سيناريوهات الصراع الدبلوماسي بشأن الاتفاق النووي الإيراني وتفعيل “آلية الزناد”

سيناريوهات الصراع الدبلوماسي بشأن الاتفاق النووي الإيراني وتفعيل “آلية الزناد”

لم تنته المعركة الدبلوماسية التي خسرتها الولايات المتحدة، خلال سعيها لاستصدار قرار من مجلس الأمن، يُمدِّد فيه حظر الأسلحة المفروض على إيران منذ 2007، والذي من المقرر أن ينتهي في أكتوبر/تشرين الأول 2020، بل ذهبت الإدارة الأميركية إلى أبعد من ذلك من خلال محاولتها تفعيل آلية “فضِّ النزاع” أو ما يُطلق عليها اصطلاحًا “آلية الزناد”، الواردة في كل من بنود الاتفاق النووي الإيراني وقرار مجلس الأمن 2231 المرتبط. من جهة أخرى، تتمسك كل من إيران وباقي الأعضاء المشاركين، بأن الولايات المتحدة لا يحق لها الاستناد إلى اتفاق انسحبت منه رسميًّا.

تحاول هذه الورقة تقديم رؤية قانونية مُبسطة لغير المختصين، تبين فيها المستندات القانونية للأطراف المتنازعة، كما تحاول استقراء مستقبل ومآلات الصراع الإيراني-الأميركي في ضوء الانتخابات الأميركية المقبلة.

1. الجانب القانوني
بعد مفاوضات ماراثونية استمرت ثمانية عشر شهرًا، توصلت إيران مع مجموعة (5+1) والتي ضمَّت بريطانيا، وفرنسا، وروسيا، والصين، والولايات المتحدة، وألمانيا، توصلت إلى اتفاق نهائي سُمِّي بالاتفاق النووي الإيراني أو خطة العمل الشاملة المشتركة(1) لعام 2015. يعتبر هذا الاتفاق من أهم الجهود الدبلوماسية التي توصلت إليها القوى العالمية بعد الحرب العالمية الثانية. يتضمن الاتفاق مجموعة تنازلات إيرانية على الصعيد النووي مقابل رفع العقوبات الأحادية والأممية بشكل تدريجي من قبل الأطراف المتعاقدة.

يُعرَّف العقد عادةً بأنه: التقاء إرادتين أو أكثر على إحداث أثر قانوني، سواء بإنشاء التزام أو تعديله أو إنهائه أو نقله. أحد الأركان المهمة في العقد هو وجود التزامات متقابلة لطرفي العقد، وتعني هذه القاعدة أن تنفيذ التزام طرف، يقابله تنفيذ الطرف الآخر لالتزامه، والعكس صحيح: عدم تنفيذ أحد الأطراف لالتزامه يدفع الطرف الآخر بالدفع بعدم تنفيذ الالتزام الذي يقع على عاتقه. وللدفع بعدم التنفيذ هناك ما يسمى بضمانات الإجراء، وهي المحركات والآليات التي تدفع الأطراف إلى تنفيذ ما تعهدوا به. هذه القاعدة الحقوقية البسيطة والقابلة للفهم من قبل العامة، يمكن تعميمها على كل عقد أو توافق مهما بلغ حجمه. وبالتالي، فإن الاتفاق النووي الإيراني لا يُعد استثناء من هذه القاعدة. وعليه، فقد جاء كل من البند 36 و37 من الاتفاق النووي المؤلَّف من 159 صفحة، تجسيدًا لهذه القواعد، وتم التوافق على هذين البندين اللذين يتضمنان آليات حل النزاع بين الأطراف المتعاقدة.

الولايات المتحدة الأميركية وبعد وصول الرئيس ترامب إلى البيت الأبيض، وتنفيذًا لوعود أطلقها في حملته الانتخابية، أعلن انسحاب بلاده من الاتفاق النووي نهائيًّا بتاريخ 8 مايو/أيار 2018. ومن ثم فرضت الولايات المتحدة عقوبات قاسية على إيران. لم يوضح الرئيس ترامب وإدارته الأسباب القانونية لهذا الانسحاب واكتفى بإطلاق أوصاف عامة “ليس لها أثر قانوني”، على الاتفاق واصفًا إياه بأنه أسوأ صفقة وقَّعتها بلاده. من الناحية القانونية، أشارت تقارير الوكالة الدولية للطاقة الذرية لالتزام إيران بمفاد خطة العمل الشاملة دون خرقها إلى تاريخ 11 نوفمبر/تشرين الثاني 2019(2)، أي ما يقارب 18 شهرًا منذ انسحاب الولايات المتحدة. وبعد مرور عامين على هذا الانسحاب، أمر الرئيس ترامب وزير خارجيته بالتوجه إلى الأمم المتحدة متمثلة بمجلس الأمن الدولي وتقديم وثيقة تطالب مجلس الأمن بإعادة فرض العقوبات الأممية على طهران بسبب انتهاكها للاتفاق النووي الإيراني.

