في وقت سابق، عذب المقاتلون في ميليشيا “عصائب أهل الحق” الشيعية وقتلوا. لكنهم ينوون الآن إنقاذ العراق من “داعش”. هل سيعمل ذلك؟ هذه رحلة إلى الجبهة في مدينة بيجي، والتي تشرح الكثير عن حالة الحرب الراهنة في العراق.
* * *
رجل يرفع كاميرته ويمد قامته. وللحظة، لا يعود محمياً بالجدار -لكنها كانت لحظة طويلة جداً. تضربه رصاصة في جانبه وتمر عبر صدره. قُتل حسين فاضل حسن، 22 عاماً، المصور في ميليشيا “عصائب أهل الحق” الشيعية، على الفور. أصابته رصاصة قناص مع مجموعة “الدولة الإسلامية”، يكمن في مكان ما بين الأنقاض على الحافة الجنوبية لمدينة بيجي في العراق. وقد أطلقت الرصاصة من مسافة تزيد على 100 متر (330 قدما).
في الوقت نفسه، يستعد قائده، راسان، للتوجه إلى خط الجبهة في هذا الهجوم ضد مجموعة “داعش”، التي ما تزال تشتبك معها الميليشيا الشيعية هنا على مدار اليوم ونصف اليوم الأخيرين. يرتدي راسان قميصاً قصير الأكمام ومبقعاً بالدم، وقد التصقت ضمادة على أذنه، بعد أن خدشتها شظية قبل وقت قصير. وعندما يغادر القائد ورجاله مقر قيادتهم في منزل مهجور، فإنهم لا يكونون على معرفة بأن مصورهم، الذي يعمل مع الوحدة منذ ثلاث سنوات، قد قتل للتو -وأنه لن يكون القتيل الوحيد في الوحدة هذا اليوم.
تتمدد خريطة كبيرة مفصلة لمدينة بيجي في مقر القيادة. وتُؤشر صلبان ملونة مواقع “داعش” ومواقع “عصائب أهل الحق”. وقد تقدم مقاتلو العصائب بضعة مقاطع سكنية من الجنوب منذ اليوم السابق، على خط بطول كيلومترين. كما تقدمت كتائب حزب الله المتحالفة معهم -مع ضرورة عدم الخلط بينها وبين حزب الله اللبناني- من الشمال. ولا تشارك وحدات الجيش العراقي في القتال الدائر هنا.
منذ تمكن الجهاديون من اجتياح الجيش مراراً وتكراراً في تقدمهم الخاطف بسرعة البرق في العام الماضي، خاضت الميليشيات الشيعية هذه الحرب بشكل رئيسي، والتي كانت قد تأسست في معظمها بعد الغزو الأميركي في العام 2003، وتتلقى التمويل بشكل أساسي من إيران. وبذلك، ليس من الواضح مَن هو الطرف الذي يتولى القيادة في هذه الحرب. أهو رئيس الوزراء العراقي، الذي يضغط من أجل الحصول على الدعم الجوي الأميركي، وهو الأمر الذي تعارضه الميليشيات لأنها كانت قد قاتلت القوات الأميركية لسنوات، وما تزال تنظر إليها كعدو لها؟ أم هو هادي العامري، القائد العراقي الذي لم يعينه أحد لمنظمة مظلة تتكون من نحو 40 مجموعة ميليشيا؟ أم أنه الجنرال الإيراني قاسم سليماني، الذي يجلب الأسلحة والمساعدات العسكرية إلى البلد، ويقف أمام كاميرات المصورين في ميادين المعارك العراقية مثل قائد عسكري منتصر؟
مأزق غريب
كل ذلك أفضى إلى وجود مأزق غرائبي. إن الذي يحدث في بيجي والأماكن الأخرى في العراق ليس معركة بين قوات غير متكافئة، وإنما هو صراع شديد صعب المراس بين ميليشيات يعضدها القناصة، والمتفجرات، والمدافع محلية الصنع.
