نهاية الأوهام الأميركية

نهاية الأوهام الأميركية

ما إن وضعت الحرب الباردة أوزارها حتى استبدت بصناع السياسة الأميركية الأوهام بشأن النظام العالمي، ومن ذلك أنهم ظلوا يرون العالم كما يتمنون له أن يكون لا كما هو في واقع الأمر.

بتلك الكلمات استهلت نادية شادلو، مساعدة مستشار الأمن القومي السابقة للشؤون الإستراتيجية بإدارة الرئيس الأميركي الحالي دونالد ترامب، مقالها بمجلة “فورين أفيرز” Foreign Affairs تحت عنوان “نهاية الوهم الأميركي”.

ولعل ترامب -من بين سائر الرؤساء الأميركيين- لا يعاني من تلك الأوهام، حسب ادعاء الكاتبة التي ترى أن سياساته “التي تستلهم رؤى غير تقليدية” ساعدت في إجراء سلسلة من التعديلات طال انتظارها.

وكثير من تلك التعديلات إما حُرِّفت أو أُسيئ فهمها خلال المناظرات الحزبية الراهنة والتي تضمنت انتقادات لاذعة. غير أن التغييرات التي ابتدرها ترامب ستساعد -وفق كاتبة المقال- في ضمان أن يظل النظام العالمي موافقا للمصالح الأميركية.

ومع اقتراب الولاية الرئاسية الأولى لترامب من نهايتها، يجب على واشنطن البدء بجرد حساب للنظام العالمي المتداعي الذي أعقب الحرب الباردة، ورسم مسار نحو مستقبل أكثر إنصافا وأمنا.

وبغض النظر عمن سيتولى الرئاسة بالولايات المتحدة في يناير/كانون الثاني المقبل، فإن الكاتبة -التي تعمل حاليا كبيرة باحثين بمعهد هدسون في واشنطن دي سي- تنصح صناع السياسة الأميركيين بضرورة تبني أفكار جديدة فيما يتعلق بدور واشنطن في العالم، وانتهاج فكر جديد إزاء خصومها الدوليين مثل الصين وروسيا اللتين “تتحايلان على القواعد التي تحكم النظام الليبرالي العالمي لمصلحتهما”.

وعلى ذلك الأساس -تقول الكاتبة- يجب أن ترتكز الفرضيات الجديدة للسياسة الخارجية الأميركية. وعلى النقيض من التوقعات المتفائلة التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفياتي، فإن التحرر السياسي على نطاق واسع ونمو المنظمات العابرة للحدود الوطنية لم يخففا من حدة التنافس بين الدول.

حقائق جديدة
وبالمثل، فقد أنتجت العولمة والعلاقات الاقتصادية المتبادلة بين الدول تباينات وأوجه ضعف لم تكن متوقعة في النظام العالمي. ومع أن انتشار التقنيات الرقمية زادت من الإنتاجية وأفرزت فوائد أخرى، فإنها قلصت إلى جانب ذلك المزايا التي ظل يتمتع بها الجيش الأميركي وشكلت تحديا للمجتمعات الديمقراطية.

اعلان
وترى الكاتبة أنه -وبالنظر إلى تلك الحقائق الجديدة- فإن واشنطن لن تستطيع ببساطة العودة إلى تبني الفرضيات القديمة. فالعالم قد تجاوز “لحظة القطب الواحد” التي اتسمت بها حقبة ما بعد الحرب الباردة، ليدخل عصرا قوامه الاعتماد المتبادل والتنافسية الذي يستوجب سياسات وأدوات مختلفة.

ولكي تتبع واشنطن مسارا في هذا العصر الجديد ينبغي عليها أن تتخلى عن أوهامها القديمة، وأن تتجاوز “تخاريف” النزعة الأممية الليبرالية، وأن تعيد النظر في رؤاها حول طبيعة النظام العالمي.

وقد كان تبني أعداد متزايدة من الدول للأفكار الديمقراطية أواخر القرن العشرين مدعاة لتفاخر الغرب، وتعاظم الآمال في المستقبل. وتشكل حينها توافق في الرأي بأن الإقبال على الديمقراطية الليبرالية من شأنه أن يفضي إلى نظام سياسي عالمي مستقر.

وكانت تلك الفرضية القائلة -بوجود إقبال على الديمقراطية الليبرالية- دافعا وراء صدور قرار بالسماح للصين الانضمام لمنظمة التجارة العالمية عام 2001.

وكما قال الرئيس الأميركي بيل كلينتون حينها، فإن تلك السانحة سيكون لها “تأثير بالغ على حقوق الإنسان والحرية السياسية”. وسيتأتى لباقي دول العالم الوصول إلى الأسواق الصينية والحصول على سلع زهيدة الثمن، في حين سيتسنى للصين -وفق رؤي الكاتبة- تحقيق الرخاء لمئات الملايين من مواطنيها وتعزيز التوقعات بإرساء الديمقراطية في تلك الدولة.

على أن الصين -حسب المقال- لم تكن لديها نية في التقارب مع الغرب. فالحزب الشيوعي الصيني لم ينوِ قط الالتزام بقوانين الغرب بل كان مصمما على التحكم بالأسواق بدلا من فتحها، وذلك عبر الإبقاء على سعر صرف عملة بلاده منخفضا بشكل مصطنع، ومنح المشاريع والمؤسسات المملوكة للدولة مزايا غير عادلة، وإقامة حواجز تنظيمية بوجه الشركات غير الصينية.

بل على العكس من ذلك -تقول الكاتبة- لطالما استفادت الصين من ميزة الارتباط الاقتصادي بين الدول فطورت اقتصادها وعملت على تقوية جيشها.

مساوئ العولمة
ومضت الكاتبة إلى القول إن العديد من الأميركيين العاديين بدؤوا يشعرون بأن العولمة تؤذيهم حتى قبل اعتلاء ترامب سدة الحكم بسنوات. وقد تجلى ذلك في انعدام الوظائف وهروب الاستثمارات المالية إلى خارج الولايات المتحدة.

لكن الوعد بأن يعم خير العولمة الجميع لم يتحقق -كما تقول صاحبة المقال- فقد صعدت بعض الدول إلى قمم شاهقة، وعانى آخرون من الركود وغرقت دول أخرى في وحل الأزمات.

أما الوهم الآخر الذي استولى على صناع السياسة الأميركيين فهو اعتقادهم بأن واشنطن يمكنها الاعتماد على المنظمات الدولية لكي تساعدها في مواجهة التحديات الكبرى، وأن “حكما عالميا رشيدا” سوف ينبثق بدعم من القيادة الأميركية.

وأشارت كاتبة المقال إلى أن المنظمات الدولية تمدد دورها وصارت أكثر طموحا، ضاربة مثالا على ذلك بالأمم المتحدة التي تطلعت في عهد أمينها العام (المصري) بطرس بطرس غالي إلى الاضطلاع بمهام حفظ السلم العالمي، وصون حقوق الإنسان وحفز التقدم الاجتماعي عبر بعثاتها المختلفة لحفظ السلام.

وساقت مثالا آخر على تعاظم دور تلك الوكالات بمنظمة الصحة العالمية التي تأسست عام 1948 لدرء تفشي الأمراض المعدية، إلا أنها بمرور السنوات اتسع نطاق عملياتها بصورة مفاجئة ومثيرة حيث بدأت بحلول عام 2000 بإطلاق التحذيرات في كل اتجاه بدءا من سلامة الأغذية واستخدام الهواتف الخلوية وحتى جودة الهواء.

ومضت الكاتبة إلى القول إنه رغم أن النزعة الأممية الليبرالية شجعت اعتماد الدول على بعضها وتبني مبدأ التعددية، فإنها اعتمدت أيضا على ثقتها في قدرة الولايات المتحدة على الحفاظ على تفوقها العسكري الذي ظلت تتمتع به في أعقاب الحرب الباردة مباشرة.

تشغيل الفيديو
تحديات بكل الاتجاهات
على أنه في واقع الأمر تواجه الهيمنة العسكرية الأميركية حاليا تحديات في كل مجال تقريبا. ولم تعد الولايات المتحدة قادرة على العمل بحرية في الساحات التقليدية البرية والبحرية والجوية، بل حتى في الميادين الجديدة كالفضاء الخارجي والفضاء السيبراني.

وانتقل المقال بعد ذلك إلى الحديث عن الدور الذي يضطلع به الرئيس ترامب من أجل الخروج من دوامة تلك الأوهام، فزعمت الكاتبة أنه أوفى بوعوده الانتخابية في وقف تراجع القدرة العسكرية الأميركية حيث زاد من الإنفاق الدفاعي بنحو 20% تقريبا منذ عام 2017.

كما أنه (الرئيس) قام بتمويل عمليات التحديث النووي واستعاد عافية الدفاع الصاروخي بعد سنوات من الإهمال. بل إن إدارة ترامب أنشأت القوات الفضائية‏، وهي أحد الأفرع العسكرية للقوات المسلحة الأميركية التي تختص بتنفيذ العمليات الفضائية العسكرية.

وتقول الكاتبة إنه في حال فوز ترامب بولاية ثانية، فإن على إدارته التركيز على إيجاد أفضل السبل لإحداث تغيير في السياسات التي ابتدرتها عبر توجيه رسائل أكثر اتساقا، وبناء تحالفات أقوى داخليا وخارجيا على حد سواء. ومهما يكن من أمر ساكن البيت الأبيض في يناير/كانون الثاني، فسيتعين عليه إدراك أن التنافس المتعدد الأبعاد في الوقت الراهن لن ينتهي بتحقيق انتصارات تقليدية.

إن حقائق الجغرافيا السياسية تتسم بطابع الديمومة، ولذلك سيظل التنافس قائما بين الدول رغم أنف أصحاب النزعة المثالية الذين يتمنون غير ذلك.

وتخلص الكاتبة إلى القول إن أحد أهداف الإستراتيجية الأميركية يجب أن يركز على الحيلولة دون تراكم الأنشطة والتوجهات التي تلحق الضرر بمصالح الولايات المتحدة وقيمها، بدلا من اللهث وراء مشاريع كبرى مثل محاولة تحديد الكيفية التي ينبغي على الصين أو دول أخرى حكم نفسها.

وتختم مقالها بإسداء النصح للولايات المتحدة بأنها -ولكي تحقق ذلك الهدف الإستراتيجي- فإن عليها صياغة سياسات تهدف إلى صون توازنات القوى الإقليمية، وردع عدوان من تصفهم بالقوى الرجعية.

الجزيرة