على إثر ذلك، بدأ نقاش قانوني حاد وغير مسبوق من حيث قدرة الولايات المتحدة على المطالبة بإعادة فرض العقوبات على إيران بموجب الاتفاق الذي انسحبت منه. هذا النقاش غير مسبوق ويعتبر سابقة تاريخية في أروقة الأمم المتحدة. وانقسم النقاش حول رأيين يستدل كل منهما ببنود الاتفاق النووي أو قرار مجلس الأمن 2231 المنبثق عن الاتفاق نفسه. فهل يحق للولايات المتحدة قانونيًّا الادعاء بمشروعية مطالبتها بإعادة فرض العقوبات على طهران؟

1.1. الاستناد لبنود خطة العمل الشاملة المشتركة

الجواب معقد للغاية، ولا يمكن إعطاء رأي قانوني قطعي في هذه المسألة، باعتبارها حالة فريدة ولا يوجد لها سوابق تاريخية للمقارنة، ولذلك كل رأي يصدر في هذا الخصوص، هو رأي اجتهادي يحتمل الصواب أو الخطأ.

النقاش الحقوقي ينطلق من البند 36 من خطة العمل الشاملة المشتركة، حيث يقر هذا البند بأنه: إذا اعتقدت إيران أن أيًّا من مجموعة (5+1) أو جميعها لا تفي بالتزاماتها بموجب خطة العمل الشاملة المشتركة هذه، فيمكن لإيران إحالة المسألة إلى اللجنة المشتركة لحلها؛ وبالمثل، إذا كان أيٌّ من مجموعة (5+1) يعتقد أن إيران لا تفي بالتزاماتها بموجب خطة العمل الشاملة المشتركة هذه، فإن أيًّا من (5+1) يمكنه فعل الشيء نفسه.

ويستمر البند 36 و37 بتوضيح آلية فض النزاع بين الأطراف المتعاقدة، ويوضح هذه الآلية ضمن خطوات متعاقبة محدودة بمدد زمنية معينة كالتالي:

إذا اعتقدت أي دولة عضو في خطة العمل الشاملة المشتركة بأن عضوًا أخر أو أكثر لم ينفذ التزاماته فيحق للعضو المُشتكي إحالة المسألة إلى اللجنة المشتركة لحلها، سيكون أمام اللجنة 15 يومًا لحل المشكلة ما لم يتم تمديد الفترة الزمنية بالإجماع.
إذا لم يقتنع العضو المشارك بالنتيجة التي توصلت إليها اللجنة المشتركة فيحق لهذا العضو التوجه إلى وزراء الخارجية، سيكون أمام الوزراء 15 يومًا لحل المشكلة ما لم يتم تمديد الفترة الزمنية بالإجماع.
بعد نظر اللجنة المشتركة، بالتوازي مع (أو بدلًا من) المراجعة على المستوى الوزاري، يمكن إما للمشارك المشتكي أو المشارك المعني بأدائه أن يطلب النظر في المسألة من قبل مجلس استشاري، والذي سيتألف من ثلاثة أعضاء (عضوين يتم تعيينهما من قبل المشاركين في النزاع وعضو ثالث مستقل)، يجب أن يقدم المجلس الاستشاري رأيًا غير ملزم بشأن مسألة الامتثال في غضون 15 يومًا. إذا لم يتم حل المشكلة بعد هذه العملية التي تستغرق 30 يومًا، فستنظر اللجنة المشتركة في رأي المجلس الاستشاري لمدة لا تزيد عن 5 أيام من أجل حل المشكلة.
وإذا رأى المشارك المشتكي أن المشكلة تشكِّل عدم أداء مهمًّا، فيمكن لذلك المشارك التعامل مع المشكلة التي لم يتم حلها كأسباب للتوقف عن أداء التزاماته بموجب خطة العمل الشاملة المشتركة بالكامل أو جزئيًّا و/ أو إخطار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بأنه يعتقد أن القضية تشكِّل عدم أداء مهمًّا(3).
عند استلام الإخطار من المشارك المشتكي، كما هو موضح أعلاه، بما في ذلك وصف جهود حسن النية التي بذلها المشارك لاستنفاد عملية تسوية المنازعات المحددة في خطة العمل الشاملة المشتركة، يصوِّت مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وفقًا لإجراءاته، على قرار لمواصلة رفع العقوبات. إذا لم يتم اعتماد القرار الموصوف أعلاه في غضون 30 يومًا من الإخطار، فسيتم إعادة فرض أحكام قرارات مجلس الأمن القديم، ما لم يقرر مجلس الأمن الدولي غير ذلك(4).
لتقديم قراءة سريعة لآلية فض النزاع هذه، علينا القول بأنها آلية مشابهة لأية آلية فض نزاع أخرى. فهي تتضمن مراجع للتقاضي وطرح الشكاوى وتتضمن مددًا زمنية محددة كي يصل الأطراف إلى حقوقهم المشروعة خلال مدة زمنية معقولة، لا تطول لتضييع الحقوق، ولا تقصر لإعطاء أحكام متسرعة بعيدة عن الواقع والقانون.