يقول مُشَغِّل اللاسلكي، عباس: “ونحن النخبة بين المجموعات الشيعية”. وكانت مجموعته، “عصائب أهل الحق”، قد أنشئت في العام 2006، كفرع متطرف من جيش مقتدى الصدر، “جيش المهدي” الشيعي، وهي تضم الآلاف من المقاتلين المدربين جيداً. ويربض عباس في مقر قيادة المجموعة في بيجي، حيث ينعس الرجال بين صناديق الذخيرة في غرفة المعيشة، تحت صور أطفال معلقة على الجدران، بينما يتكرر الصوت الراعد لقذائف الهاون التي تشق الهواء في مكان قريب. “هذا هو السبب في أننا نذهب دائماً إلى خط الجبهة الأمامي. إن لدينا خبرة”.
وهم كذلك فعلاً. فقد شنت ميليشيا “عصائب أهل الحق” آلاف الهجمات ضد الجنود الأميركيين وأفراد القوات المسلحة العراقية. واختطف مقاتلوها وقتلوا المدنيين، ومعظمهم من السنة. والآن، وفَّر لهم انهيار الجيش العراقي فرصة اكتساب سمعة جديدة، كمنقذين للأمة.
بشكل ما، كانت الأمور أسهل في السابق، كما يقول عباس. “كنا ننفذ عملية ضد الأميركيين، ثم نعود إلى البيت. أما في هذه الحرب ذات الدوام الكامل التي نحن فيها، فإننا لسنا معتادين على هذا. بعد كل شيء، لدينا كلنا وظائف مدنية”. ويعمل عباس مديراً لمدرسة ابتدائية، لكن نائبه يؤدي عمله نيابة عنه في الوقت الراهن.
يقول عباس إنه يحترم خصمهم “داعش”. “إنهم محترفون أيضاً. إنهم يعثرون على أفضل المواقع لقناصتهم الذين يستطيعون الانتظار ساعات بدون أن يتحركوا قيد أنملة. وعندما ينسحبون، فإنهم يفخخون كل شيء -البيوت، الجسور، والحدائق. في بعض الأحيان، لا نرى شخصاً واحداً منهم طوال أسابيع، ومع ذلك نظل نخسر الرجال. إنهم يقاتلون في الحقيقة للمرة الأولى هنا في بيجي”.
قبل ذلك بيوم، عُرضت جثث 19 رجلاً من مسلحي “داعش” على القناة التلفزيونية التي تديرها الميليشيا. لكن ذلك كان استثناءً. في العادة، لم يكونوا يعثرون على أي جثث. وكان معظم الرجال التسعة عشر القتلى من السعودية، كما يقول عباس. بل إنهم قتلوا حتى رجلاً صينياً هنا مؤخراً، كما يضيف. ويقول صائحاً: “صيني! لماذا هو هنا؟ هل قتلتُ جاكي شان؟”.
بالكاد يكون هذا التعليق ساخراً وخالياً من المفارقة، بالنظر إلى أن مُشغل اللاسلكي عباس نفسه كان قد قاتل في الخارج. لقد عادت وحدته حديثاً من حلب، حيث كانوا يحاربون من أجل النظام السوري، كمقاتلين متعاقدين لحساب الرئيس بشار الأسد. يتوقف عباس عن الحديث لحظة، حيث يدرك انطباق المقارنة عليه: “ربما لم يعد هذا الأمر يدور حول البلدان. علينا نحن الشيعة أن ندافع عن أنفسنا في كل مكان”.
يعود القائد راسان ورجاله إلى مقر القيادة من خط الجبهة الأمامي، جالبين معهم جثتين في أكياس سوداء: إنهما المصور الشاب وواحد من قناصتهم. في البداية، حاول راسان والرجال استعادة القناص باستخدام عربة هامفي، لكنهم أُجبروا على الانسحاب عندما أصبحوا تحت وابل من نيران “داعش”. ويشرح القائد: “في البداية أطلقوا النار على العجلات، وعلى النوافذ. ولديهم ذخيرة خارقة للدروع”. ثم تمكن رجاله في النهاية من سحب الجثة عن طريق التسلق والزحف عبر الأنقاض، وتجنب الوقوع في خطوط نار العدو بحذر.
