجئة لأحد حقيقة أن بعض عمليات الاغتيال تنفذ بغطاء حكومي، إذ إن المنفذين كانوا يحملون هويات مكنتهم من التنقل بسهولة وعبور نقاط التفتيش والحواجز الأمنية، وتؤكد معلوماتنا أنهم يتبعون لفصائل مسلحة ولائية تعارض التظاهرات وتعتبرها إفساداً، وتصم المتظاهرين بالعمالة للأميركيين”. وفي هذا السياق، لفت المسؤول أيضاً إلى وجود 25 مختطفاً من بين الناشطين، لا يزالون مجهولي المصير حتى الآن، بينما تتصدر بغداد والبصرة وكربلاء والناصرية لائحة المدن العراقية التي شهدت أكبر عددٍ من عمليات اغتيال الناشطين.
ورداً على سؤال عما إذا كانت “فرق الموت” قد عادت إلى العراق، لكن هذه المرة في الجنوب والوسط وبغداد، قال المسؤول “نعم، هي فرق للموت”، آسفاً لـ”استهدافها هذه المرة الناشطين الوطنيين”.
وشهد فجر أمس، الثلاثاء، استهدافاً جديداً للناشطين في العراق، إذ قتل مسلحون كانوا يستقلون دراجة نارية ناشطين اثنين خلال خروجهما من ساحة فلكة البحرية، وسط البصرة، بعد اعتراض طريقهما في شارع الوفود وإطلاق النار عليهما، ما أدى إلى وفاتهما على الفور، وفقاً لمسؤولين في جهاز الشرطة العراقية.
وتسعى الجهات المسلحة التي تنفذ عمليات القمع والاغتيالات ضد الناشطين والشخصيات العراقية التي تتمتع بشهرةٍ على المستوى المحلي، على ما يبدو، إلى إسكات الصوت العراقي الرافض للنفوذ الإيراني في البلاد، كما أن المستهدفين يعتبرون بمثابة قياديين غير رسميين للحراك. وفي موازاة عمليات قتل هؤلاء، تستمر الجيوش الإلكترونية على منصات مواقع التواصل الاجتماعي، وخصوصاً على موقع “فيسبوك”، في ممارسة سياسة تسقيط الإعلاميين وتشويه صورتهم، ليبلغ الأمر حدّ التشجيع على قتلهم والنيل منهم. وتستهدف الحملات الإلكترونية إعلاميين وصحافيين عراقيين مقيمين في الداخل، وكذلك خارج البلاد، مثل أحمد البشير وأزل السياب وحسين تقريبا وعلي اللامي وحسن عباس وعمر الجنابي، ومدونين مثل ستيفن نبيل.
شاهد حي
وأكد علي المنصوري، وهو ناشط كان قد نجا من محاولة اغتيال في ديسمبر/ كانون الأول الماضي في منطقة شطّ العرب بالبصرة، واضطر للانتقال إلى أربيل تحت ضغط من أهله، أن “فرق تصفية الناشطين تعمل بشكل منظم، ولا يمكن اعتبار عملياتها عشوائية، إذ إنها أعدت قوائم بأسماء أبرز المؤثرين أو المحركين للتظاهرات، أي الذين يملكون القدرة على تحشيد الشارع، وتحريك المتظاهرين من شارع إلى آخر أو من منطقة إلى أخرى، وكتابة الشعارات، وضخّ الحماسة في المواطنين”. وروى المنصوري في حديث لـ”العربي الجديد”، حادثة محاولة اغتياله، قائلاً إن “سيارة البيك أب” التي هاجمته “كانت تحمل لوحة حكومية، ومن المؤكد أن راكبيها عبروا سيطرة (حاجز أمني) الجسر الإيطالي من دون أي مشكلة”.
