تتعدد القوى الدولية وتتغير مكانتها وقوتها في العقود الأخيرة بشكل متسارع ما يوحي باستمرار أن هناك تغييرا جوهريا سيحصل على مستوى قيادة العالم وأن إمكانية إزاحة الولايات المتحدة عن هذا الدور باتت وشيكة. لكن في كل هذا، ورغم مختلف التحولات، فإن السؤال الأهم يبقى متعلقا بروسيا التي نفضت عن نفسها غبار سقوط جدار برلين وبرويسترويكا غورباتشوف وعادت للمشهد من جديد من بوابة فلاديمير بوتين. دور روسي طلائعي في جل القضايا الدولية والإقليمية، يدفع دائما إلى التساؤل باستمرار، كيف نجح بوتين في عقدين فقط من تغيير وجه روسيا وإعادة خلط الأوراق الجيوسياسية في العالم؟
لندن- تتبدّل التحولات والمعطيات الدولية من لحظة إلى أخرى في السنوات الأخيرة دون أن ترسو قيادة العالم عند بر قوة واحدة أو زعيم واحد. وبينما تتنافس في العشرية الأخيرة كل من بكين وواشنطن من أجل الزعامة، دائما ما يظهر الرئيس فلاديمير بوتين ليغير شأن تكهنات المراقبين والمحللين حول مستقبل العالم.
قد يختلف المحللون بكل توجهاتهم السياسية حول الأدوار التي يلعبها بوتين في أكثر من ملف خاصة في قضايا الشرق الأوسط وتحديدا في سوريا، لكنهم يجمعون في الأخير على أن رجل المخابرات السابق بات دون أدنى أي شك أحد أهم قادة العالم وأكثرهم تأثيرا، ليعيد للسياسة الدولية نكهة العقود الماضية التي عرفت زعامات تركت بصمات واضحة في التاريخ وعلى رأسها رئيس الوزراء البريطاني الأسبق وينستون تشرشل.
يجمع محللون روس وغربيون على حقيقة أشبه بثابتة اليوم ومفادها أنه لو عين بوريس يلتسين غير بوتين لكان وضع روسيا قد اختلف كثيرا عما هو عليه الآن من قوة وحضور في الساحة الدولية.
وليثبت الرئيس الروسي هذه الصورة في أذهان الروس لم يتخلف رغم الوضع الصحي الصعب في روسيا التي باتت ثالث بؤرة موبوءة في العالم بفايروس كورونا، عن موعد الاحتفاء بالذكرى الـ75 لانتهاء الحرب العالمية الثانية والانتصار على ألمانيا النازية، في مراسم جاءت بلا احتفالات أو عرض عسكري ضخم هذه السنة في ظل الحجر المنزلي المفروض.
ما لبوتين وما عليه
لقد دخل بوتين عالم السياسة الدولية من أوسع أبوابه حين أدى في 7 مايو 2000 اليمين الدستورية كرئيس لروسيا. وكانت هذه أول ولاية من أصل أربع فترات رئاسية.
وقبل أربعة أشهر من هذا التاريخ، تنحى الرئيس الروسي الأسبق بوريس يلتسين بشكل غير متوقع، ما أدى إلى تعيين رئيس الوزراء ورئيس الأجهزة الأمنية السابق بمنصب الرئيس بالإنابة. وعندما أجريت الانتخابات في أواخر مارس، فاز خليفة يلتسين بأكثر من نصف الأصوات بقليل، وهي أغلبية ضئيلة حالت دون عقد جولة الإعادة وغيرت مسار روسيا إلى الأبد.
لكن خلال عقدين فقط منذ صعوده إلى قمة الكرملين، عزز بوتين القوة وعزز دور روسيا على المسرح العالمي. ولم يكن من السهل فهم العديد من هذه التغييرات في مطلع القرن، والتي لم تأت بتكلفة بسيطة؛ حيث كان انتخاب بوتين يعد أول تغيير ديمقراطي للسلطة في البلاد. وفي الوقت الذي تمهد فيه موسكو الآن الطريق أمام بوتين للحكم حتى عام 2036، قد يصبح بوتين أحد أقوى قادة العالم وأحد أطول زعماء العالم من حيث طول مدة الخدمة.
ولفهم كيفية نجاح الرئيس الروسي الحالي في تغيير روسيا وجعلها لاعبا رئيسيا في الساحة الدولية، خصصت مجلة ” فورين بوليسي” الأميركية تقريرا مفصّلا تحدثت فيه إلى أهم الخبراء والباحثين والصحافيين.
