المعضلة الإيرانية: السياسات الأمريكية لطمأنة دول الخليج بعد الاتفاق النووي

المعضلة الإيرانية: السياسات الأمريكية لطمأنة دول الخليج بعد الاتفاق النووي

3785

يُثير نجاح الولايات المتحدة الأمريكية وإيران في التوصل إلى اتفاق يُنهي أزمة البرنامج النووي الإيراني والخلافات الأمريكية الإيرانية في الرابع عشر من يوليو الماضي (2015)، تساؤلات عن تداعيات الاتفاق على العلاقات بين الولايات المتحدة ودول الخليج العربي التي تتخوف من أبعاد الاتفاق النووي، ليس فقط لاستمرار الشكوك في مدى نجاحه في تحجيم طموحات إيران النووية والتزامها ببنوده، ولكن أيضًا للانعكاس الإيجابي المتوقع للاتفاق على علاقات إيران الدولية بما يساعد في توسيع نفوذها الإقليمي، الأمر الذي يُمثل مصدر الخطر الأكبر للدول الخليجية.

المعضلة الإيرانية في العلاقات الأمريكية الخليجية:

تبدو معضلة الولايات المتحدة الأمريكية في علاقتها بدول الخليج العربية فيما بعد التوقيع على الاتفاق النووي في سعيها للحفاظ على الروابط القوية التي تجمعها بتلك الدول على المستويات السياسية والاقتصادية والاستراتيجية المختلفة، وموازنة تلك العلاقة مع واقع وجود إيران كقوة إقليمية دفعت القوى العالمية إلى التفاوض معها. غير أن دول الخليج العربية على الجانب الآخر -وخاصةً المملكة العربية السعودية- ترى أن الولايات المتحدة اختزلت مخاوفها خلال المفاوضات في المسألة النووية، في حين أن ذلك لا يُعد سوى عرضٍ لمشكلة أكبر، هي سياسات إيران التي تضرُّ بأمن واستقرار المنطقة.

ويُشار هنا إلى أن الإدارة الأمريكية لم تُحاول ربط ملف إيران النووي بتحقيق التغير المطلوب في سياساتها الإقليمية، بل إن الرئيس الأمريكي “باراك أوباما” كان واضحًا في هذا الأمر خلال المقابلة الصحفية التي أجراها معه الكاتب الأمريكي “توماس فريدمان” لصحيفة “نيويورك تايمز” يوم الإعلان عن التوصل إلى الاتفاق النووي. فبحسب فريدمان ظل الرئيس يُؤكد خلال المقابلة: “لا تحكموا عليَّ من خلال إن كانت هذه الاتفاقية ستُحدث تحولا في إيران، أو ستُنهي سلوكها العدواني تجاه جيرانها العرب، أو ستُحدث انفراجة في العلاقة بين السنّة والشيعة.. احكموا عليَّ من خلال شيء واحد: هل ستمنع هذه الاتفاقية إيران من امتلاك سلاح نووي خلال العقد المقبل؟”. وهذا يعني أن فصل التقني عن السياسي في المفاوضات النووية كان أمرًا متعمدًا من جانب الإدارة الأمريكية، ذلك من جانب. ومن جانب ثانٍ، فإن الاتفاق النووي مع إيران إنما يعني أن القوى الدولية شاءت أن تعترف بصعودها كقوة إقليمية في الشرق الأوسط، وهو ما لا يتعارض بالضرورة مع مصالح الدول الكبرى خارج الإقليم. فإذا كانت روسيا والصين تؤيدان عمومًا سياسات إيران، فإن الولايات المتحدة تُنسّق عن بُعد مع قوات الحرس الثوري الإيراني التي تدعم القوات العراقية في الحرب ضد تنظيم “الدولة الإسلامية” وسط العراق، وقد تتطور السياسة الأمريكية تجاه إيران مستقبلا لتقوم على تقديم حوافز مادية مقابل التعاون معها في المسائل الأمنية، ولتصبح “شرطي أمريكا في الخليج”، بحسب التعبير الذي استخدمه روبرت فيسك في مقاله بصحيفة “الإندبندت البريطانية” في 15 يوليو 2015، تحت عنوان “أمريكا تأخذ جانب إيران، على حساب إسرائيل والسعودية”، موضحًا أن الاتفاق النووي سيُضاعف شكوك العرب وإسرائيل في أن الولايات المتحدة أخذت جانب الشيعة في الحرب الطائفية الدائرة في الشرق الأوسط.

