يشهد العراق منذ منتصف شهر تموز/ يوليو الماضي، موجة احتجاجات تعد الأحدث في سلسلة موجات بدأت منذ منتصف عام 2009، واصطبغت في الغالب بصبغة المطلبية. فقد نفذت مجموعات شبابية في مدينة البصرة، جنوب البلاد، مجموعة من الاعتصامات، والتظاهرات؛ احتجاجًا على انقطاع الكهرباء وتردي الخدمات، لم تلبث أن انتشرت في مدن الجنوب الكبرى. ومع أنّ مدينتي البصرة، وأبوالخصيب شهدتا تظاهرات متفرقة بين شهري نيسان/ أبريل، وحزيران/ يونيو 2015، فإنّ تظاهرة 16 تموز/ يوليو مثّلت الشرارة الحقيقية لحركة الاحتجاج الراهنة، إذ أعقبها اعتصام أمام مبنى محافظة البصرة، انتهى بتدخل القوى الأمنية، وسقوط قتيل، وعدد من الجرحى.
ولم تصل التظاهرات إلى بغداد إلّا أواخر تموز، إذ أضرب عمال سكك الحديد، وقطعوا عددًا من الطرق الرئيسة؛ احتجاجًا على تأخر الدولة في صرف رواتبهم يوم 29 تموز/ يوليو، ثم انطلقت التظاهرة الأولى في ساحة التحرير، وسط العاصمة بعد ذلك بيومين، وكانت امتدادًا لتظاهرات الجنوب الاحتجاجية على عجز الدولة عن توفير احتياجاتهم من الكهرباء، بالتزامن مع موجة حر غير مسبوقة شهدتها البلاد، والمنطقة.
احتجاجات مطلبية أم صراع داخل البيت الشيعي؟
دأبت حكومات ما بعد الاحتلال على اتباع سياسة توظيف مكثفة، تعد واحدة من أدوات السيطرة على المجتمع، ما جعل الدولة المشغّل الأول في البلاد. وقد ساعدها على ذلك استمرار ارتفاع أسعار النفط لنحو عقد من الزمن. وقد مثّلت كتلة رواتب القطاع العام وغيره من القطاعات التي تديرها الدولة نحو 70٪ من الموازنة العامة للدولة العراقية في السنوات الماضية، وأثّر في قدرتها على تأهيل البنية التحتية؛ بما فيها قطاع الكهرباء، إلى درجة اضطرت معها الحكومة في عام 2012 إلى سن قانون يتيح لها اقتراض نحو 40 مليار دولار؛ لتأهيل البنية التحتية، في مشروع قانون أُطلق عليه اسم “قانون البنية التحتية”، في حين أنّ موازنة البلاد لتلك السنة كانت نحو 100 مليار دولار أميركي. لكن انهيار أسعار النفط بدايةً من عام 2014 لم يؤد فقط إلى عجز الحكومة عن تنفيذ خططها الخاصة بالبنية التحتية فقط، بل جعلها أيضًا عاجزة عن الاستمرار في دفع رواتب ما يزيد على 6 ملايين موظف، يمثّلون نحو 45% من القوة العاملة في البلاد، ما أسهم في اندلاع الحركة الاحتجاجية.
وعلى الرغم من أنّ هذه الاحتجاجات المطلبية، لم تنجح حتى الآن في التحول إلى مطالب سياسية محددة، أو بمعنى أكثر دقة لم تنجح في التحول إلى حركة احتجاج واسعة ومنظمة، تدور حول مطالب سياسية محددة، مثل إلغاء نظام المحاصصة الطائفية التي رسخها نظام ما بعد الاحتلال، فإنّ هذه الاحتجاجات سرعان ما تحولت إلى ميدان لصراع شيعي- شيعي عميق، عكسته القرارات والإجراءات الأخيرة التي اتخذها رئيس الوزراء حيدر العبادي، وعدّت بمنزلة انقلاب أبيض، فقد قدّم العبادي، في محاولة للتجاوب مع مطالب المحتجين بمحاربة الفساد، مبادرة إصلاحية تضمنت إلغاء مناصب نواب رئيس الجمهورية، ونواب رئيس الوزراء، التي يتمّ شغلها؛ وفقًا للخارطة الطائفية، وكان أبرز الخارجين بسبب ذلك؛ نائب رئيس الجمهورية نوري المالكي، كما جرى تشكيل لجنة قضائية مستقلة للتحقيق في قضايا فساد كبرى، يعتقد أنّ يكون المالكي أيضًا أبرز المستهدفين فيها.
وقد شهدت السنوات الأخيرة انقسامًا حادًا داخل المشهد السياسي الشيعي، تعود أكثر تجلياته وضوحًا إلى أواخر عام 2009، عشية الإعداد للانتخابات النيابية التي جرت في آذار / مارس 2010، حين لم تستطع التنظيمات السياسية الشيعية دخول الانتخابات بائتلاف انتخابي واحد، على نحو ما كان الأمر في انتخابات 2005، بل دخلت بائتلافين متنافسين. وبعد الانتخابات، رفض جزء مهم من التنظيمات السياسية الشيعية تولي مرشح ائتلاف دولة القانون، نوري المالكي، رئاسة الوزراء لولاية ثانية، ليذهب جزء آخر من هذه التنظيمات عام 2012، وبالائتلاف مع القوى السنّية والكردية، إلى مشروع واسع لسحب الثقة من حكومة المالكي.