وصل الهجوم إلى طريق مسدود. وبعد ساعات عدة، وصل مقاتلون إضافيون من بغداد كتعزيزات. جاؤوا مسافرين في مركبات الدفع الرباعي، وسيارات الأجرة والشاحنات الصغيرة. ورغم طبيعة عملهم التي تبدو مؤقتة، فإن الرجال يتفقون على أنهم أكثر قدرة على رد “داعش” على أعقابه من الجيش العراقي. يقول راسان: “الجيش لا يستطيع أن يفعل ذلك. لم تعد لديه أي قيادة حقيقية، وليس لديه روح قتالية ولا إيمان. هذه حرب بين السنة والشيعة. وليس للجيش مكان فيها”.
ويبدو أن الوضع في بيجي يؤيد موقفه -العسكري على الأقل. كان “داعش” قد استولى في الصيف الماضي على مصفاة النفط الضخمة الواقعة على مشارف المدينة، والتي تنتج أكثر من نصف بنزين العراق، لكن “عصائب أهل الحق” والميليشيات الأخرى استعادتها في ذلك الوقت. وبعد ذلك، سلمت الميليشيات السيطرة على المنطقة للجيش. ويقول القائد: “عاد “داعش” بعد شهر. والآن، ها نحن نعيد الأمر كله”.
أرض حرام خَرِبة
مع ذلك، يبدو الأثر السياسي لهذه الحرب الدينية واضحاً على الطريق من بيجي إلى بغداد. ويتطلب قطع الطريق من بيجي إلى الضواحي الشمالية من العاصمة ساعتين، مروراً بأرض حرام مدمرة لا يقطنها أحد، هي في الأصل مناطق سنية استعادتها الميليشيات والجيش قبل نحو سنة من الآن. لكن أحداً لم يعد إلى هنا تقريباً -أو سُمح له بالعودة. وقد أصبحت تكريت والعوجة والدور الآن أماكن فارغة، مدمرة أولاً من القتال ثم على يد المنتصرين الذين لا يقومون بنزع فتيل المتفجرات المزروعة في البنايات التي فخخها “داعش”، وإنما يعمدون إلى تفجيرها بدلاً من ذلك.
العلامة الوحيدة على وجود الحياة على طول هذا القطاع من الطريق يمكن العثور عليها في نقاط التفتيش التي تظهر كل بضعة كيلومترات، والتي يمكن تمييزها عن بعد بأضواء عيد الميلاد والورود البلاستيكية التي تغطي أسوارها، والأصفر، والأخضر، والأبيض والأحمر التي تشكل أعلام الميليشيا الشيعية وأعلام العراق.
من السهل عبور نقاط التفتيش مع مرافقين من الميليشيا أو بتصريح مرور منها، لكنه شبه مستحيل بغير ذلك. وحتى حاكم تكريت السني نفسه، الذي كان قد فر من المدينة في وقت سابق وأراد العودة إلى هناك قبل أسبوعين بعد استعادتها، لم يُسمح له بالعبور. كما أن دخول المنطقة في غاية الخطورة أيضاً. فقد وثقت منظمة العفو الدولية ومنظمة “هيومان رايتس ووتش” بشكل متكرر عمليات الاختطاف التي يرتكبها، في المناطق التي تسيطر عليها الميليشيات الشيعية، رجال يرتدون أزياء الميليشيات ويقودون عربات الميليشيات.
من بين ملايين العراقيين الذين فروا من “داعش” منذ أوائل العام 2014، تقطعت السبل بمئات الآلاف من السنة وأصبحوا مشردين في بلدهم الخاص. وهم إما غير راغبين، أو غير قادرين على العودة إلى الديار، لكنهم غير قادرين على التحرك قدماً أيضاً، لأن العراق ما يزال مقسماً بحكم الأمر الواقع ومنذ بعض الوقت بحدود إقليمية محروسة بشدة، وبقيود بيروقراطية صارمة. على سبيل المثال، لم يعد بوسع السنة من الأنبار الانتقال إلى المحافظات الجنوبية، مثل النجف أو الناصرية. ويمكنهم دخول بغداد فقط إذا كان لديهم هناك من يستطيع أن يكفلهم ويقدم ضمانات مكتوبة بأنهم ليسوا إرهابيين.