ذلك أن الاتفاق المُوقَّع في فيينا قد يُتيح لإيران تحييد مواقف القوى الكبرى تجاه قضايا المنطقة الرئيسية، وبما يسمح لها بتوسيع نفوذها على حساب دول الخليج العربية، وفي المقدمة منها المملكة السعودية، المنافس الإقليمي لإيران، وأكثر الدول الخليجية ريبة من أبعاد الاتفاق النووي هي ومملكة البحرين، بسبب الشكوك القوية في مسئولية إيران عن حالة عدم الاستقرار الأمني في البحرين، والتي كان من مظاهرها الأخيرة تفجير “سترة” الذي وقع في 28 يوليو 2015 وأسفر عن مقتل اثنين من رجال الأمن البحرينيين وإصابة 6 آخرين.

الاستراتيجية الأمريكية لطمأنة دول الخليج:

في محاولة لمعالجة المخاوف الخليجية السابق الإشارة إليها، كثفت واشنطن من جهودها منذ التوقيع على الاتفاق النووي لأجل طمأنة حلفائها بشأن بنود الاتفاق وتداعياته، سواء من خلال اتصالات مسئولي الإدارة الأمريكية -وعلى رأسهم الرئيس “أوباما”- مع زعماء الخليج، أو من خلال زيارة وزير الدفاع الأمريكي “آشتون كارتر” للمملكة السعودية في 21 يوليو 2015 في إطار جولته الشرق أوسطية، وكذلك لقاء وزير الخارجية الأمريكي “جون كيري” بنظرائه في دول مجلس التعاون الخليجي بالدوحة في 3 أغسطس الجاري، للبحث في قضايا المنطقة الرئيسية، وعلى رأسها أبعاد الاتفاق النووي الموقّع مع إيران. ومن خلال تلك الفعاليات الثلاث، يمكن الوقوف على ملامح الاستراتيجية الأمريكية تجاه دول الخليج العربية فيما بعد الاتفاق النووي، والتي تتلخص في:

أولا- تعزيز الرقابة على البرنامج النووي لإيران: حاولت واشنطن معالجة المخاوف الخليجية من تداعيات الاتفاق النووي على الأمن في المنطقة، بالتشديد على أن الاتفاق هو الذي يضمن ذلك بإتاحته الرقابة على النشاط النووي لإيران. ويتضح هذا الموقف من تصريحات وزير الخارجية الأمريكي “كيري” خلال لقائه وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي، حيث اعتبر أن الاتفاق “التاريخي” -بحسب تصريح “كيري”- الموقّع مع إيران يُساعد في ضمان الأمن والاستقرار في كامل منطقة الشرق الأوسط، موضحًا أنه إذا تم تطبيق اتفاق فيينا بالكامل فإنه سيجعل دول المنطقة أكثر أمانًا عما كانت عليه من قبل. وهنا تجدر الإشارة إلى الموقف المشترك الذي سبق التعبير عنه في القمة الخليجية الأمريكية التي انعقدت بـ”كامب ديفيد” في مايو 2015، بـ”أن اتفاقًا شاملا وقابلا للتحقق منه، ويعالج بصفة كاملة الهواجس الإقليمية والدولية بشأن برنامج إيران النووي؛ هو من مصلحة أمن دول مجلس التعاون وكذلك الولايات المتحدة والمجتمع الدولي”.

