الجولة الدبلوماسية الثانية التي قام بها وزير الخارجية الإيراني في دول المنطقة بعد توقيع الاتفاق النووي، جاءت محاولة لتوضيح الاتفاق وتقليل مخاوف دول المنطقة منه من جهة، واستثمار ما تعده طهران “انتصارها الدبلوماسي” من خلال تحقيق “رؤيتها” للتعامل مع الملفات الإقليمية الساخنة من جهة أخرى.
وكان من المفترض أن تشمل الزيارة كلا من تركيا ولبنان، إلا أن وزارة الخارجية الإيرانية أعلنت تأجيل الزيارة المعلنة إلى أنقرة بسبب “تداخل مواعيد ظريف”، وهو الأمر الذي ألقى بظلاله على الجولة وعلى الجهود الدبلوماسية الإيرانية عموما.
وعلى الرغم من هذا التعثر في الجولة، فإن مصادر الخارجية الإيرانية أكدت أن زيارة ظريف لأنقرة لا تزال مدرجة على جدول أعماله في الفترة القادمة، مما يؤكد صحة التسريبات التركية، ويدفع للتحليل بأن الزيارة ستتم لاحقا.
وتهدف جولتا ظريف: السابقة التي شملت كلا من العراق والدوحة والكويت، والحالية، إلى تحقيق هدف عام رئيسي، يتمثل في شرح تفاصيل وتداعيات الاتفاق النووي الإيراني مع الدول الغربية الكبرى، وتهدئة المخاوف العربية والتركية من هذا الاتفاق، حيث تشعر دول الخليج تحديدا وتركيا بأن الاتفاق قد يحمل تداعيات سلبية عليها، من خلال تكريس إيران قوة نووية -وإن كانت سلمية- إضافة إلى المخاوف من أن الاتفاق قد يسهم أيضا في تحسين العلاقات بين واشنطن وطهران إلى الدرجة التي يمكن أن تصل إلى محاولة الولايات المتحدة تأهيل “عدوها السابق” لممارسة أدوار إقليمية، على حساب حلفائها التقليديين في دول الخليج.
وفي محاولة للرد على هذه المخاوف، فإن الخطاب الإيراني الموجه لدول المنطقة في ما يتعلق بالاتفاق النووي يتضمن عدة رسائل:
الأولى: أن الجمهورية الإسلامية لا تحاول الوصول إلى تصنيع السلاح النووي الذي قد يمثل تهديدا إستراتيجيا لدول المنطقة، ويفتح الباب لسباق تسلح نووي في الشرق الأوسط، وأنها تسعى بدلا من ذلك إلى تطوير قدراتها لضمان إنتاج “طاقة نظيفة” تستفيد منها إيران ودول الإقليم على حد سواء.
الثانية: أن الاتفاق النووي الإيراني مع الغرب أدى إلى تثبيت الوضع القائم من ناحية التسليح النووي، فقد أنهى المخاوف من قدرة إيران على إنتاج الأسلحة النووية، وكرس “إسرائيل” -في المقابل- دولة وحيدة تملك سلاحا نوويا في الشرق الأوسط، مما يستلزم -حسب الطرح الإيراني- توحيد الجهود العربية-الإيرانية-التركية لمحاربة إسرائيل، التي تمثل خطرا على الجميع، وليس فقط على إيران.
وقد كان هذا الطرح واضحا في تصريحات ظريف في أكثر من مناسبة، كما وافقه أيضا وزير الخارجية اللبناني جبران باسيل في تصريحاته أثناء مؤتمرهما الصحفي في بيروت.
الثالثة: الاتفاق النووي هو “انتصار” لكل دول المنطقة، لأنه أنهى ملفا شائكا أثار المشاكل إقليميا ودوليا منذ سنوات، كما أنه يمثل “هزيمة لإسرائيل التي تريد للنزاعات في الشرق الأوسط أن تستمر”.
الرابعة: أن إنهاء ملف النووي الإيراني عبر الطرق الدبلوماسية يؤكد التزام طهران بالحوار كحل لكافة النزاعات والمشكلات في الإقليم، ويمثل أيضا دليلا على إمكانية حل الخلافات بين بعض الدول العربية وإيران من خلال الحوار، وبالتالي فإن الاتفاق يمكن استثماره للانطلاق نحو مفاوضات عربية-إيرانية لحل كافة الملفات العالقة بين الطرفين.
وإضافة إلى ما يتعلق بالملف النووي، فإن جولات ظريف المتتابعة في المنطقة تحمل هدفا عاما آخر يتمثل في طرح “الرؤية الإيرانية” لأزمات المنطقة
وتمثل زيارة لبنان أهمية خاصة لطرح رؤية إيران لأزمات سوريا، وأزمة الفراغ الرئاسي في لبنان، حيث تعد طهران طرفا رئيسيا في هذين البلدين، من خلال مشاركتها الفعلية في حرب نظام الأسد ضد المعارضة السورية، إضافة إلى الدور الذي يمكن أن يلعبه حلفاؤها في لبنان، ممثلين في حزب الله وغيره من قوى “8 آذار” في حلحلة أو تعقيد أزمة انتخاب رئيس جديد للبنان بعد مرور أكثر من عام على شغور منصب الرئاسة.