”
تستهدف عمليات القتل قياديين غير رسميين للحراك وشخصيات إعلامية وناشطة مؤثرة ومعروفة
”
واعتبر الناشط الذي كان قد أصيب برصاصتين في كتفه ومعدته جراء الاستهداف، أنه “من المضحك الاستفسار عما آلت إليه التحقيقات في الاغتيالات، إذ لم تتمخض تحقيقات حول مجازر ضخمة هزّت العراق خلال الأشهر الماضية عن أي شيء بعد، من مجزرة السنك والخلاني (بغداد)، إلى مجزرة ساحة الحبوبي في الناصرية، مروراً بقتل عشرات المتظاهرين في النجف وكربلاء، وانتهاءً بقنص المتظاهرين”. ولفت إلى أن فرق الاستهداف لا ترصد المتظاهرين العاديين، بل تلاحق وتراقب الناشطين والمحركين، لقتلهم”. وأعرب المنصوري عن أسفه لكون الضحايا “كانوا من أشد المدافعين عن الجيش العراقي والحشد في معاركه ضد تنظيم داعش”، فيما هم “يقتلون اليوم على يد جماعات محسوبة على فصائل منضوية في الحشد تعتبرهم عملاء وخونة لمجرد مطالبتهم بحقوقهم”، مشدداً على أن هتافات المتظاهرين، الرافضة للوجودين الإيراني والأميركي في البلاد على حدّ سواء، هي محاولة من قبلهم لتبرئة أنفسهم من تهم العمالة وتقاضي الرواتب من السفارات، التي تجتهد وسائل إعلام وأحزاب معينة في لصقها بهم، وهي تهم جاهزة معلبة، وأصبحت تثير الضحك في الكثير من الأحيان.
بدوره، أوضح كريم حمزة كريم اللامي، وهو أحد أعضاء فريق “إذاعة ساحة التحرير” في بغداد، المعنية بإذاعة بيانات وتوجيهات ومطالب المتظاهرين عبر مكبرات للصوت، أن العاصمة العراقية حصلت أعلى نسبة من الاغتيالات، لكونها مركز التظاهرات، مع الأخذ بالاعتبار عدد المشاركين في تظاهراتها. وأشار، في حديث لـ”العربي الجديد”، إلى “العمل المنظم للقتلة”، في مدن كالناصرية والبصرة وكربلاء والنجف وميسان تحديداً، التي فقدت ناشطين بارزين، أبرزهم أمجد الدهمات، علي حسين، فاهم الطائي، علي عباس، بالإضافة إلى سيد فاضل، أحمد الماجدي، حسن هادي، إيهاب جواد، وعبد المحسن البهادلي، وغيرهم من أيقونات الثورة العراقية. ولفت إلى أن “هذه المدن ولّادة للقياديين الناشطين، الذين تلقى الكثير منهم تهديدات بالقتل، فمن استجاب سلم، ومن تجاهل الترويع قتل”.
تهم معلبة
من جهتها، تسارع قوى سياسية وشخصيات حكومية إلى التبرؤ من عمليات اغتيال الناشطين، متمسكة بتوجيه أصابع الاتهام إلى من تصفهم بـ”جهات إسرائيلية”، و”كتائب جندتها السفارة الأميركية لإحداث حرب أهلية في العراق”، وهي رواية أصبحت مادة للتندر والسخرية لدى معظم العراقيين.
وخرجت آخر التعليقات السياسية حول عمليات الاغتيال من قبل القيادي في ائتلاف “دولة القانون” سعد المطلبي، الذي قال لـ”العربي الجديد”، إن الجهة التي تقف وراء قتل المتظاهرين هي كتيبة خاصة استقدمتها السفارة الأميركية في بغداد لتخريب الأمن وإسقاط الحكومة وتصعيد الغضب الشعبي لإسقاط النظام، متحدثاً عن وجود “غرفة للتخطيط لهذا الأمر”.
وتتنوع طرق التصفية الجسدية للناشطين في العراق، وهي لا تقتصر على ملاحقة هؤلاء في الشوارع، ثم اغتيالهم، كاغتيال أمجد الدهامات في مدينة ميسان، وفاهم الطائي في كربلاء، وحسن مهلهل في الناصرية وغيرهم، إذ لا يتورع القتلة عن اقتحام منازل المستهدفين لتصفيتهم، وهو ما حصل للناشطين حسين عادل وزوجته سارة حسين، اللذين قتلا على يد مسلحين ملثمين اقتحموا منزلهما في مدينة البصرة في شهر أكتوبر/ تشرين الأول الماضي. كذلك فقد اغتال مسلحون على دراجة نارية منذ أيام الإعلامي أحمد عبد الصمد والمصور صفاء غالي، بعد ملاحقتهما، فيما باءت بعض محاولات الاغتيال بالفشل، كما جرى مع الممثل العراقي أوس فاضل، الذي نجا من محاولة اغتيال في بغداد في شهر ديسمبر/ كانون الأول الماضي.