ثانيًا- تأكيد الالتزام الأمني تجاه دول الخليج: مع تشديد دول الخليج على أن الاتفاق النووي يجب أن يكون سببًا في الاستقرار وحسن الجوار وليس التدخل في الشئون الداخلية للدول – تعهدت الولايات المتحدة بأنه في حال وقوع مثل هذا العدوان أو التهديد به، فإنها على استعداد للعمل مع شركائها الخليجيين لتحديد العمل المناسب بشكل عاجل، واستخدام جميع الوسائل المتوفرة لدى الجانبين، وبما يشمل إمكانية استخدام القوة العسكرية، وذلك بجانب تكثيف التعاون المشترك لمجابهة نشاط التنظيمات الإرهابية وخصوصًا تنظيم “الدولة الإسلامية” والقاعدة. وتم التأكيد -سواء خلال زيارة وزير الدفاع الأمريكي “آشتون كارتر” للمملكة العربية السعودية، وأيضًا خلال لقاء “جون كيري” بوزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي- على ما سبق التوافق عليه في كامب ديفيد بأن الولايات المتحدة ودول مجلس التعاون تشترك في مصالح تاريخية وعميقة في أمن المنطقة، بما في ذلك ضمان الاستقلال السياسي وسلامة أراضي دول المجلس من أي عدوان خارجي.

ثالثًا- الإسراع بجهود تسليح دول الخليج: رغم أن الإدارة الأمريكية لم تصل إلى حد عرض معاهدة دفاع رسمية -التي سعت بعض دول الخليج إلى المناداة بها- إلا أنها أعلنت عن تقديم ضمانات أمنية واسعة النطاق في مجال الدفاع المشترك، وخصوصًا في مجال تعزيز الأمن البحري وأمن الإنترنت، مع موافقة الإدارة الأمريكية على تسريع عمليات نقل الأسلحة والصواريخ إلى حلفائها في الخليج، وخصوصا الضرورية منها، والحديث في هذا الصدد عن إمكانية دمج الأنظمة الدفاعية الإقليمية من الصواريخ البالستية، وزيادة عدد التدريبات (العسكرية) المشتركة، والبدء بعمليات تدريب محددة جدًّا تهدف إلى تبادل وتقاسم المعلومات الاستخباراتية. وقد وافقت بالفعل الخارجية الأمريكية في 29 يوليو 2015 على بيع صواريخ “باتريوت” الاعتراضية للمملكة السعودية بتكلفة متوقعة 5.4 مليارات دولار، إلى جانب ذخيرة لعدد من أنظمة الأسلحة بقيمة 500 مليون دولار.

رابعًا- التوافق حول القضايا الإقليمية: عملت الولايات المتحدة على تحقيق التوافق السياسي المنشود مع دول الخليج العربية بشأن القضايا الرئيسية في الشرق الأوسط، والبرهنة على عدم تأثير الاتفاق النووي على تلك القضايا والملفات، حتى أن وزير الخارجية الأمريكي “كيري” قد استبق زيارته للدوحة بتصريحات أكد فيها أن طهران كانت “عدوا للولايات المتحدة في الماضي.. وما زلنا أعداء ولسنا حلفاء أو أصدقاء.. نحن ما زلنا خصمين وهناك الكثير من القضايا العالقة”، مضيفًا أن “إيران ستبقى معزولة بسبب دعمها للإرهاب، وبسبب دعمها لتجارة السلاح، ودعمها للحوثيين، ودعمها لحزب الله (اللبناني)، لأنه منظمة إرهابية، وسنصد التحركات التي تدعمها إيران في دول أخرى”.

وفي إطار التوافق مع رؤى الخليج بشأن قضايا الشرق الأوسط، كان تأكيد “كيري” خلال لقائه بوزراء خارجية دول الخليج، أن الرئيس السوري “بشار الأسد” ونظامه فَقَدَا الشرعية منذ وقت طويل، معلنًا دعم بلاده للمعارضة “المعتدلة” في سوريا وللحرب على “تنظيم الدولة” للتخلص من الملاذ الآمن الذي يتمتع به هناك، ومشددًا في الوقت نفسه على الحاجة إلى حل سياسي للنزاع بين المجموعات المسلحة والحكومة السورية، في تعارض واضح مع الرؤية الإيرانية حيال هذا الملف.

وفيما يتعلق بالملف اليمني، ورغم اعتبار المتابعين أن تلك القضية لا تشكل أهمية استراتيجية كبيرة للغرب وللولايات المتحدة كما هو الحال بالنسبة للملف السوري، فإن واشنطن أعلنت دعمها للجهود السعودية في اليمن، ومن المتوقع أن يستمر دعمها لسياسات المملكة في هذا الملف لإثبات التزامها بأمن الخليج ضد التطلعات الإيرانية، ورفض ما يقوم به الحوثيون من نشاط عسكري هناك بدعم واضح من إيران.

تباين تأثير الاستراتيجية الأمريكية:

يرى المتابعون أن نجاح الاستراتيجية الأمريكية المتبناة تجاه دول الخليج ليس مضمونًا على نحو كامل. صحيح أنه بعد الوعود الأمريكية بالإسراع بنقل الأسلحة ومشاركة المعلومات الاستخبارية بشكل أفضل مع دول الخليج، فإن الموقف الذي أعلنه وزير الخارجية القطري “خالد بن محمد العطية” – الذي استضافت بلاده لقاء “جون كيري” بوزراء خارجية دول الخليج – كان تأكيد دعم دول المجلس للاتفاق النووي الذي اعتبره “العطية” أفضل الخيارات من أجل استقرار المنطقة، ولكن هذا الموقف يعبر بالأساس عن رؤية قطر لمسار المفاوضات النووية، وأيضا رؤية سلطنة عمان التي سبق أن استضافت في عام 2013 مباحثات إيران والقوى الدولية، وبدرجة أقل رؤية الإمارات والكويت التي لم تتحفظ على زيارة وزير الخارجية الإيراني لأراضيها في 25 يوليو 2015 خلال جولة خليجية شملت أيضًا قطر والعراق.

ولكن على الجانب الآخر، تستمر المملكة العربية السعودية والبحرين في تحفظها على السياسات الأمريكية تجاه إيران التي توجه إليها اتهامات بتغذية حالة عدم الاستقرار الأمني في عموم المنطقة وخصوصًا في البحرين. وتكفي الإشارة هنا إلى أن الرئيس الأمريكي نفسه قد اعترف بأن “إيران ما زالت تمثل تحديات لمصالح أمريكا وقيمها في المنطقة والعالم حتى من دون سلاح نووي”، مشيرًا إلى أنه “لا يتوقع أن تحد إيران من تدخلاتها الإقليمية وتحديدًا في العراق وسوريا، أو دعمها للإرهاب كحزب الله والحوثيين”، ومضيفًا أن “الاتفاق النووي لن يحل كل مشكلات العالم مع إيران”.

وذلك في ظل استمرار تصريحات القيادة الإيرانية بمواصلة التدخل في الشئون الداخلية العربية، الأمر الذي تبدى في تصريحات وزير الخارجية الإيراني نفسه خلال جولته الخليجية، التي يُفترض أن هدفها الأول كان تحقيق التواصل مع عواصم الخليج وطمأنتهم بشأن نوايا وتحركات إيران، وحيث قال جواد ظريف بوضوح: “إن ما تحتاجه المنطقة ليس تغييرًا في سياسة إيران الخارجية، وإنما في السياسات المعتمدة تجاه طهران”، وذلك ما يتواءم وتصريحات المرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي، الذي أكد فور الإعلان عن الاتفاق النووي أن ذلك الاتفاق “لا يشير إلى أي تحول أكبر في علاقات إيران مع واشنطن أو بشأن سياساتها في الشرق الأوسط”. وكل ذلك إنما يُضاف إلى أسباب الشكوك في مدى نجاح الاستراتيجية الأمريكية المتبعة، سواء تجاه إيران أو تجاه دول الخليج العربي.

إيمان أحمد عبدالحليم

المركز الإقليمي للدراسات الاستراتجية