وعلى الرغم من محاولة ظريف في جولته اللبنانية التأكيد على الحياد الإيراني تجاه القضايا الداخلية اللبنانية، من خلال تصريحاته مع مضيفيه في بيروت، وحرصه على تأكيد ذلك في لقاء رئيس الوزراء سلام تمام باعتباره يشغل المنصب السيادي الممثل لسنة لبنان، فإن طبيعة لقاءاته تناقض هذه التصريحات، إذ اكتفى عمليا بلقاء زعماء قوى “8 آذار”، مثل حسن نصر الله ووزير الخارجية والزعيم بتيار عون جبران باسيل، ورئيس مجلس النواب المقرب من حزب الله وسوريا نبيه بري، ولكنه لم يلتق أيا من زعماء “14 آذار”، سواء من السُّنة أو المسيحيين أو الدروز.
وكما هو الحال في ما يتعلق بالملف الداخلي اللبناني، فقد طرح ظريف أيضا رؤية إيرانية “منحازة” في لبنان للأزمة السورية، حيث حاول إظهار الجانب الإنساني للأزمة المتمثل في تدفق اللاجئين السوريين على لبنان، بينما تناسى أن سبب المشكلة هو سياسي وأمني، وأن الأزمة تنطلق أساسا من الاستبداد والقمع الذي مارسه النظام السوري بدعم إيراني ضد المطالب الشعبية بالإصلاح والتغيير في سوريا، مما حوّل البلاد إلى ساحة حرب تدفع سوريا ولبنان وكل شعوب المنطقة ثمنها منذ أكثر من أربع سنوات، وستستمر في دفعه سنوات طويلة حتى بعد أن تتحقق تسوية سياسية أو انتصار عسكري لأي من طرفي الحرب القائمة في البلاد.
وعلى أهمية زيارة ظريف إلى لبنان لاعتبارات التداخل الإيراني بأزماته المذكورة سابقا، فإن الزيارة المؤجلة إلى أنقرة تكتسب وزنا وأهمية أكبر، حيث من المتوقع أن تركز المباحثات في حال حدوث الزيارة قريبا -كما هو متوقع- على القضايا المشتركة التالية:
ثانيا: تصاعد الحرب بين الدولة التركية وحزب العمال الكردستاني، وتداعيات ذلك على العراق الذي يمثل منطقة نفوذ رئيسي لإيران. ويكتسب هذا الملف أهمية متزايدة مع تكرار القصف التركي على مواقع المقاتلين الأكراد في شمال العراق، وما يسببه من إشكالات أمنية وإنسانية في إقليم كردستان العراق، كما يمثل هذا الملف أيضا نقطة خلاف أخرى بين أنقرة وطهران، حيث تعلن الأخيرة رفضها التدخل العسكري في شمال العراق، بينما تؤكد تركيا حقها في الدفاع عن نفسها وحماية أمنها من اعتداءات حزب العمال الكردستاني.
ثالثا: استمرار العمليات العسكرية في اليمن ضد مليشيات الحوثي المدعومة من إيران ومن الرئيس المخلوع علي عبد الله صالح، إذ أيدت تركيا صراحة عمليات “عاصفة الحزم” بقيادة السعودية، بينما تراها إيران “عدوانا سعوديا” على الشعب اليمني.
وبالنظر إلى هذه الملفات، فإنه من الصعب توقع أن تفضي زيارة ظريف لأنقرة إلى حلحلة كبيرة في الأزمات الشائكة بين إيران وتركيا، إذ تبدو رؤية البلدين لقضايا الإقليم متناقضة إلى حد كبير، كما أن هذه الملفات تشكل قضايا إستراتيجية باتت تؤثر على الشؤون الداخلية لكلا البلدين، مما يصعب التنازل بشأنها على الأقل في المرحلة الحالية، إلى حين حصول اختراقات حقيقية تغير موازين القوى على الأرض أو تغير الموقف الدولي جذريا تجاه هذه الملفات.
ويبقى القول إن الهدفين العامين لجولات ظريف في المنطقة، وهما توضيح الاتفاق النووي وبحث الملفات السياسية والأمنية الشائكة في كل من العراق وسوريا ولبنان واليمن، هما -عمليا- هدفان متناقضان؛ فبينما تحاول إيران في الجانب الأول تهدئة مخاوف جيرانها العرب والأتراك من تداعيات النووي وتطرح خطابا تصالحيا يدعو للتعاون والحوار، فإنها في الجانب الثاني تطرح رؤية “متطرفة” ومناقضة لرؤية جيرانها لملفات المنطقة.
ومن شأن ذلك أن يعزز مخاوف تركيا والعرب من رغبة إيرانية في حصد نتائج اتفاق النووي عبر تكريس طهران شرطيا للمنطقة، بنفوذ واسع يتجاوز الحدود الإيرانية بكثير، وهو تناقض لا يمكن إنهاؤه إلا إذا تخلت إيران عن دعم الخيارات الدموية والطائفية لحلفائها في سوريا والعراق واليمن.