لقد طرح بوتين على العالم واقعا جديدا تتشابك فيه قوى مختلفة، لكن ورغم شهرته الواسعة حتى خارج روسيا، فإن منتقديه يؤكدون أنه لا يوجد في عام 2020 الكثير للاحتفال به في روسيا في عهد بوتين. وتقول الصحافية الأميركية سوزان غلاسر “قبل عشرين عاما، إذا سألتني أو سألت أي شخص عما إذا كان فلاديمير بوتين سيصبح الزعيم الروسي الأطول خدمة منذ عهد جوزيف ستالين، كان من المرجح أن يكون الرد إما صمتا مطبقا أو ضحكا صاخبا”.
وأكدت “عندما صعد بوتين إلى الرئاسة وهو لا يزال في الأربعينات من عمره، كانت مؤهلاته الرئيسية لهذا المنصب، على الأقل بناء على العديد من الروس الذين تحدثت معهم خلال سنواته الأولى في منصبه عندما كنت رئيسا لمكتب ‘واشنطن بوست’ في موسكو، أنه كان شابا، واضحا، واقعيا ورصينا”.
وعلى عكس الروس المتفائلين بقوة بوتين تشير جلاس إلى أن الرئيس الروسي لم يقم باستعادة عصر الاتحاد السوفييتي، لكن ما يقوم به الآن يشبه إلى حد كبير ما كان يحدث في السابق. وتضيف “يجب على بوتين أن يتعامل مع أسعار النفط المتدنية، والاستجابة السيئة لوباء كورونا العالمي، والتجاوز السياسي الذي دفعه إلى تحديد، ثم تأجيل الاستفتاء الدستوري الذي يمكن أن يبقيه في السلطة لأكثر من عقد قادم”.
وبالنظر إلى الإنجازات أو الأمور المتشعبة التي تجد روسيا نفسها فيها اليوم، يدفع بوتين من جهته إلى ترويج خطاب داخلي متسائل عن مكانة موسكو بعد حقبته.
وتقول أولغا أوليكر مديرة برنامج أوروبا وآسيا الوسطى “يبدو لي أحيانا أن الروس يشعرون بالامتنان لبوتين لما فعله لهم في الماضي، لكنهم يشعرون في نفس الوقت بالتناقض والانزعاج أحيانا عندما يتعلق الأمر بأفعاله وإنجازاته الحديثة؛ ويشعرون بالخوف من المستقبل، لكن من ناحية أخرى، لا يرون بديلا له”.
وتفيد بأن بوتين شاهد روسيا من خلال عدسة ولادة اقتصادية جديدة وركود. وقد ترأس عودة بلاده إلى الساحة العالمية، ولكن إذا تغيرت الأساليب والأدوات المتاحة على مدى العقود والقرون، فإن أهداف السياسة الخارجية التي سعت إليها روسيا بعهد بوتين لا تختلف كثيرا عن أهداف السياسة الخارجية الروسية والسوفييتية والإمبراطورية الروسية التاريخية.
سلطة بيد رجل واحد
على الطرف المقابل، لا يرتاح الغرب وخاصة أوروبا لروسيا في عهد بوتين وكذلك حتى الروس أنفسهم والذين يعتقدون أن الرئيس الحالي فوت على بلادهم فرصة تأسيس نظام ديمقراطي يكون فيه التداول على السلطة
دوريا. لقد ترجم هذا التصور مايكل ماكفول السفير الأميركي السابق لدى روسيا بقوله “لو كان يلتسين اختار بوريس نيمتسوف لخلافته، لكانت الديمقراطية الروسية قد استمرت، ولربما استمر تعاون روسيا مع الغرب”.
وأضاف “بوتين اختاره بوريس يلتسين، ثم صدق عليه الشعب الروسي، ليصبح رئيسا بمحض الصدفة في عام 2000. آراؤه حول الحكم والسياسة الخارجية لم تكن معروفة جيدا. ومع ذلك، وفي وقت مبكر من فترة رئاسته، أوضح ازدراءه لفحص السلطة التنفيذية. واليوم، استبدل بوتين ديمقراطية روسيا الهشة منذ التسعينات بحكم أوتوقراطي موحد”.
وتابع ماكفول “بمرور الوقت، رفض بوتين صراحة الليبرالية والتعددية وبدلا من ذلك تبنى وروّج للأفكار المحافظة والأرثوذكسية والقومية”.
الانزعاج من تفرّد بروتين بالسلطة لوحده وقمع الحريات في روسيا، أكدته أيضا الصحافية الروسية إيرينا بوروغان التي تقول صراحة إن أهم تغيير قام به بوتين في روسيا هو أن الشباب الروس الذين نشأوا في عهده لا يعرفون ماهية النقاش الحر أو ما تعنيه الديمقراطية.