”
لم تطلع الجهات المعنية بحقوق الإنسان على على تحقيقات تقول الحكومة إنها أطلقتها
”
وتعليقاً على هذه الظاهرة المخيفة، قال ناشط سياسي من المعتصمين في ساحة التحرير ببغداد، رفض الكشف عن اسمه، إن “كل العراقيين يعرفون الجهة المنفذة لعمليات الاغتيال، والتي توعز بقتل المحتجين والمتظاهرين”، مستشهداً بـ”جريمة اغتيال الصحافي أحمد عبد الصمد، والتي وقعت بعد ثلاث ساعات فقط من انتقاده الدور الإيراني في العراق، واتهامه المليشيات التابعة لها بأنها الطرف الثالث الذي يمارس القمع والتخويف والترهيب وعمليات الاختطاف للمحتجين والناشطين”. وأضاف الناشط، في حديثه لـ”العربي الجديد”، أن “المليشيات التابعة لإيران تحاصر كل ساحات العراق، وثقلها الأكبر في الأزقة القريبة من ساحة التحرير، حيث يتربصون بالمتظاهرين والناشطين في سبيل اصطيادهم لقتلهم أو اختطافهم، ما جعل ساحة التحرير المكان الوحيد الآمن في بغداد”.
من جهته، اعتبر الصحافي العراقي قتيبة نبيل أن “المليشيات التي تستخدم سيارات الدولة وأسلحتها ومعداتها والهويات الخاصة بالمرور عبر نقاط التفتيش هي المتورطة بقتل الإعلاميين والناشطين والمحتجين، وتعذيبهم بعد اختطافهم”، مندداً في حديث لـ”العربي الجديد”، بمواصلة “وزارة الداخلية نفي كل هذه الحوادث، وهي التي تسيطر على كاميرات المراقبة المزروعة في جميع شوارع بغداد وبقية المدن العراقية”، متهماً الوزارة والعاملين فيها بـ”التعاون مع القتلة، والاتفاق معهم على قمع الاحتجاجات لمنع سقوط النظام”.
وفي اتهام مباشر لفصائل “الحشد الشعبي” بالوقوف وراء عمليات الاغتيال، رأى نبيل أن “الصورة واضحة لجميع العراقيين، وكذلك للمنظمات العاملة في مجال حقوق الإنسان في البلاد، ومنها الدولية، ومفادها أن الفصائل المسلحة، والمسجل بعضها في هيئة الحشد الشعبي، والتي من المفترض أن تكون قوات نظامية وظيفتها حماية المواطن، باتت اليوم جزءاً من منظومة يديرها عراقيون موالون لإيران، وضباط من الحرس الثوري الإيراني”. وأشار إلى “قيام قادة من الحشد الشعبي بالإشراف المباشر على عمليات اختيار الصحافيين لاستهدافهم، فيما تعمل جهات أمنية داخل الفصائل على وضع الخطط واختيار المنفذين”.
وفي السياق، أكد عضو مفوضية حقوق الإنسان الرسمية في العراق، علي البياتي، لـ”العربي الجديد”، عدم قدرة “الجهات المعنية بحقوق الإنسان على الاطلاع على التحقيقات التي تبقى في خانة الوعود الحكومية بعد كل حادثة اغتيال تستهدف مدنيين وصحافيين ومحتجين”، مبيناً كذلك أن “اللجنة التي شكلتها الحكومة العراقية حول أعمال العنف، لم تفصح عن النتائج التي توصلت إليها، أو عن أي خرق أمني والجهات المسؤولة عنه”، محملاً الحكومة العراقية مسؤولية إزهاق كل هذه الأرواح، سواء أكانت تعرف القتلة أم تجهلهم”.
العربي الجديد