وبعد انتخابات مجالس المحافظات لعام 2013، كان ثمة خلاف واضح على مبدأ المحاصصة والحدود التي يمكن للتنظيمات الشيعية أن تأتلف خلالها مع القوى السنّية. وفي 2014، عملت هذه التنظيمات، مدعومة بالمرجعية الدينية الشيعية في النجف، على إخراج المالكي من رئاسة الوزراء، وترشيح العبادي بديلًا منه.
قد يكون الباعث على هذا الانقسام هو الصراع على تمثيل الهوية الشيعية. وهذا الأمر يتكرر في البلدان التي تتبنى أنظمة سياسية توافقية، إذ تبدأ التنظيمات السياسية التي تمثّل الهويات الإثنية بكتلة موحدة لتمثيل كل هوية، ثم تشهد هذه الكتلةُ صراعًا على تمثيل الهوية. غير أنّ الصراع الشيعي تطور بالتدريج، من صورة صراع على طريقة إدارة الدولة إلى صراع حاد وعميق بين تيارين متناقضين، يمكن وصفهما بأنهما تياران تابعان لإيران من غير تحفّظ، وتيار يميل لتأكيد الهوية الوطنية العراقية والاستقلال نسبيًا عن الإملاءات الإيرانية. ويدور جوهر هذا الانقسام حول الإشكالية العقدية الآتية: ما تعني السلطة الشيعية في بلد متعدد الهويات؟ فكل المسائل الأخرى، على أهميتها القصوى، هي فرع على هذه الإشكالية الجوهرية، سواء تعلق الأمر بالعلاقة مع إيران، أو تصور العلاقة بالسنّة وكيفية التعامل مع المشكلة السنّية، أو تصور الحرب على داعش، أو ما إلى ذلك.
يتمحور أحد هذين التيارين حول شخص رئيس الحكومة السابق نوري المالكي؛ الذي شكّل ائتلاف دولة القانون، ليضم قوى أصبح لها نفوذ أكبر بعد الحرب على داعش، وتشكيل “الحشد الشعبي”، من قبيل “منظمة بدر” بزعامة النائب هادي العامري، و”عصائب أهل الحق” بزعامة قيس الخزعلي، أمّا التيار الآخر فيضم اثنين من أكبر ثلاث تنظيمات شيعية، وهما “المجلس الأعلى الإسلامي العراقي” و”التيار الصدري”، وهذا التيارتدعمه مرجعية النجف.
بعد سقوط الموصل بيد تنظيم الدولة، وتشكيل الحشد الشعبي، تزعم التيار الأول قيادةَ الحشد، ليقدّم نفسه بصفته الطرف الشيعي الأول في التصدي لداعش، مستفيدًا من المخاوف الشيعية العامة من أن يتمكن داعش من تهديد المراقد الشيعية المقدسة، أو العاصمة بغداد، ومن شعور شيعي عام بأنّ الحشد الشعبي؛ هو تعبير عن استجابة شيعية عامة لهذا التحدي.
وهكذا، تمكن هذا التيار من تعبئة الجمهور الشيعي حول فكرة أن داعش ليس تعبيرًا عن أزمة سياسية، وإنما خطر وجودي، وأنّ الحرب عليه هي الخيار الوحيد. أمّا الطرف الآخر، والذي أخذ يتمحور حول شخصية العبادي، فمع أنه وجد نفسه أمام لعبة تنافس ديماغوجي، لا سيما أنّ داعش بدا كأنه تهديد وجودي للشيعة، حاول أن يقيم توازنًا صعبًا بين الانقسام الحاد في المنطقة، وتنافس المحاور فيها من جهة، وتناقضات المشهد السياسي الشيعي الداخلي من جهة ثانية.
وحين انتقلت التظاهرات إلى بغداد، حاول المالكي الاستثمار فيها، فيما بدا كأنه محاولة لإسقاط حكومة العبادي، في السنة الأولى لتوليها الحكم، بتحميلها مسؤولية الانهيار المؤسسي الذي يعصف بالدولة العراقية. وكان واضحًا من وسائل إعلام هذا التيار أنه دخل موجة الاحتجاجات بقوة، ففضلًا عن أنه زجّ بمؤيديه في ساحات التظاهر، أطلق على هذه الحركة اسم”الحشد المدني”؛ في محاولة لتقديمها وكأنها الذراع المدنية للحشد العسكري الذي يتزعمه هذا التيار.
أمّا على مستوى الشعارات السياسية، فقد رفع هذا التيار شعار العودة إلى النظام الرئاسي، وهي دعوة ارتبطت بشخص المالكي، الذي ما انفك يقترحها منذ عام 2008، في سياق تصوره لنظام سياسي مركزي. وفي الحقيقة، قد يكون العامل الأهم في مبادرة الإصلاح التي أعلن عنها رئيس الوزراء العبادي، يوم 9 آب/ أغسطس الجاري، بوصفها جزءًا من استراتيجية مواجهة هذا التيار.