وتضيف أن بوتين أجبر مجتمعا، يمكن للمرء فيه أن يكسب المال فقط من خلال عدم التدخل في السياسة وعدم انتقاد السلطات، الناس على التخلي عن جميع الخيارات بخلاف حياتهم الشخصية وعملهم. والآن، يتزايد القلق في المجتمع الروسي مع تفاقم فايروس كورونا والأزمات الاقتصادية.
حين سقط الاتحاد السوفييتي، بقي العالم رهينة لتوجهات اقتصادية وخاصة عسكرية تقودها الولايات المتحدة ومن بعدها الدول الأوروبية، لكن منذ صعود بوتين وخاصة بعد عام 2011 وما شهده من تغيرات دولية، أصبحت روسيا لاعبا أساسيا بإمكانه تحديد هوية المنتصر وهوية المنهزم في أي صراع.
بالنظر إلى الإنجازات أو الأمور المتشعبة التي تجد روسيا نفسها فيها اليوم، يدفع بوتين من جهته إلى ترويج خطاب داخلي متسائل عن مكانة موسكو بعد حقبته
وقالت في هذا الصدد الصحافية بمجلة “نيو تايمز” الروسية يفجينيا ألباتس “بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، نما الأمل في روسيا في أن تصبح دولة تتمتع بإمكانية أن تصبح جزءا من العالم المتحضر، لكن ذلك لم يحدث. وعد بوتين ‘بجعل روسيا عظيمة مرة أخرى’ في مقابل ولاء أتباعه. قام بضم أراضي أجنبية وحقن حربا هجينة في الدولة المجاورة. ونتيجة لذلك، لم تصبح روسيا عظيمة أو حتى محترمة كقوة إقليمية”.
وأضافت “بدلا من ذلك، يخشاها جيرانها المقربون، وفقد العالم ثقته بها بسبب سياساتها القائمة على الأكاذيب والاغتيالات وعدم القدرة على التنبؤ. لولا ترسانة روسيا الضخمة من الأسلحة النووية، من المحتمل أن يحاول العالم نسيان وجودها في المستقبل المنظور. لن تكون روسيا أكثر من مجرد مثال آخر على الفساد المتفشي، والنخب الجشعة، وعدم قدرتها على رؤية المكاسب طويلة الأجل من المصلحة العامة”.
ووفق رئيس معهد الطاقة الروسي فلاديمير ميلوف، فإن ما يثير العالم بعد 20 سنة من قيادة بوتين للقوة الروسية هو انقلابه على وعوده وخاصة تلك التي وعدت بالانفتاح أكثر على العالم الغربي والتخلي عن السياسات الكلاسيكية السوفييتية، لكن يبدو أن العكس هو ما حصل.
ويقول ميلوف “لقد أخر بوتين تحركات روسيا نحو أن تصبح اقتصاد سوق متقدم لعقود. عندما وصل إلى السلطة لأول مرة، أعلن بوتين عن تطلعاته للمشاركة مع العالم الغربي المتقدم وحذر من تدخل الحكومة في السياسة والحريات المدنية والاقتصاد”.
ويضيف “إذا اتبعت روسيا أثر الإصلاحات الموعودة في أوائل عهد بوتين، لكان من الممكن أن تكون دولة مختلفة تماما الآن، لاعبا مسؤولا ومحترما على المسرح العالمي، على عكس خطاب بوتين بشأن ‘استعادة عظمة روسيا’، فإن روسيا تزداد انعزالا وتواجه عقوبات دولية غير مسبوقة تستبعد تطورها الاقتصادي الإيجابي في المستقبل”.
ولم تتغير بالنظر إلى كل هذه الطموحات الروسية الجديدة في عهد بوتين سياسات السوفييت، وتقول الصحافية كاثرين بيلتون “التكتيكات في عهد بوتين هي نفسها التي استخدمتها المخابرات السوفييتية في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، باستخدام أموال غير مشروعة لشراء وإفساد السياسيين والمؤسسات الغربية”.
وتضيف “أن الفرق الوحيد الآن هو أنه تم تمويل أجهزة المخابرات من بئر نقدية أعمق بكثير، مما يمكنهم من اختراق الأسواق الغربية بشكل أكبر. لقد نجحت روسيا في زيادة نقاط الضعف والانقسامات في المجتمع الغربي”.