يمر المعبر الوحيد من محافظة الأنبار إلى غرب بغداد من فوق جسر بزيبز، وهو هيكل عائم مكون من المراكب المصطفة متجاورة عبر نهر الفرات. ويعيش المشردون الذين تقطعت بهم السبل في مخيمات مكتظة على كلا جانبي النهر. ولا يُسمح سوى للمشاة والعربات الصغيرة فقط بعبور الجسر، جالبين الثوم والطماطم إلى بغداد، وإطارات السيارات والبيبسي إلى الأنبار. ويقوم رجال الشرطة الغارقين في العرق بفحص الوثائق وإصدار تصاريح المرور لأولئك الذين يريدون مواصلة الطريق إلى كردستان من بغداد، أو أوراق الدخول للقلة من المحظوظين الذين لهم رعاة يضمنونهم في بغداد.
كل الآخرين هنا يعيشون الآن الموقف نفسه الذي تعيشه أم العبد؛ الأم الخجولة لثلاثة أطفال، والتي فرَّت من الرمادي قبل بضعة أسابيع. وتقول أم العبد: “نحن خائفون، لأن “داعش” هدد بقتل كل الموظفين الحكوميين. زوجي كان موظفاً في الحكومة” -كان مسؤولاً عن فتح وإغلاق المقصورات في قنوات الري. وقد هربوا بملابسهم التي على أبدانهم فقط، وانتهى بهم المطاف في مخيم بزيبز 4، إلى جانب 400 من اللاجئين الآخرين.
الآن، أصبحوا يعيشون على الصدقات. وإحدى مفارقات هذه الحرب الأهلية، هي أن معظم المساعدة تأتيهم من أنصار الداعية الشيعي المتشدد، مقتدى الصدر. وفي مقابلة مع “شبيغل”، حذر صالح العبيدي، المتحدث باسم الصدر، من معاملة كل السنة باعتبارهم مساعدين للإرهابيين. وقال: “هذه هي الطريقة التي سندمر بها البلد مرة واحدة وإلى الأبد!”.
بينما تتحدث الأم بهدوء، يتجمع الرجال من حولنا ويوبخون بصوت عال ساستهم السنة الفاسدين، والنظام الشيعي والأميركان، الذين يُلقى عليهم اللوم دائماً في كل شيء. ويُسمع صوت أم العبد بالكاد وهي تتحدث عن خوفها من “داعش”، ومن الميليشيات، ومن الأسابيع المقبلة بلا كهرباء، عندما تقول التنبؤات الجوية إن الحرارة ستصل إلى 50 مئوية في الأيام المقبلة. وفي الحقيقة، كما تقول: “إننا خائفون من كل شيء”.
عند حافة جسر بزيبز، يبدو الأمر كما لو أن الدولة العراقية تحرس سفينة مثقوبة، حيث تغلق بيأس إحدى المناطق وتصد المهاجمين في منطقة أخرى. لكن لديها، مع ذلك، القليل من القوة لوقف غرق السفينة التدريجي.
عاصمة محصنة
حصّنت الدولة العراقية نفسها في داخل العاصمة، بحيث تبدو بعيدة إلى ما لا نهاية عن المعاناة على جوانب الفرات. ويقع مقر قيادتها في بغداد في واحد من قصور صدام حسين السابقة، محمياً بأطواق عدة من الحواجز الإسمنتية التي تتحكم بها غرفة سيطرة عملاقة مملوءة بشاشات المراقبة، وحيث المستشارون الأميركيون والبريطانيون يندفعون جيئة وذهاباً. هذا هو مقر قيادة العمليات في بغداد، نقطة التحويل التي تدير منها العاصمة جميع عمليات نشر قوات الجيش، والشرطة والمخابرات. وهو المكان الذي ما تزال الدولة تشعر بأنه آمن جداً، حتى أنها تحتفظ بأعلى سجناء “داعش” لديها مرتبة، محافظ بغداد السابق، وعائلته هناك.