ولكن القضية الخطيرة التي يمكن ملاحظتها في البند 37 خصوصًا هي موضوع طرح السؤال المعكوس على مجلس الأمن في حال عدم توافق الأطراف المتنازعة. وهذا السؤال المعكوس جرى تكراره كذلك في قرار مجلس الأمن 2231 لعام 2015. السؤال يأتي بصيغة: “يُصوِّت مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وفقًا لإجراءاته، على قرار بمواصلة رفع العقوبات”. وكان المنطقي أن تكون الجملة كالتالي: “يُصوِّت مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وفقًا لإجراءاته، على قرار بإعادة فرض العقوبات المعمول بها قبل خطة العمل الشاملة المشتركة”. وبذلك، وطِبْقَ المعتاد، تكون صيغة السؤال إيجابية ليأتي التصويت عليها بنعم أو كلَّا.

لا توجد وثائق منشورة توضح ما جرى خلال جلسات المفاوضات بين أطراف (5+1) وإيران، لمعرفة أصل هذا البند وكيف تم التوافق عليه. وفي غياب محاضر الجلسات التحضيرية ينحصر تمرير هذا النص بين تفسيرين: الأول: هو الإهمال من جانب الطرف الإيراني وعدم الدقة بقراءة التفاصيل القانونية الواردة في البند 37؛ وهذا الأمر غير وارد لأن هناك مجموعة مخضرمة من الحقوقيين الإيرانيين رافقوا السيد ظريف في هذه المفاوضات. الثاني: يعتبر نص البند 37 تنازلًا مسبقًا من إيران للأطراف المتعاقدة الأخرى، وهذا التفسير أقرب إلى الواقع؛ لأن طرح أي شكوى من قبل طرف في هذا الاتفاق (عدا ألمانيا) سينتج عنه طرح الموضوع أمام مجلس الأمن (إذا أراد العضو دائم العضوية ذلك). وبالتالي، يأتي موضوع التصويت كالتالي: هل توافق على مواصلة رفع العقوبات؟ ليتمكن أي عضو من الأعضاء الخمس دائمي العضوية في مجلس الأمن ويقوم بالتصويت بالرفض (أي استخدام حق الفيتو)، وبالتالي تعود جميع العقوبات الأممية بشكل تلقائي.

ونتيجة لذلك، لو فرضنا جدلًا أن الولايات المتحدة استخدمت هذه الأداة (آلية الزناد) فعند عرض موضوع الشكوى على مجلس الأمن ستستخدم الولايات المتحدة حق النقض (الفيتو)، وبالتالي سيعاد فرض جميع العقوبات الأممية ضد إيران، بينما لو كان موضوع التصويت هو: هل توافق على إعادة فرض العقوبات على إيران؟ سيأتي الفيتو الصيني-الروسي، وبالتالي يتم رفض فرض العقوبات ضد طهران.

