في الفيلم الشهير «الرجل جمعة»، الذي أنتج عام 1975، عمد كاتب الفيلم أدريان ميتشل إلى إعادة تأويل رواية دانيال ديفو الشهيرة «روبنسون كروزو«، التي نشرت في العام 1719، لتكتب هذه المرة من وجهة نظر الرجلين معا، روبنسون كروزو البريطاني، والرجل جمعة الرجل المحلي الذي ينتمي إلى احدى جزر البحر الكاريبي. فلن يكون المستعمر (بكسر الميم)، بلغة ألبير ميمي، وفرانز فانون، ومالك بن نبي، وبعدهم ادوارد سعيد، هذه المرة هو من يحتكر السرد، بل يشاركه فيه المستعمر (بفتح الميم) الرجل جمعة! في نهاية الفيلم، وبعد أن يصل الرجلان إلى جزيرة الرجل جمعة، يعرض كروزو على أهل الجزيرة تعليم الاطفال اللغة الانكليزية، فيعترض جمعة قائلا له: «الشيء الوحيد الذي يعلمه كروزو هو الخوف»! فالهيمنة لا يمكن ان تنتج سوى الخوف، وبالتالي عليها أن تتوقع المواجهة الحتمية.
لم تنجح الهوية الوطنية القسرية ذات الحمولة السنية والتي أنتجتها الدولة العراقية في العام 1921 في أن تحل محل الهويات الدينية والإثنية والمذهبية، التي كانت قائمة في العراق خلال العهد العثماني؛ فالمسيحيون واليهود كانوا متمترسين بالنظام الملي الذي اعتمدته الدولة العثمانية لإدارة التنوع الديني في امبراطوريتها! وبات لكل من واحدة من هذه الهويات/ الطوائف سرديته الخاصة التي ظلت حاضرة في ذاكرة أبناء الطائفة، ويتم تغذيتها بشكل دائم! الإشكالية هنا أن هذه السرديات كانت تستمد جذورها من تاريخ طويل الرموز والحكايات والمدونات، والتي كانت تتغذى باستمرار من وقائع مستحدثة تروى من وجهة نظر الطائفة، ووفقا لتحيزاتها، والتي كانت تتقاطع، بالضرورة، مع سردية الطوائف الاخرى، بل إنها في كثير من الأحيان، كانت تقوم أصلا على هذا «التمايز» معها. ووفقا للباحث ستيفن كورمان، فإن هذه السرديات تعمل على توفير «طريقة بديلة للتفكير في العالم»، وإن أفراد الجماعة غالبا ما يؤمنون بنسختهم الخاصة عن الاحداث لأنهم يريدون ذلك!
ولكن على الرغم من الهوية السنية للدولة العراقية بين عامي 1921 ـــ 2003 ظل تطييفُ الدولة ومؤسساتها وأجهزتها، او تطييفُ المجتمع نفسه، قائما في خلفية الصورة، ظلاً يصعبُ تمييزُه في أحيان كثيرة، اليوم وبعد سقوط هذه الدولة في العام 2003، نجد أن الفاعلين السياسين المهيمنين، تحديدا الفاعل السياسي الشيعي والكردي، جعلوا، وبارادة واعية، هذا التطييف عنوانا رئيسا للدولة والمجتمع معا، فعمدوا إلى مأسسته، وما زالوا مصرين على ترسيخه، وقد ظهر هذا التطييف منذ البداية وفي كل اجتماعات المعارضة، وعبروا عنه، صراحة، من خلال «إعلان شيعة العراق»، وهو ما فرض على الفاعلين السنة الانخراط في مشروع «التبلر الطائفي» كما يسميه احمد بيضون،أي تحويل الطائفة من حالتها العائمة إلى حالة صلدة، عبر ترجمة دور الطائفة سياسيا، وفي بناء مؤسساتها الاجتماعية، وخلق ديناميات الانتماء إلى الطائفة!
المشكلة الجوهرية هنا، أن هذا القمع لصوت الآخر، ولسرديته، يُقابله عادة صمتُ أعضاء الجماعة «المهيمنة»، صمت ٌ لا تكسره سوى المحاولات الفردية التي يمارسها العقلاء، المهمشون في الغالب!
سرديات الطوائف انتقائية، اتهامية، إقصائية، فهي لا تتعلق بالماضي وحده، بل تجعله حاكما على الحاضر أيضا. سردية تجعل «المظلومية» الحقيقية او المتخيلة، إذ لا يمكن التمييز بينهما بأي حال من الاحوال، حكرا على الطائفة الحاكمة، من خلال تسويق نفسها على أنها ضحية فريدة واستثنائية، حتى ولو احتكرت السلطة بالكامل، وفي المقابل تنكرُ على الآخر سرديته! إذ يتم التعامل مع أية سردية مضادة بوصفها تحريفية قد تضعه في خانة الاتهام الدائم. ومن المفارقة هنا أن الطائفة المهيمنة ممثلة في فاعليها السياسيين هنا لا تنتبه، حين تكون مشغولة برص الاتهامات، أن السردية الطائفية التي تتبناها هي نفسها سردية تحريفية! لأنها لا تؤمن بالنسبية، ولا تقترب منها، فهي سردية مطلقة، عبر تاريخية، بديهية لا تحتاج إلى إثبات، مثبتة قبليا لا إمكانية لنفيها، ولا مجال للتشكيك فيها، والأهم أنه لا مجال لتحكيم العقل فيها!
لم يكن ثمة سردية للطائفة السنية خلال عمر الدولة العراقية التي هيمنوا عليها قبل 2003، وذلك لأنهم وجدوا أنفسهم امتدادا للسلطة العثمانية السنية، وامتدادا للسلطة السياسية السنية التي حكمت الدولة الإسلامية طيلة تاريخها الممتد، مع استثناءات قليلة. لاسيما أن سرديات الطوائف، أي السرديات التي تتمركز حول الانتماء الهوياتي، دائما ما كانت أداة ضرورية لتمايز الأقليات المذهبية والإثنية والدينية عن الآخر. ولكن بعد العام 2003، بدأ السنة العرب في ابتكار سرديتهم، ومظلوميتهم الخاصة بهم، والتي تتقاطع بالضرورة مع سرديات الآخرين!
لا بد من التمييز هنا بين الهوية الطائفية بوصفها معطى ثقافيا/ دينيا، وبين الهوية الطائفية بوصفها معطى سياسيا تكتسب شرعيتها من الاولى، أو كما يعرفها أنتوني سميث «أيديولوجية سياسية ذات عقيدة ثقافية في مركزها». وما دامت سرديات الطوائف قائمة في المجتمع، فانها تبقى مجرد سرديات تخص الطوائف نفسها، ولكن صعود هذه السرديات من مجالها الخاص هذا، إلى المجال العام، وتحول سردية الطائفة من المجتمع إلى الدولة، يحول الطائفةَ إلى مجتمع سياسي متخيًل، باستعارة تعريف بنديكت اندرسون؛ فالطائفية لا تظهر إلا من خلال ممارسات السلطة/ الدولة. وهو ما سيدخلها حتما في سياق الصراع مع الآخر، ولن تعود هذه السرديات مجرد رواية خاصة، بل ستكون مصدرا للصراع ليس مع سردية الآخر وحسب، إنما تتحول إلى صراع حول الهوية، وحقوقها، وأدوارها، وبالتالي تتحول السردية نفسها إلى فعل سياسي، وتحول الصراع من صراع سرديات إلى صراع حول السلطة، والسيطرة على الموارد الاقتصادية، خاصة وأن البنية الريعية للدولة في حالة العراق، تجعل العلاقة بين هذه البنية والهيمنة على السلطة، علاقةً وثيقة!
حين تفقد السلطة/ الدولة حيادها، وتنحاز في سلوكها، لهوية دون أخرى، وتحول سرديات الطوائف الانتقائية والمتحيزة والإقصائية، إلى تاريخ «رسمي» تفرضه قسرا على الجميع، مع إقصاء أي سرد مقابل، او مختلف، او مضاد، ليس استنادا إلى الحقائق والوقائع، بل إستنادا إلى إرادة «المهيمن» على هذه السلطة/ الدولة، وعلى خطابها، يصبحُ سرد الحاضر نفسه، لصالح جماعة دون أخرى، وتتمتع هذه الجماعة بالحرية المطلقة في طرح سرديتها الخاصة، في حين تفرض علاقات القوى، على «الآخر» أن يلتزم الصمت، خوفا من التعرض للأذى، ليس الأذى الذي يمكن أن يمارسه المدافعون عن سردية الطائفة، بل الأذى المشرعن عبر الدولة بالدرجة الرئيسية، لأنها تحولت في سياق الدولة الطائفية إلى سردية ممنوعة وقابلة للتجريم!
المشكلة الجوهرية هنا، أن هذا القمع لصوت الآخر، ولسرديته، يُقابله عادة صمتُ أعضاء الجماعة «المهيمنة»، صمت ٌ لا تكسره سوى المحاولات الفردية التي يمارسها العقلاء، المهمشون في الغالب!
يحيى الكبيسي
القدس العربي