يوحي التحرّك التركي في ليبيا، بعد سقوط نظام معمر القذافي عام 2011، بمدى الأهمية الكبيرة التي توليها القيادة التركية لهذه الدولة المتوسطية التي تعاني من آثار الانقسام السياسي والعسكري، في ظل التنافس والصراع الداخلي الذي يعكس حقيقة التنافس الإقليمي والدولي، حيث تقف اعتبارات سياسية واقتصادية وعسكرية – أمنية في قائمة الدوافع للسياسة التركية تجاه ليبيا، والتي دفعتها إلى المساهمة في لعب دور في خريطة ليبيا بما يتوافق مع مصالحها وأهدافها، على اعتبار أنّ المصلحة الوطنية تعتبر المحرك الأساسي لأي دولة في سياستها الخارجية.
فمن جهةٍ، تقف الحسابات السياسية في قائمة هذه الاعتبارات، حيث تحتل ليبيا مكانة بارزة ضمن المدرك الاستراتيجي التركي، من خلال سعي تركيا إلى تثبيت أول موطئ قدم لها في جنوب البحر المتوسط، عبر نافذة تتجاوز مساحتها أكثر من 1770 كم مربع، وهي مساحةٌ ذاتُ أهميةٍ استراتيجيةٍ بالغةٍ بكل المُعطيات، تمنح تركيا عمقاً استراتيجياً كبيراً، يمتد من شمال أفريقيا إلى بحر إيجة وخليج أنطاليا، ليكون بذلك ثاني موقع تركي في المتوسط بعد قبرص التركية، وهو موطئ يثبّت أقدام تركيا على المستوى الجغرافي السياسي في المتوسط.
كذلك يمنح هذا الموطئ تركيا فرصة كبيرة لتطوير سياسة متوسطية تنافس السياسة الأوروبية المهتمة بليبيا وبموقعها وبثرواتها في الحوض الشرقي للمتوسط. ومن هنا، يأتي التحرّك التركي في ليبيا لكسب شريكٍ متوسطيٍّ يكسر عن تركيا حالة العزلة المتوسطية التي تؤسس لها بعض الدول الأوروبية، بالتشارك مع مصر وإسرائيل واليونان وقبرص اليونانية، والتي عبّر عنها “منتدى شرق المتوسط” الذي يهدف، في ما يهدف، إلى عزل تركيا في الحوض الشرقي للمتوسط، ومنعها من الاستفادة من ثروات المنطقة.
تضاف إلى ذلك الرغبة التركية بالاستفادة من الموقع الليبي الذي يعد بمثابة بوابةٍ مهمةٍ لتركيا
“تحرّك تركيا في ليبيا يحمل حسابات استراتيجية لها علاقة بمشاريع أنقرة الإقليمية”باتجاه القارة الأفريقية لتحقيق سياساتها الرامية إلى توسيع دائرة نفوذها في القارّة الأفريقية، والتي أصبحت محط أنظار قوى إقليمية ودولية عديدة.
ومن جهة أخرى، تعد الاعتبارات الاقتصادية مكوناً أصيلاً في استراتيجية تركيا في ليبيا، حيث تعتبر ليبيا صاحبة أكبر احتياطي نفطي في أفريقيا بحوالي 48 مليار برميل من النفط، بالإضافة إلى احتياطيات الغاز التي تُقدَّر بحوالي 1.5 تريليون متر مكعب، الأمر الذي يقدّم لتركيا فرصةً كبيرة في تأمين الطلب الداخلي من النفط والغاز لتلبية احتياجاتها، وبالتالي التخلص من التبعيّة لإمدادات روسيا وإيران، وأكثر من ذلك يقدّم لها فرصة كبيرة للانخراط في قضية تزويد الاتحاد الأوروبي بهذه الطاقة الاستراتيجية، وتعزيز مكانتها مركزا عالميا لنقل الطاقة، خصوصا في ظل ما تحتويه منطقة الحوض الشرقي للمتوسط من ثرواتٍ نفطيةٍ وغازية غير مكتشفة، سواء في المياه الاقتصادية الليبية أو التركية.
