الباحثة شذا خليل*
يشهد العالم اليوم مرحلة فارقة من التحولات الاقتصادية، حيث لم يعد الصراع بين القوى الكبرى يقتصر على السياسة أو العسكرة، بل أصبح الاقتصاد ـ وخاصة قطاع الطاقة ـ ساحة رئيسية للمواجهة. مع تصاعد العقوبات الأمريكية على كل من الهند والصين بسبب شرائهما النفط الروسي، بدأت تتشكل ملامح نظام اقتصادي عالمي متعدد الأقطاب، يتحدى النظام التقليدي الذي قادته الولايات المتحدة لعقود. هذه التحولات ليست آنية، بل تحمل في طياتها تأثيرات بعيدة المدى على شكل التجارة العالمية، وأسعار الطاقة، والتحالفات الاقتصادية.
العقوبات الأمريكية وتداعياتها
في خطوة مثيرة للجدل، فرض الرئيس الأمريكي دونالد ترمب رسومًا جمركية إضافية بنسبة 25% على واردات الهند، مبررًا القرار بأنه عقوبة على استمرار نيودلهي في شراء النفط الروسي المخفض، رغم الحرب في أوكرانيا. وتشير التقارير إلى احتمال أن تواجه الصين العقوبات ذاتها، نظرًا لكونها أحد أكبر المستوردين للنفط الروسي.
الهند والصين معًا تشتريان أكثر من 4.3 مليون برميل نفط روسي يوميًا، وهي كميات ضخمة تمنح اقتصادهما ميزة في تكلفة الطاقة مقارنة بالمنافسين، خاصة أن الهند وفرت نحو 33 مليار دولار بين 2022 و2024 بفضل الخصومات الروسية.
الموقف الهندي: موازنة دقيقة بين القوى
الهند اتخذت موقفًا واضحًا برفضها التراجع عن شراء النفط الروسي، مؤكدة أن قراراتها تستند إلى أمن الطاقة لـ 1.4 مليار نسمة ومصالحها الوطنية. ورغم انتقادات الولايات المتحدة، اتهمت نيودلهي الغرب بـ”النفاق”، مشيرة إلى أن الاتحاد الأوروبي ما زال يستورد الطاقة الروسية ولو بنسبة أقل.
سياسة الهند طويلة الأمد تقوم على الموازنة بين الولايات المتحدة وروسيا والصين دون الانحياز الكامل لأي طرف، ما يجعل قرار العقوبات اختبارًا حقيقيًا لدبلوماسيتها النفطية.
الصين: شريك لا يمكن تجاهله في معادلة الطاقة
الصين، بدورها، لن توقف شراء النفط الروسي الرخيص، نظرًا لارتباط إمدادات الطاقة بأهدافها الاستراتيجية بعيدة المدى. العلاقات بين بكين وموسكو في هذا المجال ليست مجرد تبادل تجاري، بل شراكة استراتيجية تقوم على تأمين إمدادات مستقرة لثاني أكبر اقتصاد في العالم.
حتى مع التهديدات الأمريكية، يتوقع المحللون أن الصين ستستمر في الاعتماد على النفط الروسي، خاصة مع وجود شبكات تجارة بديلة، مثل “أسطول الظل”، الذي يتجاوز رقابة الهيئات الدولية.
ملامح الاقتصاد العالمي الجديد
هذا الصراع يعكس تحوّلًا تدريجيًا نحو اقتصاد عالمي منقسم إلى محورين:
1. الغرب بقيادة الولايات المتحدة وأوروبا، يركز على تقليص النفوذ الروسي ومعاقبة من يتعامل معه.
2. محور شرقي بقيادة الصين وروسيا، ومعه الهند بدرجة متفاوتة، يركز على تأمين الموارد وبناء تحالفات مرنة بعيدًا عن الهيمنة الغربية.
أهم ملامح هذا التحول:
• تجزؤ سلاسل الإمداد: انتقال بعض مسارات التجارة والطاقة من القنوات التقليدية إلى شبكات بديلة.
• تعزيز العملات المحلية في التجارة الدولية، ما قد يضعف هيمنة الدولار.
• تحول مركز الثقل الاقتصادي نحو آسيا مع استمرار الابتكار في الغرب.
• ارتفاع المنافسة على الموارد ما قد يؤدي إلى تقلبات أكبر في الأسعار العالمية.
الخاتمة
العالم يقف على أعتاب نظام اقتصادي جديد، لا يقوم على الهيمنة المطلقة لقوة واحدة، بل على تعددية أقطاب معقدة تحكمها المصالح الوطنية والتحالفات المرنة. ومع استمرار أزمة الطاقة العالمية، ستظل الهند والصين وروسيا في قلب المعادلة، بينما تحاول الولايات المتحدة الحفاظ على دورها القيادي عبر أدوات الضغط الاقتصادي. السنوات القادمة قد تشهد إعادة رسم كاملة لخريطة التجارة العالمية، حيث يصبح النفط والطاقة مفتاحًا لإعادة تشكيل ميزان القوى.
وحدة الدراسات الاقتصادية /مكتب شمال امريكا
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية
