فجع العراق، في العاشر من يناير/ كانون الثاني الحالي، باغتيال الإعلامي أحمد عبد الصمد، المسمّى أيقونة ثورة البصرة، مع زميله المصور صفاء غالي، بمسدّسات كاتمة للصوت، بعد ساعتين من تغطيته المتميزة التظاهرات المليونية التي شهدها العراق في مختلف مدنه، تنديدا بالوجود الأجنبي، ليبكيه العراقيون المتابعون له في كل مكان، ويحزنوا حزنا كبيرا على فقده. كان عبد الصمد صحافيا متميزا جريئا وشجاعا ورجلا عراقيا رافضا الاحتلال والنفوذ الأجنبي في العراق، وخصوصا الإيراني الذي حوّل مدينة البصرة البهية، مدينة الغناء والموسيقى والشعر والانفتاح، إلى ضاحية متعبة وبائسة ملحقة بطهران، تتفسّخ بالمخدرات والفساد، لكي تذهب خيراتها تارةً إلى أمراء تدين مزيف وأخرى إلى الضفة المقابلة لتجار الصفقات المشبوهة، وليبقى أبناؤها في البطالة والتخلف والتجهيل، وهم أحفاد مدارس البصرة اللغوية والنحوية والفقهية، مدينة السياب وجيكور، محمد خضير والبريكان وجنان حلاوي، ثابت البصري والخشابة. رآها عبد الصمد والشباب الملتف حوله من أبناء المدينة تئن وتمور حزنا، كما مدن العراق الأخرى، فانتفضوا حرقة، مطالبين بالتغيير الكامل للعملية السياسية. هذه ليست المرة الأولى التي ينقل فيها عبد الصمد أحداث البصرة وأخبار التظاهرات والاغتيالات والقتل والخطف ومعاناة العراقيين كما يراها الناس ويعيشونها بأبشع أوضاعها وحالاتها عبر قناة دجلة أو بواسطة فيديوهات مسجلة، يبثها بشكل حر من صفحته على مواقع التواصل الاجتماعي، وهو يتوسط أهله البصريين وشباب مدينته الذين قدّموا الشهداء قبل كل المدن العراقية.
قتل أيقونة الثورة البصْرية والإعلام العراقي الحر بكواتم السلطة، ومن المليشيات التابعة لها
“المنطقة الخضراء تختفي وراء الصمت بشكل كامل، ولا تعبأ بما يجري من انتهاكات وقتل”المسمّاة الطرف الثالث، والتي لم تعد سرّا، لأن اسمه كان على لائحة المستهدفين، بسبب وقوفه مع المتظاهرين ومطالبهم وضد الوجود الإيراني في العراق. ويجمع العراقيون اليوم أن كلامه عن الاعتقالات العشوائية التي تقوم بها قوات الصدمة والقوات الأمنية في المدينة وتقديمه شهودا عنها هو أحد أسباب قتله، إذا لم يكن السبب الرئيسي. في هذا الشريط الذي بثته قناة دجلة ووسائل التواصل الاجتماعي، يتساءل عبدالصمد: عندما حدثت مظاهرات لأتباع إيران لم يعتقل أحد؟ من صارت تظاهرات ضد السفارة الأميركية لم يضرب أحد؟ لماذا قامت الاعتقالات مع التظاهرات المطالبة بالحقوق؟ ولماذا لدينا شهداء؟ لماذا لدينا مختطفون؟ فيجيب شاب يقف إلى جانبه: نعم هناك اعتقالات للمتظاهرين من قوات الشرطة والقوات الأمنية ونحن نهتف باسم العراق. وقد غضب أحمد عبد الصمد، ولم يكظم غيظه إزاء ابنة الجنرال في الحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني، الذي قتل في غارة أميركية، لمناشدتها في فيديو أمين عام حزب الله، حسن نصر الله، للاقتصاص لموت والدها فغرّد: ليس غريبا أن تقوم ابنة المقتول سليماني بمناشدة نصر الله للأخذ بثأر والدها، ولم تناشد خامئني باعتباره المعني، والسبب أن الإيرانيين أخبروها أن تقوم بذلك لكسب العطف، وفعلا حسن نصر الله وبعض البرلمانيين العراقيين، بلعوا الطعم. ايران تستغل كل شيء من أجل الحرب بالوكالة دون أن تخسر.
وليس اغتيال أحمد عبد الصمد الوحيد منذ بداية الثورة في العراق في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، فقد سبقه اغتيال المصوّر أحمد المهنا خلال تصويره مجزرة السنك، وقبله الهجوم على القنوات التلفزيونية التي تنقل أحداث التظاهرات، مثل الحدث والعربية ودجلة، بينما لم يتم استهداف أيٍّ من الصحفيين أو مصوّري القنوات التابعة لأحزاب العملية السياسية. لا يبدو أن
“قتل أيقونة الثورة البصرية والإعلام العراقي الحر بكواتم السلطة”جرائم اغتيال الإعلاميين العراقيين التي وصلت حصيلتها إلى 373 قتيلا منذ عام 2015، بحسب “مراسلون بلا حدود”، تشغل الحكومة ورئيس الوزراء المقال، عادل عبد المهدي، فالمنطقة الخضراء تختفي وراء الصمت بشكل كامل، ولا تعبأ بما يجري من انتهاكات وقتل، على الرغم من أن الطرف الثالث الذي تضع الحكومة ورئيسها المسؤولية عليه لم يعد خافيا، بل هو معروف أصلا لدى الشعب العراقي، وقد أكّده قبل أيام رئيس الوزراء السابق، إياد علاوي، الذي قال إنه أبلغ عادل عبد المهدي إن أوامر القتل تخرج من مكتبه. الأكثر فداحةً من كل ما حصل إرسال وزير الداخلية وفدا إلى البصرة للتحقيق في عملية الاغتيال، لكن كل ما فعله الوفد هو السماح بمنح هويات حمل السلاح للإعلاميين ليحموا أنفسهم بأنفسهم! هكذا تتصرّف وزارة داخلية حكومة المنطقة الخضراء، في وقت تستمر الاغتيالات ويُخطف الإعلاميون، ما يدلّ على أن هذا الإجراء يشير، بشكل واضح وصريح، إلى أن الحكومة وأجهزتها لن تتوقفا عن تصفية الأصوات الإعلامية الحرّة التي تحاول نقل جزءٍ من الحقائق عن الثورة في العراق، وعن اتساع التظاهرات والاحتجاجات المطالبة بإنهاء العملية السياسية الطائفية التي وصلت إلى طريق مسدود يرفضها غالبية الشعب العراقي.
يضاف اسم الإعلامي أحمد عبد الصمد، وزميله صفاء غالي، إلى شهداء ثورة أكتوبر الذين لم يهابوا الموت، ولا كواتم الصوت المتربصة بهم. كانوا أحرارا وثوارا، ممتلئين بحب العراق والدفاع عنه، وعن سيادته ضد المحتل وأدواته من الأحزاب والمليشيات التابعة للحرس الإيراني. ما جمع بين صفاء السراي الشاب الشاعر المرهف الضحوك الذي أبهر من حوله بقصائده وأشعاره وأول من استهدفته الكواتم المجرمة والإعلامي وأيقونه ثورة البصرة أحمد عبد الصمد هو هذه الجملة التي رددها الاثنان قبل اغتيالهما: اقتلوا بينا اقتلوا.. أحنا باقيين.
ولاء سعيد السامرائي
العربي الجديد