تضخمت بيروقراطية جامعة الدول العربية على مدى العقود السبعة الماضية، لتشبه إلى حدٍّ كبير بيروقراطية الأمم المتحدة ومنظمات دولية وإقليمية كبرى في مناطق أخرى بالعالم، وليس القصد بالبيروقراطية الدلالة السلبية الشهيرة للكلمة، لكن تطور هيكل ومؤسسات الجامعة، حتى أصبحت تضم عدداً كبيراً من المجالس والمنظمات واللجان.
ولأن لغالبية تلك الكيانات المرتبطة بالجامعة التي تغطي معظم جوانب العلاقات العربية الاقتصادية والثقافية والأمنية وغيرها ذات صفة استشارية، فمن الصعب قياس تأثير عملها بدقة في العمل العربي المشترك بالمجال الذي يخصها، إلا أنّ بعض تلك الكيانات كان له أثرٌ في تطوّر هذا القطاع أو ذاك من قطاعات التعاون العربي بقدر أكبر من غيره.
حدث ذلك على فترات مختلفة شهدت مطبات لعمل الجامعة والتعاون العربي بشكل عام نتيجة صراعات إقليمية وأحداث رئيسة أدّت إلى محاور متباينة، إلا أنّ بعض الجهات التابعة للجامعة ظلت تعمل بشكل مستمر حتى العقد الأخير، وراكمت قدراً معقولاً من الدراسات والاستشارات والوثائق التي تؤسس نظريّاً بشكل كافٍ لأي محاولة لإعادة إحياء دور الجامعة، لتحقيق الأهداف التي وضعها المؤسسون.
وإذا كانت تلك الجهود لم تثمر بالشكل الذي حققه تكتل إقليمي مشابه، هو الاتحاد الأوروبي مثلاً الذي انطلق في وقت قريب ما بعد الحرب العالمية الثانية، فإنّ ذلك يعود إلى أن الجامعة بدأت أولاً تجمّعاً سياسيّاً، ما جعل الجوانب الاقتصادية والقانونية والاجتماعية تتأثر بالسياسة، بينما الاتحاد الأوروبي بدأ بالجانب الاقتصادي كسوق أوروبية مشتركة ومجموعة أوروبية، ثم تعزز ذلك باتفاقات قانونية وأمنية وسياسية في ما بعد.
فترات ثلاث
يمكن بشكل مبتسر ومتعسف طبعاً، تقسيم فترات عمل الجامعة إلى ثلاث مراحل، هي مرحلة البداية من 1945 وإلى حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973 بين العرب وإسرائيل ومرحلة التجاذب والمطبات منذ منتصف السبعينيات إلى منتصف التسعينيات، وفترة الاستقرار والتعاون من النصف الأول للتسعينيات إلى مطلع العقد الثاني من القرن الحالي، وموجة الاحتجاجات التي سُميت بـ”الربيع العربي”.
تميّزت فترة التأسيس بطغيان قضية العرب الرئيسة، وهي الصراع في فلسطين، التي كانت تحت الانتداب البريطاني وقت تأسيس جامعة الدول العربية من قِبل مصر والسعودية واليمن والعراق وسوريا ولبنان والأردن، وبهدف رئيس هو مواجهة ما تبقّى من الاستعمار البريطاني بالمنطقة العربية، وفي القلب منه تعهد البريطانيون إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين.
وفي أول قمة عربية في 1950 كان العرب قد هزموا في حرب 1948، وأعلن قيام دولة إسرائيل، وصدّقت القمة على وثيقة “معاهدة الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادي بين دول الجامعة العربية، وملحقها العسكري”، وانضمّت بقية الدول العربية في الخمسينيات والستينيات إلى الاتفاق، وجرت عليه عدة تعديلات أهمها في 1977، المتعلقة بالجانب الاقتصادي.
وبعد توقيع مصر اتفاق سلام مع إسرائيل بنهاية السبعينيات قاطعت غالبية الدول العربية مصر، ونُقِل مقر الجامعة إلى تونس، وتراجع التعاون السياسي والعسكري لصالح تطوير استشارات التعاون الاقتصادي، وفي القطاعات الأخرى حتى غزا العراق الكويت مطلع التسعينيات، ووجد العرب أنفسهم أمام تحدٍّ غير مسبوق.
في تلك الفترة عملت اللجان الفنية والمجالس المتخصصة بشكل مستمر، مستفيدةً من تراث نظري لمنظمات دولية وإقليمية لوضع أطر التعاون الاقتصادي والثقافي والاجتماعي، وظل مجلس وزراء الداخلية العرب، ومقرّه الدائم في تونس، ومجلس وزراء الإعلام العرب من المجالس القليلة التي تحافظ على اجتماعاتها الدورية والتنسيق العربي المشترك.
