كثف الساسة الروس في الآونة الأخيرة تحركاتهم الدبلوماسية والسياسية حيال الأزمة السورية من خلال الزيارات العديدة التي قام بها وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف إلى عدد من عواصم المنطقة، وكذلك اللقاءات والزيارات التي قام بها المبعوث الخاص للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إضافة إلى اجتماعاتهما ولقاءاتهما العديدة مع أطراف من المعارضة السورية في موسكو، وشملت كلا من الائتلاف الوطني السوري المعارض ولجنة مؤتمر القاهرة وغيرهما.
ويطرح هذا التحرك المكثف أسئلة عن حيثياته وأسبابه وحدوده، وهل يأتي تنشيط الدور الروسي في ذات السياق الدولي والإقليمي، وكذلك سياق الميزان الأميركي الذي تبدو فيه واشنطن وكأنها تراجعت عن لعب دور فاعل في الأزمة السورية لصالح الدورين الروسي والإيراني، خاصة بعد توقيع الاتفاق النووي الإيراني حتى يذهب التحليل إلى تلمس تناغم ما بين طهران وواشنطن في ظل التقارب السعودي الروسي المتنامي.
الحيثيات والرؤية
لم يظهر الروس في تحركهم السياسي المكثف أي ملامح جديدة أو مختلفة كثيرا عن تحركاتهم السابقة، بل إن حدود التحرك ذات سقف منخفض، ولا تجسد طموحاتهم غير الواقعية في لعب الدور المحوري بالأزمة السورية.
والمستغرب أن الساسة الروس لم يكتشفوا بعد أن التسوية فيسوريا لن تتحقق لمجرد عقدهم لقاءات في موسكو أو جنيف أو سواهما مع بعض أعضاء الائتلاف السوري المعارض، وبعض أعضاء ما تدعى “لجنة مؤتمر القاهرة” التي تمثل خط “هيئة التنسيق” أو سوى ذلك، وفي ظنهم أن هؤلاء يمثلون جميع أطراف المعارضة، في حين أن علاقتهم بالقوى على الأرض شبه معدومة.
يأتي هذا أيضا في ظل غياب أي مبادرة حقيقية قادرة على تخليص السوريين من الكارثة التي حلت بهم بعد ما يقرب من خمس سنوات على اندلاع الثورة السورية، وتحول الصراع في سوريا إلى حرب مدمرة مفتوحة، وذات امتدادات وتشابكات إقليمية ودولية متينة.
ويبدو أن الرسالة المعلنة التي أرد الروس توصيلها في جميع لقاءاتهم مع المعارضة السورية هي عدم التمسك ببيان جنيف كمرجعية تفاوضية من خلال رفض فرض نتائج التفاوض بشكل مسبق، أي دون وضع شرط رحيل الأسد، لأن الأهم بالنسبة إليهم هو أولوية محاربة الإرهاب، كونه بات يشكل خطرا على المجتمع الدولي وعلى المنطقة، لكن ما لم يقولوه هو أن الإرهاب قد يصل قريبا إلى جمهوريات الاتحاد الروسي، خاصة القوقاز وجوارها.
وتظهر حيثيات التحرك الروسي أنها مبينة على فهم يعتبر أن عناصر الحل أو التسوية التي يسعون إليها تنهض على أفكار نظرية على طريقة “الخبراء” الروس في الشرق الأوسط التي “تنمذج” دول المنطقة في قالب شرقي أو بالأحرى استشراقي مبني على تصور ثابت لطبيعة نظام الحكم وشكل الدولة وسوى ذلك، وهو نموذج أقرب إلى النموذج السوفياتي المندثر والمفصول عن الواقع ومستجداته.
ولا يزال الساسة الروس محكومين برؤية مبنية على وهم يجمع النظام والمعارضة في خندق واحد ضد “الإرهاب”، ويستدعي منهم ذلك إثبات القدرة على جمع النظام السوري مع معارضة يفصلونها على قياسه، بمعنى أن عليهم إيجاد معارضة ترضى التفاوض معه أولا ثم تتحالف معه ثانيا، وبين التفاوض والتحالف لا بد من مرحلة انتقالية يجري فيه توزع السلطة بينهما.
ما الجديد؟
يدرك ساسة الكرملين جيدا أن تحركاتهم تستدعي إشراك المملكة العربية السعودية التي رفعت بدورها شعار محاربة الإرهاب، وعلى هذه الخلفية يأتي التقارب الروسي السعودي الذي أثمر عن لقاء سيرغي لافروف مع نظيره السعودي عادل الجبير مرتين خلال أقل من شهر في كل من الدوحة وموسكو، فضلا عن زيارة وزير الدفاع السعودي إلى موسكو.
والمأمول روسيا هو أن يكلل هذا التقارب بزيارة الملك سلمان بن عبد العزيز إلى موسكو، وأن يثمر عن تفاهم روسي سعودي حيال آفاق وسبل الحل السياسي في سوريا.
يفترض التحرك الروسي في تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وأشباهه خطرا يتهدد دول المنطقة والعالم، ويستند إلى مقولة لافروف التي تفترض أن جميع دول المنطقة وقواها باتت تواجه خطر الإرهاب، في حين أن نظام الأسد أسهم في صناعة وتمدد داعش ولم يخض ضده أي معركة حقيقية، كما أن النظام الإيراني وجد في “داعش” فرصة لتحقيق اختراقه للمنطقة العربية، ولا يشكل أي خطر عليه.
وأظهرت لقاءات موسكو أن لا جديد في الموقف الروسي حيال الأزمة السورية من حيث المضمون والأهداف، وكما قال وزير الخارجية الروسية بعد لقائه وفدا من لجنة مؤتمر القاهرة للمعارضة السورية فإن الجديد يتجسد في الاجتماع “في جو من التفاهم المشترك يجمع على أن الوضع الحالي في سوريا غير مقبول”.
والإجماع على عدم تقبل الوضع في سوريا يعني أن لافروف لا يحمل جديدا، لأنه أعاد نفس الكلام عن ضرورة تكثيف الجهود من أجل دفع التسوية السياسية على أساس بيان جنيف وجهود المبعوث الأممي إلى سوريا ستيفان دي ميستورا، وهو كلام عام لا يحمل مبادرة أو خطة جديدة، والهدف منه كما قال هو “المساهمة في توحيد كافة أطياف المعارضة على أساس قاعدة بناءة مبنية على العناية بمستقبل سوريا بالحفاظ على وحدة أراضيها”.
ولا تعني سوريا لدى الساسة الروس الشعب السوري بقدر ما تعني النظام السوري الذي يختصر الدولة والشعب بالنسبة إليهم.
ويحاول الروس الإمساك بالورقة السورية، ويعملون على التحضير للدخول في مسار تفاوضي جديد قد يكون موسكو3، أو مسار جنيف3 باعتبار أن “إطلاق العملية سيفتح آفاقا، ويخلق آمالا لدى المواطن السوري في الخروج من النفق المظلم الذي تعيشه سوريا”.
تناغم المواقف
تختلف أولويات كل من روسيا والولايات المتحدة على الرغم من التناغم في الأدوار واللقاءات والابتسامات بين كيري ولافروف، إذ تحاول الأولى تسويق حلم الرئيس الروسي بتشكيل تحالف إقليمي ودولي ضد الإرهاب يجمع كلا من النظام السوري والمعارضة والعربية السعودية والأردن وتركيا، وستعمل على تسويقه من خلال اجتماعات ولقاءات وزارية للدول المعنية، بينما ترى الثانية أنه مشروع يسعى لتلميع نظام الأسد، وإعادة الشرعية الخارجية له من بوابة الحرب على الإرهاب، لكنها أصبحت تظهر مرونة حيال ذلك.
وثمة تناغم وتوافق روسي إيراني على إبقاء الأسد وإطالة أمد نظامه، بل الدفاع عنه على جميع المستويات، لذلك فإن المرونة التي تحدث عنها بعضهم في الموقف الروسي حيال الأسد نسفها لافروف بحضور وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف برفض اشتراط رحيل الأسد في أي حل سياسي.
وكلا النظامين يطرح مسألة حكومة بين النظام والمعارضة، ولا ينقص ساسة إيران التذاكي بطرح فكرة إجراء انتخابات برلمانية بوجود مراقبين دوليين، طبعا من إيران وروسيا ودول أخرى، وجعلها مدخلا لحل سياسي “تحت سقف الأسد”.
ويهدف نظام الملالي الإيراني من طرح فكرة الانتخابات البرلمان “تحت سقف الأسد” إلى نسف فكرة هيئة الحكم الانتقالي ذات الصلاحيات الكاملة، وتأتي النقاط الأربع في المبادرة الإيرانية المتضمنة وقف إطلاق النار، وتشكيل حكومة وحدة وطنية، وتعديل الدستور بما يضمن حقوق الأقليات والإثنيات، وانتخابات برلمانية في سياق سعيها إلى نسف بيان جنيف ونقاطه الست، والذي رفضته طهران منذ البداية.
لكن الخطير هو طرحها تعديل الدستور بما يضمن حقوق الأقليات الذي يريد منه نظام الملالي “لبننة” سوريا، بما يسمح لإيران بحماية المليشيات التي شكلتها في سوريا على غرار مليشيا حزب الله اللبناني التابع لها، والذي زجته في معركة الدفاع عن الأسد.
ويريد نظام الملالي أن يظهر نفسه في مرحلة ما بعد توقيع الاتفاق النووي على أنه يبحث عن حل سياسي في سوريا، وأن ينسى العالم أنه منذ بداية الأزمة يخوض معركة إلى جانب النظام ضد أغلبية الشعب السوري، وأنه مصر على الحل العسكري، ويدفع مزيدا من حرسه الثوري ومليشيات حزب الله اللبناني وغيرها لكسر إرادة الشعب السوري وتدمير ما تبقى سوريا.
ومع ذلك كله فإن التناغم الأهم بين التحركات الروسية ومساعي دي ميستورا إضافة إلى رضا وموافقة الإدارة الأميركية هو إشراك إيران في الحل السياسي في سوريا، بل وتحويلها إلى لاعب أساسي بالملف السوري.
لذلك، فإن كل محاولات هذه الأطراف تهدف إلى نسف مرجعية جنيف، واستبدال رحيل الأسد بتوحيد الجهود لمحاربة تنظيم داعش، لذلك تتحدث موسكو عن ضرورة بقاء الأسد لفترة كي يتم إشراكه في الحرب ضد الإرهاب فيما تصمت واشنطن، وفي صمتها المريب موافقة مضمرة.
ويبدو أن التناغم الأميركي الروسي أثمر لغة جديدة بعد التوقيع على الاتفاق النووي الإيراني الذي كان لروسيا دور مهم فيه استحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الشكر عليه والثناء من طرف الرئيس الأميركي باراك أوباما، وستنعكس لغة التناغم في صيغة رد الجميل، بما يعني ترك الإدارة الأميركية المجال للساسة الروس في لعب الدور الرئيس في الملف السوري، لذلك فإن نفق خلاص السوريين لا يزال مظلما.
عمر كوش
الجزيرة نت