ومن هنا تأتي الرغبة التركية الكبيرة في الاستفادة من لعبة خطوط الأنابيب التي تحاول دول الحوض الشرقي للمتوسط إخراج تركيا منها. لذا جاءت مذكرة التفاهم بشأن السيادة على المناطق البحرية التي وقعتها تركيا مع ليبيا في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي لتقلب الطاولة على الدول التي حاولت إخراج تركيا من اللعبة، ووجهت تركيا بذلك رسالة إلى اللاعبين الآخرين في مجال الطاقة في منطقة الحوض الشرقي للمتوسط، مضمونها أنّ وصول خطوط أنابيب الغاز إلى أوروبا سيكون معقداً في حال لم يتم ضمّ تركيا إلى المعادلة، وهو ما أشار إليه تقرير أصدره المركز الإسرائيلي للدراسات الإقليمية والخارجية (ميتيفيم)، أنّ مذكرة التفاهم البحري بين تركيا وليبيا ستؤثر على الواقع الجيو – استراتيجي في الحوض الشرقي للمتوسط، وستعزّز من مكانة تركيا، وستحول دون تمكّن كلّ من إسرائيل وقبرص اليونانية واليونان من الإقدام على أي خطوة في هذه المنطقة من دون الحصول على إذن مسبق منها، الأمر الذي سيؤثر على قدرة إسرائيل على تصدير غازها إلى أوروبا، على اعتبار أن الأنبوب الذي يفترض أن ينقل الغاز سيمرّ في المياه التي أضحت مياها اقتصادية تركية، حسب الاتفاق البحري مع ليبيا. تضاف إلى ذلك كله الرغبة التركية بالاستفادة من الآفاق الاقتصادية الكبيرة التي قد تقدّمها ليبيا لها في ما يتعلق بتطوير البنية التحتية وإعادة الإعمار، بالإضافة إلى عملية تشجيع المستثمرين الليبيين للاستثمار في تركيا.
وفي ما يتعلق بالاعتبارات الأمنية – العسكرية، فتعد أيضاً من أهم النقاط التي تُدخل ليبيا في
“تعتبر ليبيا صاحبة أكبر احتياطي نفطي في أفريقيا بحوالي 48 مليار برميل من النفط”المدرك الاستراتيجي التركي، حيث تسعى تركيا، من خلال وجودها في ليبيا، إلى أن تضمن دورها في أي ترتيباتٍ أمنيةٍ وعسكريةٍ مستقبلية في ليبيا، تُضاف إلى ذلك الفرصة الكبيرة التي يمكن أن تحصلها تركيا من عقود بيع السلاح والمعدّات العسكرية التركية التي تحتاجها حكومة الوفاق لمواجهة أطماع الجنرال خليفة حفتر الذي يتلقّى دعماً كبيراً من الإمارات ومصر.
وفي المحصلة، يمكن القول إنّ تحرّك تركيا في ليبيا يحمل، في طيّاته، حسابات استراتيجية لها علاقة بمشاريع أنقرة الإقليمية، حيث تعكس مكانة ليبيا في المدرك الاستراتيجي التركي هذه الحسابات التي تهدف إلى تحويل دفّة التوازن مع القوى الإقليمية لصالح تركيا ودورها، وإبراز حقيقةٍ جديدةٍ أمام العالم تتعلق بالتأثير التركي والحقوق السيادية في منطقة الحوض الشرقي للمتوسط، بالشكل الذي يتماشى مع طموح تركيا الأوسع في تطوير سياسةٍ خارجيةٍ أكثر جرأة ووضوحاً لتحقيق المكانة والنفوذ، قوة إقليمية طامحة، وخصوصا في المجال البحري في البحر المتوسط.
بشار ترش
العربي الجديد