ويبقى السؤال الرئيسي هنا معلقًا: هل تستطيع الولايات المتحدة تفعيل هذه الآلية؟

الجواب، من الناحية القانونية: لا يستطيع من انسحب من الاتفاق النووي بشكل صريح لا لبس فيه الاستفادة مما يقرِّره هذا الاتفاق من آليات لفضِّ النزاعات أو الشكاوى. وقَّع الرئيس، ترامب، على أمر تنفيذي بالانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني يُحِل الولايات المتحدة من أي تعهدات تفرضها عليها خطة العمل الشاملة، كما أعاد فرض عقوبات قاسية شاملة ضد طهران وضد من يتعامل معها حتى من أطراف الاتفاق نفسه. وبالنص الصريح يؤكد البندان 36 و37 على أن من يحق له طرح شكوى أمام المراجع المختصة هم أعضاء هذا الاتفاق أو ما جرت تسميته اصطلاحًا بـ”المشارك المشتكي”(5)، وهذا الوصف بالطبع لا ينطبق على الولايات المتحدة.

1.2. الاستناد إلى قرار مجلس الأمن 2231 لعام 2015

أغلب وسائل الإعلام تنقل في أخبارها (بشكل خاطئ) أن الرئيس، دونالد ترامب، قام بتفعيل آلية الزناد بحسب بنود الاتفاق النووي الإيراني، والبعض الآخر من المحلِّلين(6) يجادلون بأن الرئيس ترامب وإدارته اتبعا الطريق الخطأ بالتوجه مباشرة نحو مجلس الأمن دون العبور بآلية فض النزاع بين الأطراف، التي جرى إقرارها في خطة العمل الشاملة المشتركة.

يبدو أن هذه التحليلات لم تراجع الموقف الأميركي بشكل دقيق؛ فالإدارة الأميركية (بالطبع بالتشاور مع متخصصين قانونيين) تدرك تمامًا أنها لم تعد عضوًا في خطة العمل المشتركة وبالتالي لا تستطيع تفعيل “آلية الزناد”، ولكنها بَنَتْ أسسًا قانونية أخرى، تحاول الآن الاستناد عليها في طرح قضيتها أمام مجلس الأمن، يقوم أساسها القانوني على فكرة أن الإخطار الذي قدَّمته الولايات المتحدة إلى رئاسة مجلس الأمن يستند على القرار 2231 لعام 2015، وأن الولايات المتحدة بوصفها عضوًا دائمًا في مجلس الأمن ومشاركًا بإقرار القرار 2231، يحق لها الاستفادة من البند رقم 11 لتفعيل آلية “فض النزاع”؛ حيث يعطي هذا البند الحق لأي عضو “مشارك” في خطة العمل الشاملة المشتركة الحق باللجوء إلى مجلس الأمن والادعاء بأن أحد الأعضاء في خطة العمل الشاملة المشتركة لم يقم بتنفيذ جزء مهم من التزاماته. وعليه، يتم منح المجلس 30 يومًا للتصويت على تداوم رفع العقوبات المقررة في الفقرة 7 (ألف). وتستند الولايات المتحدة على قدرتها على استخدام حق النقض “الفيتو” ضد هذا القرار وبالتالي يتم إعادة فرض جميع العقوبات الأممية المقررة في الفقرة 7 (ألف) ضد إيران والتي تشمل قرارات مجلس الأمن: 1696 (2006)، و1737 (2006)، و1747 (2007)، و1803 (2008)، و1835 (2008)، و1929 (2010)، و2224 (2015).

يصطدم تفسير إدارة الرئيس ترامب في استنادهم إلى القرار 2231 بمسألتين مهمتين، هما تكرار البند 11 من القرار 2231 لنفس شرط البند 36 و37 الوارد في خطة العمل الشاملة المشتركة، وهي أن يكون العضو المُشتكي عضوًا مشاركًا في الخطة الشاملة (participant State). وهذا ما لا ينطبق على الولايات المتحدة التي انسحبت من هذا الاتفاق. ثانيًا: يُعتبر كلٌّ من الخطة الشاملة والقرار 2231 مكمِّلَيْن لبعضهما البعض وهما لا ينفكان عن بعضهما البعض من حيث إن الأخير جاء إقرارًا للأولى وتطبيقًا لما ورد فيها، ولذلك؛ فللاستناد إلى آلية فضِّ النزاعات يجب أن يُطبِّق الأعضاء المشاركون كامل بنود الاتفاق ليستطيعوا الادعاء بأن أحد الأطراف قد نقض خطة العمل الشاملة أو نقض القرار 2231 الصادر عن مجلس الأمن.