وعلى مدى العقدين الأخيرين، من تسعينيات القرن الماضي إلى العقد الأخير، عادت مصر إلى الجامعة، وأصبح مجلس التعاون لدول الخليج العربي التجمّع الأقوى الأكثر استمراراً (فقد أخذ في الاعتبار البناء على التعاون الاقتصادي والاجتماعي أساساً)، وبدأ ذلك يصبغ العمل العربي المشترك إثر تراجع محاولات مجالس مماثلة لم تحقق الكثير، مثل الاتحاد المغاربي ومحاولات إقامة تعاون بين الدول المتبقية، خصوصاً مصر والعراق وسوريا وليبيا.
وفي العقد الأخير، واجه النظام العربي هزّة تمثلت في الاحتجاجات التي أطاحت حكومات بعض الدول، وتركت بعضها في وضع صراعات داخلية، وكان أساس كل تلك الاحتجاجات اقتصاديّاً واجتماعيّاً، ما يعدُّ دلالة على أن المرجو من التعاون العربي الاقتصادي والاجتماعي لم ينجز الكثير على مدى نحو سبعة عقود.
الاقتصاد والتجارة
لطالما ترددت في بداية مرحلة ما بعد الاستقلال لغالبية الدول العربية مقولة شهيرة، بأن المنطقة تملك من الموارد الطبيعية والبشرية ما يجعلها أغنى منطقة بالعالم. فالسودان مثلاً يمكنه أن ينتج زراعيّاً وحيوانيّاً ما يكفي المنطقة، ويفيض من حاجاتها الغذائية، ورغم إخلاص الكثيرين لفكرة “الأمن الغذائي العربي” منذ البداية، فإنّ عوامل السياسة والصراعات الإقليمية كان لها الأثر الأكبر في عدم تحقيق ذلك، وليس فقط بسبب الصراع العربي الإسرائيلي، و”مؤامرات” الاستعمار الخارجي.
توجد أطنان من الوثائق والدراسات الاستشارية المتعلقة بالتجارة البينية العربية وسُبل تعزيزها والاستثمار المباشر بين دول الجامعة العربية وتنسيق السياسات النقدية ومعايير الاقتصاد الكلي. والغرق فيها لا يفيد كثيراً، فهي تستند كثيراً إلى تجارب منظمات الأمم المتحدة ذات العلاقة وأدبيات تجمّعات أخرى، مثل الاتحاد الأوروبي وكيانات التعاون الآسيوي المختلفة.
إنما يفيد هنا مراجعة سريعة للتقارير الدورية لصندوق النقد العربي، ومقره أبو ظبي عاصمة الإمارات، ومحاولة استخلاص مؤشرات سريعة على عمل المكوّن الأهم في جامعة الدول العربية، وهو المجلس الاقتصادي الاجتماعي ونتائجه.
من المهم الإشارة أيضاً إلى أنّ صندوق النقد العربي ربما يكون الأكثر نشاطاً وفعّالية، ومن بين منظمات الجامعة وله موقع على الإنترنت يحدَّث دوريّاً، من دون أن يعني ذلك أي تأثير كبير في توحيد السياسة النقدية العربية، لأسباب تتعلق بالتباين الكبير بين أوضاع الاقتصاد الكلي للدول المختلفة، وإن كان يعدُّ نموذجاً لما يمكن البناء عليه في أي جهد للتطوير وانطلاقة جديدة للجامعة والعمل العربي المشترك.
وحسب تقرير الصندوق لعام 2018 فإن التعاون الاقتصادي محدود مقارنة بالمقومات الاقتصادية للدول العربية، إذ لا تتعدى التجارة البينية العربية 13 في المئة من إجمالي التجارة الخارجية للدول العربية، بينما قدّرت الاستثمارات العربية البينية بنحو 18 في المئة فقط من إجمالي تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر المتدفقة إلى الدول العربية عام 2017.
تلك النسب المتواضعة للتجارة البينية والاستثمار المباشر هي ضعف ما كانت عليه قبل مطلع القرن الحالي، وجاءت الزيادة بنحو الضعف نتيجة تعرّض بعض الدول لاحتجاجات وهزّات سياسية واجتماعية استدعت دعم الدول العربية الغنية لتلك الدول، تفادياً لتصدع يستشري في المنطقة ويصيب الجميع.