الرجل المسؤول هنا هو الفريق الركن عبد الأمير الشمري، وهو جندي منذ نحو 30 عاماً، وليس واحداً من الأتباع الفاسدين لرئيس الوزراء السابق نوري المالكي. ولا يرغب الجنرال في قول ما إذا كان سنياً أم شيعياً. إنه رجل مشغول وهو ليس في مزاج جيد جيداً. ويقول: “إننا في حاجة إلى مزيد من الجنود، وإلى صواريخ أكثر دقة وأجهزة للكشف عن المتفجرات”. ويتوقف لحظة، ثم يضيف: “لكن المشكلة تكمن في مكان آخر: إننا أسوأ عدو لأنفسنا! لقد فقدنا شجاعتنا! طوال السنوات الثلاثين الماضية، تم استخدام هذا الجيش لخدمة المصالح السياسية والدينية الفردية، وإنما ليس فيما ينبغي أن يقوم به: الدفاع عن العراق!”.
إنه ينفجر -حرفياً- بالغضب والإحباط: من فكرة صدام المجنونة لغزو الدول المجاورة؛ من قابلية جميع المسؤولين في حكومة المالكي للفساد، والتي قطعت شوطاً بعيداً بحيث تم بيع حتى أصحاب أدنى الرتب في الجيش بالجملة، في مقابل المال والأصوات؛ ومن الجنود الذين كان يُدفع لهم، لكنهم لم يحضروا أبداً إلى العمل.
ويواصل الشمري: “وعندئذ، من كانون الثاني (يناير) وحتى آب (أغسطس) 2014، لم نفعل أي شيء سوى الخسارة والدفاع عن أنفسنا ضد “داعش”. وبفضل غارات التحالف الجوية، عدنا على الأقل إلى جانب الهجوم”، ويضيف وهو يحدق متجهماً في هاتفه الذكي. “إننا في حاجة إلى انتصار كبير، ولكن كيف يفترض بنا أن نحقق ذلك؟ إننا لا نملك حتى محطة تلفزة”.
تمتلك كل ميليشيا شيعية كبيرة محطتها التلفزيونية الخاصة. في أوقات الخوف والفوضى، أصبحت المحطات أدوات قوية للدعاية وتسويق الذات. وليس هدفها تقديم المعلومات، وإنما خلق انطباع بالوحدة والقوة. وهي تبث حلقات متكررة لا تنتهي من اللقطات التي تعرض المقاتلين وهم يزحفون على الأرض، ومواكب الجنازات، والأعلام المرفرفة والخطابات، من أجل تشجيع المشاهدين على دوام المشاهدة.
“المعادلة الجديدة لإنقاذ بلدنا”
النظير الأقوى للجنرال الشمري المتشائم، هو رجل لا يسيطر فقط على محطات التلفزة، وإنما يأمر أيضاً جيشاً أكبر بكثير. إنه هادي العامري، العراقي الذي عاش في إيران لأكثر من 20 عاماً، والذي قاد ذات مرة كتائب بدر التي تمولها طهران. وهو اليوم القائد الأعلى للجماعات الشيعية المسلحة بشكل شبه حصري تقريباً، “قوات الحشد الشعبي”، التي تمتلك اسمياً أكثر من 100.000 مقاتل، لكنها تتكون في الواقع من 60.000. ويظهر وجهه المتغضن على ملصقات منتشرة في كل ضواحي بغداد، إلى جانب عبارة: “المعادلة الجديدة لإنقاذ بلدنا”.
للعامري، البالغ 60 عاماً من العمر تقريباً، سمعة بغيضة. وتذكر مذكرات السفارة الأميركية التي نشرتها ويكيليكس هوسه بتعذيب الضحايا حتى الموت باستخدام المثاقب الكهربائية. لكن الحرب ضد “داعش” حولته إلى رجل الساعة. وهو يسخر علناً من “الضعفاء” في الجيش ويهدد الولايات المتحدة بشن هجمات ضدها إذا اختار الأميركيون تسليح التشكيلات الكردية أو السنية، في حين تتجاهل بغداد.