2. الجانب السياسي
لا يمكن إخراج الاتفاق النووي خارج الأطر والسياقات السياسية، واعتباره سندًا أو وثيقة قانونية محضة؛ وذلك لأن الاتفاق النووي جاء نتيجة تفاهمات سياسية بعد عقوبات “كسر ظهر” واسعة وشاملة، فرضتها الإدارات الأميركية المتعاقبة ضد إيران. ولو نظرنا إليه من الناحية القانونية فحسب، لكان من غير المنطقي من قِبل إيران، القبول بآلية حل النزاع بالطريقة المعكوسة، والتي تعتبر حربة سياسية كان يمكن للولايات المتحدة أن تُشهرها في أي وقت أرادت.

في استعراض بسيط لنقاط الخلاف الإيراني-الأميركي، تتلخص ملفات الخلاف بثلاثة ملفات محورية، إذا ما تم استثناء ملف حقوق الإنسان الذي يُطرح كورقة ضغط سياسي وليس كنقطة خلاف:

منع إيران من امتلاك سلاح نووي.
برنامج الصواريخ الباليستية الإيراني.
تدخلات إيران في منطقة الشرق الأوسط بصورة مباشرة أو عن طريق أذرعها.
البرنامج الصاروخي الإيراني نقطة خلاف أساسية بين واشنطن وطهران(الأناضول)البرنامج الصاروخي الإيراني نقطة خلاف أساسية بين واشنطن وطهران(الأناضول)
من جانبه، فقد نظر الرئيس السابق، باراك أوباما، إلى هذه الخلافات بطريقة تسلسلية، وكانت استراتيجيته تتمحور حول أن الخلاف الرئيس والخطير هو قدرة إيران على امتلاك قنبلة نووية أو سلاح نووي تهدد به المصالح الأميركية بشكل مباشر أو حلفاءها. وانطلاقًا من هذا المبدأ، دخل الأطراف في مرحلة التفاوض للوصول إلى خطة العمل الشاملة المشتركة والتي كان الهدف الأصلي والوحيد منها، هو منع إيران من امتلاك سلاح نووي. متجاهلًا تدخلات إيران في سوريا والعراق ولبنان واليمن، ومتجاهلًا برنامج الصواريخ الباليستية الإيراني كذلك. في الوقت نفسه، كان الرئيس يتطلع إلى عقد اتفاقات ثانوية تشمل باقي نقاط الخلاف، انطلاقًا من مبدأ انخراط إيران في السوق الدولية واندماجها في النظام المصرفي العالمي، مما يجعلها أكثر مرونة في قبول تنازلات على مستويات أخرى. ولكن لم يسعفه الوقت من جهة والرفض الإيراني من جهة أخرى لإكمال هذا المشروع. لذلك، اتجه نحو فرض عقوبات أحادية الجانب-ثانوية ضد إيران، خارج إطار خطة العمل المشتركة وقرار مجلس الأمن 2231. فغداة رفع العقوبات المتعلقة بالبرنامج النووي عن طهران وبدء تطبيق خطة العمل المشتركة، أعلنت واشنطن، في ديسمبر/كانون الأول 2016، فرض عقوبات جديدة على إيران تتعلق ببرنامجها للصواريخ الباليستية، وقالت وزارة الخزانة الأميركية في بيان إنها أدرجت خمسة مواطنين إيرانيين وشبكة من الشركات العاملة في الإمارات والصين على القائمة المالية الأميركية السوداء(7).

من جانبها، فإن إدارة الرئيس ترامب، وفي سياق افتقارها لاستراتيجيات ثابتة ومستدامة ضد إيران، تعاملت مع الملف الإيراني من خلال أهداف قصيرة المدى سعى الرئيس ترامب لتحقيقها. وقد مرَّت هذه الاستراتيجيات بمراحل عدة، أولها: الوعد الانتخابي. وتأتي هذه الاستراتيجية من إيمان الرئيس ترامب بأن تركة أوباما سيئة للغاية ويجب التخلص منها، وعليه، كان يجب ضرب أهم انجاز للرئيس أوباما، وهو الاتفاق النووي. فبعد مرور حوالي السنة على انتخابه، مهَّد الرئيس لهذا الانسحاب بإقالة وزير خارجيته آنذاك “ريكس تيلرسون” والذي كان ميالًا إلى الإبقاء على الاتفاق، ثم انسحب الرئيس ترامب من الاتفاق النووي الإيراني انسحابًا فرديًّا، دون تقديم بدائل لهذا الاتفاق ودون التشاور بالنتائج السلبية التي ستترتب على مثل هذا الانسحاب مع الأطراف الموقعة. المرحلة الثانية امتدت على مدى العامين الماضيين؛ حيث تمحورت استراتيجية الرئيس حول ممارسة “الضغط بالحد الأقصى”، لجلب طهران إلى طاولة المفاوضات. لقد كانت العقوبات التي فرضها الرئيس ترامب ضد إيران خلال العامين الماضيين، شاملة وقاسية، شملت شريان الحياة الاقتصادية لطهران وهو قطاع النفط؛ حيث تطول العقوبات الأميركية أية شركة خارجية تدخل في سوق تطوير حقول النفط أو تشتري النفط الإيراني، ثم فرض عقوبات على قطاع الألومنيوم والصناعات البتروكيماوية ومنع سفر الإيرانيين إلى الولايات المتحدة وفرض عقوبات تطول رؤوس النظام في إيران.

