ليست مبالغة، أغلب الظنّ، أن يرجح المرء تناقص أعداد السذّج من أنصار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ممّن يبصمون على أفعاله وأقواله من دون تمحيص أو تدقيق أو حتى استيعاب؛ فلقد تكفلت جائحة كورونا بتخفيض سقوف إيمانهم بأنّ الكون بأسره ينخرط في مؤامرات متعاقبة تستهدف إفساد إعادة انتخاب رئيسهم لولاية جديدة. وهذا التآمر كان يضمّ البشر أفراداً وجماعات، ودولاً ومنظمات، وصحافة أمريكية وعالمية، ومخابر ووهان الصينية مثل أروقة منظمة الصحة العالمية؛ فضلاً عن… الطبيعة، فيروسات وأوبئةَ وجوائح…
صحيح، إلى هذا، أنّ سلسلة الاتهامات التي يواصل توجيهها اليوم إلى الصين، سواء حول “الخطأ الفظيع” المعملي الذي تسبب في تسرّب الفيروس خارج المعمل، أو تعديل الخارطة الجينية للفيروس ثمّ تصديره إلى العالم عن سابق قصد وتصميم؛ تلقى آذاناً مصغية لدى شرائح واسعة من أنصاره، لأنها ببساطة تعزف على نغم نظريات المؤامرة إياها. صحيح أكثر، في المقابل، أنّ العلماء وخبراء الفيروسات وأخصائيي الأوبئة، إلى جانب جهاز المخابرات الوطنية الأمريكي ذاته، يجمعون على أنّ منشأ الفيروس حيواني، غير معدّل ولا مصنّع ولا ناجم عن أخطاء مخبرية، وأنّ ظروف قفزه نحو الإنسان ما تزال قيد الدراسة. كلّ هذا دون إغفال حقيقة موازية تحظى بمقدار مماثل من الإجماع: أنّ الصين ليست كرة شفافة، وليست ديمقراطية، والصحافة فيها ليست حرّة كي تنقل الملابسات كما وقعت، والتدابير الاحترازية في مخابر ووهان ليست مثالية.
لكن الصحافة الأمريكية، وبعد أن صعّد ترامب النبرة ضدّ الصين، أعادت تسليط الضوء على أصل الحكاية وجذورها الأولى التي تقول العكس تماماً: أنّ ترامب، منذ أواخر كانون الثاني (يناير) هذا العام حين بات الفيروس على كلّ شفة ولسان، رفض نصائح مستشاريه المقرّبين حول ضرورة توجيه الانتقاد إلى الصين على خلفية انعدام الشفافية؛ خاصة وأنّ خياراً كهذا سوف يحظى بتعاطف الجمهوريين والديمقراطيين، على حدّ سواء. لكنّ الرئيس الأمريكي لم يكتف برفض النصيحة، بل عمل على نقيضها فغرّد يمتدح إجراءات الصين في الحدّ من انتشار الفيروس، وحرص على إغداق مديح خاصّ للرئيس الصيني نفسه!
غياب الكرة الشفافة في الصين يقابله في الولايات المتحدة احتشاد للكرات التي تشفّ حول أيّ أمر وكلّ شيء، عن حقّ أو عن باطل، صادقة أم كاذبة، حسنة الطوية أم سيئة النيّة، في السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة والعلوم، وفي مدونة السلوك على أيّ صعيد وكيفما اتفق. ولهذا فإنّ لعبة اتهام الصين بالافتقار إلى الشفافية انقلبت سريعاً ضدّ ترامب، فأخذت وسائل الإعلام الأمريكية تتسابق في نبش (أو الأحرى القول: نكش) تفاصيل التيه الإرادي الذي أسقط ترامب نفسه فيه: بين المضيّ في إبرام المزيد من الاتفاقيات التجارية مع الصين، والتوصل إلى حدّ أدنى من وقف إطلاق النار في الحروب التجارية؛ وبين إغضاب بيجين في ملفّ جائحة كورونا عن طريق إطلاق تسمية “الفيروس الصيني” العنصرية، والتهديد برفع دعاوى قضائية لتعويض الوفيات الأمريكية، وفرض عقوبات اقتصادية.
وثمة لعبة أخرى، غير تبادل الكرات الشفافة والكتيمة، انخرط فيها ترامب مؤخراً واعتمدت على مبدأ التجهيل المعلَن الذي لا يقول اسمه: لدينا “دليل هائل” على أنّ الفيروس خرج من مخبر ووهان، يقول ترامب ويلتحق به وزير خارجيته؛ وحين يُسأل عن مصادره، يجيب حرفياً: “لا أستطيع أن أخبركم. ليس مسموحاً لي أن أخبركم”! هذه مجرد تكهنات، يردّ العلماء والخبراء وجهاز استخبارات مركزي أمريكي؛ وهذه محاولة مستميتة لإحياء الجذوة الشعبوية التي يمكن أن تنقذ حملة ترامب لرئاسيات هذا العام، يفترض كثير من المراقبين السياسيين داخل أمريكا وخارجها في الواقع.
وهذا، في المحصلة، لا يلغي احتمال اشتراك اللاعبَيْن، الصيني والأمريكي، في تدوير كرة شفافة تارة وأخرى كتيمة طوراً، لأنّ توازنات الكون ليست نظرية مؤامرة مفتوحة، بالطبع؛ ولكنها، في الآن ذاته، لا تفتقر إلى تفاهم الجبابرة حول أنساق شتى من التواطؤ والتقاسم و… التآمر!
صبحي حديدي
القدس العربي