من أجل حضور مقابلة في منزله في المنطقة الخضراء المحروسة بكثافة في بغداد، نمر عبر ثلاث نقاط تفتيش، ونغير السيارة مرة واحدة قبل أن ينتهي بنا المطاف في غرفة مؤتمراته. لكنه يتأخر عندئذ عن الاجتماع، لأنه التقى تواً بالسفير الأميركي. أليس أميركا عدوه اللدود؟ يقول العامري: “ليس هناك حظر ضد المحادثات. إننا نريد أن نوضح فقط أننا نرفض الضربات الجوية الأميركية. إنهم سوف يقصفوننا ويسمون ذلك خطأ. لكننا لن نقبل بذلك كخطأ”.
يقال إن الغرفة تعطي شعوراً بأنها مزدحمة فجأة عندما يدخل العامري. ومع ذلك، فإنه خبير في حب الظهور ويرتدي وجهاً بشوشاً.
عندما سُئل عمن يعطيه الأوامر، وما هو -بالضبط- مركزه، يجيب العامري: “إنني لا أفعل أي شيء من دون مناقشته مع رئيس الوزراء العبادي أولاً. أنا مجرد جندي بين الجنود”.
وهل ستقوم بحل ميليشياتك بمجرد إلحاق الهزيمة بـ”داعش”؟ “كلا، يجب أن نبقى! سوف نصبح العمود الثالث للقوات المسلحة، إلى جانب الجيش والشرطة”.
يتحدث العامري بصراحة تثير الاستغراب حول هذا الموضوع. ومن ناحية أخرى، ليس لديه أحد يخشاه، ويستطيع أن يمنعه من تحقيق أهدافه. وخطته هي أن يخلق دولة في داخل الدولة، وهي خطة مولودة من رحم الضرورة في القتال ضد “داعش”، وتروجها القيادة الإيرانية التي كانت قد خلقت جيشاً مشابهاً موازياً في إيران قبل 36 عاماً مضت، الحرس الثوري.
بعد يوم واحد فقط من مصرعهما، يُشيَّع مقاتلا الميليشيا اللذان قتلا في بيجي إلى مثواهما الأخير في جنازة مهيبة في أكبر مقبرة في العالم في النجف، وهي واحدة من اثنتين من أكثر المدن الشيعية قداسة في العراق.
كإجراء احترازي، حازت “عصائب أهل الحق” والميليشيات الشيعية الشبيهة هكتارات عدة من الأرض في المقبرة؛ حيث يقومون بدفن مقاتليهم الذين يسقطون في القتال في صف بعد صف من القبور، وكل منها مميز بلوح عليه صورة، ومزين بالزهور البلاستيكية، وأحياناً بواقٍ من الشمس فوق شاهدة القبر. وثمة الملايين من الشيعة مدفونين هناك. وسنة بعد أخرى يستمر حقل القبور في الامتداد شمالاً في داخل الصحراء.
يحب حفارو القبور في النجف أن يرووا نبوءة قديمة. يقولون إن العالم سوف ينتهي عندما تصل المقبرة إلى مدينة كربلاء المقدسة في الشمال. وما يزال هناك 60 كيلومتراً للوصول إليها.
يأخذ مقاتلو “عصائب أهل الحق” استراحة بعد خوض المعركة على خط الجبهة مع “الدولة الإسلامية”. أما الجيش العراقي، فقد أُضعف كثيراً بحيث أنه لا يشكل حتى جزءا من القتال الدائر هنا، في بيجي.
كريستوف رويتر – (دير شبيغل) 31/7/2015
ترجمة: علاء الدين أبو زينة
نقلا عن جريدة الغد الاردنية
*نشر هذا الموضوع تحت عنوان: The Dreadful Saviors: Feared Shiite Militias Battle Islamic State in Iraq