استراتيجية عدوانية
في خضم كل ما أثبتته التحولات الدولية بأن العالم يتجه نحو إرساء نظام دولي جديد، عادت روسيا إلى جانب الصين والولايات المتحدة كلاعب أساسيّ، خاصة في ما يتعلق بحرب الطاقة.
وتقول أنجيلا ستنت الكاتبة وصاحبة كتاب “حدود الشراكة” “بينما تدهورت علاقات روسيا مع الغرب بشكل حاد منذ ضم شبه جزيرة القرم عام 2014 وإطلاق حرب في جنوب شرق أوكرانيا، نظرت معظم دول العالم الأخرى لروسيا باعتبارها دولة استبدادية يمكن عقد الأعمال معها. ومع ذلك، قد تكون قدرة روسيا على مواصلة توسيع مدى انتشارها العالمي مقيدة في عصر فايروس كورونا”.
وتضيف أن ارتفاع أسعار النفط من عام 2000 إلى عام 2008، وانتعاشها بعد الأزمة المالية، مكنا بوتين من تعزيز قوته وتوسيع النفوذ الروسي. ولكن قد يحد انهيار أسعار النفط والانخفاض الحاد في النمو الاقتصادي من قدرة روسيا على إبراز القوة في المستقبل.
وكغيرها من الدول التي تصارع لإحياء أمجادها كتركيا وإيران أو أيضا كالاتحاد الأوروبي الذي يناضل للحفاظ على تمسكّه، يتهم بوتين بانتهاج سياسات عدوانية عنوانها البقاء الروسي.
ويقر الكثير من المحللين ومن بينهم الصحافي أندريه سولداتوف الذي أقر صراحة بأن بوتين جعل روسيا عدوانية ومشكوكا بها، مؤكدا أنه في غضون سنوات قليلة من تولي بوتين السلطة، أصبحت روسيا غير واثقة بالغرب، وطورت شعور عدم ثقة عميق الجذور من الأجانب والدول الأجنبية بشكل عام. وفي الداخل، تبنت الدولة وجهة نظر مماثلة تجاه كل من تصادف أنه ليس داخل الدولة، بما في ذلك الخبراء والصحافيين والمنظمات غير الحكومية وأحزاب المعارضة.
محللون يجمعون على حقيقة أشبه بثابتة اليوم ومفادها أنه لو عين بوريس يلتسين غير بوتين لكان وضع روسيا قد اختلف كثيرا عما هو عليه الآن من قوة وحضور في الساحة الدولية
كل هذا الجدل المثار حول شخص بوتين ونزعاته العدوانية لا يحجب عنه في المقابل وصم الرجل القوي والزعيم المميز بحسب الكثير من المراقبين، حيث ترى الباحثة أندريا كيندال تايلور أنه على الرغم من نقاط الضعف الداخلية في روسيا، إلا أن بوتين عزز مكانة البلاد العالمية. إن عدم وجود قيود على سلطته، واستثماره في تحديث جيشه، وقدرته على استغلال عدم التناظر في المصالح بين روسيا والغرب، سمحت لبوتين باغتنام الفرص، حتى تلك التي تنتهك القوانين الدولية. وتضيف أن روسيا تلعب اليوم دورا في معظم القضايا العالمية ذات العواقب، لكن بوتين يفهم أيضا حدود النفوذ الروسي. لذلك سعى إلى تقويض الديمقراطيات الغربية لتحسين الوضع النسبي لروسيا. لقد خلقت تكتيكاته نموذجا يحاكيه القادة المعادون للديمقراطية.
وفي كل هذا يبقى التساؤل المهم في روسيا متعلقا بشأن إمكانية تركيز بلد ديمقراطي لا يقمع فيه أحد ولا تكون فيه السلطة بيد رجل واحد، حيث يقول فلاديمير كارا مورزا “في غضون 20 عاما، تمكن بوتين من نقل روسيا من الديمقراطية غير الكاملة إلى سياسة الاستبداد التام في الداخل، ومن شريك محترم إلى شبه منبوذ في الشؤون الدولية.
وفي عام 2000، أجرت روسيا انتخابات تنافسية، وكانت تمتلك صحافة حرة نابضة بالحياة، وبرلمانا تعدديا، ومجتمعا مدنيا”. لكن كارا مورزا يستدرك قائلا “سيستغرق الأمر وقتا وجهدا لإلغاء هذا الضرر بمجرد أن تمتلك روسيا حكومة ديمقراطية تحترم حقوق شعبها وتتصرف بمسؤولية على المسرح الدولي. وعاجلا أم آجلا، سيأتي ذلك اليوم”.
العرب