هذا المثال يتكرر، وتحكمه توجهات سياسية أكثر منها إرادة جادة ومستدامة للتكامل الإقليمي على الطريقة الأوروبية مثلاً. وليس هناك نقص في الأطر القانونية والإجرائية لتعزيز ذلك التعاون في مجال التجارة والاستثمار مثلاً، إذ يمكن الاطلاع على أدبيات هائلة الكم على مدى عشرات السنوات الماضية التي تحتاج فقط إلى بلورة وتنفيذ إذا توافرت الإرادة السياسية لتفعيل العمل العربي المشترك.
التعاون الأمني
ربما كان مجلس وزراء الداخلية العرب من منظمات الجامعة العربية الأكثر تنسيقاً، وإن كان بعيداً عن الإعلام، ومستفيداً من وجود مقره وأمانته العامة في تونس وقيادة السعودية لأعماله. ورغم أن موقعه على الإنترنت متوقف منذ 2017 فإن متابعة أعماله منذ سبعينيات القرن الماضي تشير إلى أن التنسيق الأمني حرصاً على سلامة دول المنطقة في مواجهة أخطار داخلية وحتى خارجها كان الأكثر فاعلية.
ومع بروز موجات التشدد والتطرف الديني، ثم قوة شوكة الجماعات الإرهابية المحلية والعابرة الحدود في المنطقة العربية، تطلب ذلك تنسيقاً بين أجهزة الأمن في مختلف الدول وتبادل المعلومات وحتى ربط مراكزها للوقاية من أخطار تلك الجماعات. صحيح أن ذلك لم يمنع كثيراً من العمليات الإرهابية في عدد من الدول العربية، ولا قوة جماعة مثل الإخوان المسلمين لتهيمن على التحرّكات الشعبية في عدد من الدول في 2011، إلا أنّ عمل ذلك القطاع من الجامعة العربية ربما حال من دون المزيد من تلك الهجمات، وقلل من تأثير هيمنتها السياسية في الدول التي نشطت فيها.
ونتيجة حساسية هذا التعاون الأمني، يصعب على أي مصدر أن يمدّك بتفاصيل تتعلق بالتعاون المعلوماتي أو التنسيق الأمني المشترك. لكن أغلب من تحدّثنا إليهم، يخلص إلى أن هذا الجانب تحديداً ربما كان التعاون العربي فيه متجاوزاً للاتفاقات والمواثيق التي تجدها في ملفات الجامعة العربية المتاحة للاطلاع.
لا ينسحب ذلك على اتفاقية الدفاع العربي المشترك، التي تعرّضت لاختبارات كثيرة على مدى عمر الجامعة، تنص المادة الثانية من الاتفاق الموقع عليه في الـ13 من أبريل (نيسان) 1950 على “تعتبر الدول المتعاقدة كل اعتداء مسلح يقع على أي دولة أو أكثر منها أو على قواتها اعتداءً عليها جميعاً، ولذلك فإنها عمل بحق الدفاع الشرعي، الفردي والجماعي، عن كيانها تلتزم أن تبادر إلى معونة الدولة أو الدول المُعتدى عليها، وأن تتخذ على الفور منفردة ومجتمعة جميع التدابير، وتستخدم جميع ما لديها من وسائل بما في ذلك استخدام القوة المسلحة لرد الاعتداء وإعادة الأمن والسلام إلى نصابهما”.
لم تكن حرب السويس عام 1956 ولا حتى حرب 1967 بين إسرائيل ودول عربية مثالاً لفاعلية تلك الاتفاقية، وإن كانت حرب 1973 نموذجاً للعمل العربي المشترك، ليس فقط في مجال الدفاع المشترك، إنما أيضاً في الدعم الاقتصادي والسياسي في أوقات الأزمات، فإنّ غزو العراق الكويت لم يشهد توحّداً في الموقف العربي وقتها، ليس فقط لأن الاعتداء جاء من دولة عضو في الجامعة العربية على دولة عضو أخرى، ما أدّى إلى اختلاف تفسيرات معاهدة الدفاع العربي المشترك، إنما لتباينات في المواقف السياسية أيضاً بين الدول العربية.
وكذلك غزو العراق وما تلاه من تحالف دولي لمكافحة الإرهاب في سوريا والعراق. لكن بعد نحو عشر سنوات من صراعات مسلحة تهدد بعض الدول العربية بانفراط عقدها، ربما تتوافر الفرصة الأمثل للتعاون الأمني والدفاعي العربي “لإعادة الأمن والسلام إلى نصابهما” بالمنطقة، وتوجد بالفعل دعوات جادة الآن قد تتطلب حتى إعادة النظر في صياغة بعض اتفاقات الجامعة العربية بهذا الخصوص.
أحمد مصطفى
اندبندت عربي