وبعد أن ظل التيار الشيعي الذي يمثّله العبادي صامتًا نحو سنة كاملة، يبدو أنّ هذا التيار قرّر أن يتخذ الخطوة الأقوى في هذه المواجهة. وقد أتى الضوء الأخضر من المرجع الشيعي الأعلى، آية الله علي السيستاني، وهو الداعم الأقوى للعبادي، إذ وجّه ممثّله، في خطبة الجمعة يوم 7 آب / أغسطس، دعوة للعبادي لأن يواجه الفساد بأن “يضرب بيد من حديد“.
وقد أعد العبادي وثيقة تضمنت إصلاحات هيكلية جذرية، نوقشت مع زعامات المجلس الأعلى والتيار الصدري، وبعض قادة حزب الدعوة القريبين منه، قبل أن يعلنها يوم 9 آب / أغسطس، ليصادق عليها مجلس الوزراء في اليوم نفسه، ويمررها إلى مجلس النواب، بوصفها مشروعًا، لتحظى الوثيقة بالمصادقة البرلمانية يوم 11 آب / أغسطس.
أبعد من الفساد
أتى الإعلان عن الإصلاحات في لحظة حاسمة، إذ بدأ المجتمع الدولي والأطراف الفاعلة في التحالف الدولي تتململ؛ مما يُوصَف بأنه “ضعف العبادي”، وعدم قدرته على مواجهة التيار الشيعي الآخر، وتفضيله أن يمسك العصا من الوسط. وقد كان من نتائج هذا التلكؤ أن استمر داعش في السيطرة على الرقعة الكبيرة التي سيطر عليها صيف 2014، بل أصبح ربما أقوى مما كان عليه، في حين تتسم رؤية الحكومة العراقية للحرب على التنظيم بالاضطراب، وعدم الوضوح. ومع ذلك، وجّهت إصلاحات العبادي الحركةَ نحو شعار واحد، سياسي ومطلبي، وهو: الفساد. وهذا يعني ترويج تأويل محدد للانهيار المؤسسي في العراق، وهو أنه ناتج عن الفساد.
ومع أنّ العراق يحتل بالفعل مراتب متقدمة في تقارير منظمة الشفافية الدولية عن أكثر دول العالم فسادًا، ومع أنّ الفساد، بكل تأكيد، هو أحد أسباب عجز الدولة عن توفير الكهرباء، فقد قاد التركيز على شعار “محاربة الفساد” إلى تراجع المطلب الرئيس الذي نهضت من أجله الحركة، وهو توفير الكهرباء. ولعل هذا التراجع ملائم للحكومة التي لا يبدو أنها قادرة على معالجة مشكلة الكهرباء، فهي ورثت اضطرابًا من الحكومات السابقة في خطط إعادة تأهيل المنظومة الكهربائية، هذا فضلًا عن أنّ الأزمة المالية الحادة التي تمر بها البلاد، لا تتيح لها رصد مبالغ كافية، أو ميزانية ملائمة لمعالجة المشكلة.
لقد أدّى التركيز على محاربة الفساد عامة إلى تراجع الشعارات الجوهرية الأخرى، ذات المضمون السياسي، ومنها شعار إنهاء المحاصصة، فضلًا عن حزمة المشكلات الكبيرة الأخرى التي تعترض البلاد، وفي قلبها الانقسام الطائفي، ومسألة السنّة في العراق، والمصالحة الوطنية التي تكاد تكون روح كل ما يعانيه العراق. وبماأنّ العبادي لم يبادر خلال سنة كاملة من تشكيل حكومته، إلى فعل شيء في هذا الملف، مع أنّ البرنامج الذي تمّ على أساسه تشكيل الحكومة يتضمن خريطة طريق تفصيلية في هذا المجال، بل ظل ينفي وجود أزمة شراكة سياسية، ويفسر ظهور داعش بأنه مؤامرة أجنبية، فقد أفسح ذلك المجال للتيار الشيعي الآخر؛ لكي يفرض تصوره عن الحرب مع داعش، وإدارة الأزمة مع السنّة، والسجال الطائفي في المنطقة، ومن ثمّ تعبئة الشارع الشيعي في هذا الاتجاه. وبما أنّ العبادي قد قرر أخيرًا إطلاق مبادرة للإصلاح، فمن المنتظر أن يتمّ استكمالها بمبادرات مفصلية في هذا المجال، لحل المسألة السنّية في العراق، وإنهاء المحاصصة الطائفية، وإعادة تصور مؤسسة الحكم، في بلد لم يعد يتحمل مزيدًا من الانتظار، على الرغم من أنّ هذه القضايا تعني خوض معركة حقيقية، لا بد أن يحشد فيها العبادي جمهورًا واسعًا مؤيدًا لها من الشيعة، والسنّة.
التقرير