اتبعت إيران بالمقابل، سياسة “الصبر الاستراتيجي” في مواجهة هذه العقوبات. وتقوم هذه السياسة على تحمل الصعوبات الاقتصادية التي تُثقل كاهل الإيرانيين لحين الانتخابات الأميركية، ومن ثم إذا ما انتصر الديمقراطيون، فسيعودون بشكل تلقائي إلى الاتفاق، وإذا ما انتصر ترامب مرة أخرى، فالقرار مؤجل لذلك الوقت.

المرحلة الثالثة والأخيرة من استراتيجية الرئيس ترامب في تعامله مع طهران، كانت مواجهة حادة مع الحلفاء التقليديين في مجلس الأمن؛ حيث سعت الإدارة الأميركية لطرح مشروع قرار يطالب مجلس الأمن بتمديد حظر الأسلحة ضد إيران، والذي من المقرر انتهاؤه في أكتوبر/تشرين الأول المقبل (2020)، ولكن هذه المساعي نتج عنها رفض روسي-صيني مزدوج، وامتناع 11 دولة حاضرة في جلسة مجلس الأمن عن التصويت، بينها الدول الأوروبية الثلاثة (فرنسا، وألمانيا، وبريطانيا). هذه الهزيمة الدبلوماسية أسهمت بأن تطفو عزلة الولايات المتحدة على السطح؛ لذلك اتجه الرئيس ترامب لآخر رصاصة يمكن توجيهها إلى هذا الاتفاق، وهي اللجوء إلى القرار 2231 الصادر عن مجلس الأمن، مستهدفًا من خلال ذلك منع دخول إيران إلى سوق بيع السلاح أو استيراده من روسيا والصين، ومطلقًا رصاصة الرحمة على الاتفاق النووي الذي سعت الأطراف المتبقية فيه إلى الحفاظ عليه مذ انسحبت الولايات المتحدة منه عام 2018، على أمل وصول قيادة ديمقراطية جديدة تعود إلى الاتفاق ليجري تفعيله من جديد.

على الرغم من أن انتقاداته في الفترة الأخيرة تنطلق من عداء شخصي ضد الرئيس ترامب، إلا أن نصيحة “جون بولتون”، مستشار الأمن القومي السابق للرئيس ترامب، الأخيرة، بالحفاظ على اعتبار وشأن الفيتو الأميركي، تعتبر قيمة للغاية(8). فعلى مدى أكثر من 75 عامًا، أي منذ نشأة الأمم المتحدة، لم يحدث استغلال حق الفيتو بطريقة إيجابية لفرض مشروع قرار ترغب إحدى الدول الخمسة دائمة العضوية بتمريره. فالفيتو كان وسيلة سلبية لمنع تمرير قرارات تضر بمصالح الدول دائمة العضوية. هذه هي المرة الوحيدة التي تلجأ إليها الولايات المتحدة الأميركية (التي انسحبت من الاتفاق النووي بشكل فردي) إلى حق النقض (الفيتو) لتمرير قرار في مجلس الأمن بالطريقة الإيجابية التي أشرنا إليها أعلاه، وهو ما يشكِّل تهديدًا حقيقيًّا لحق النقض الأميركي كما يشكِّل تهديدًا خطيرًا يمس تكوينات وآليات مجلس الأمن الدولي.

3. ردود الفعل بشأن إعادة فرض العقوبات على إيران
1.3. ردود الفعل الدولية

عارض 13 من بين 15 بلدًا عضوًا بمجلس الأمن الدولي المسعى الأميركي لإعادة فرض عقوبات دولية على إيران، بدعوى بطلانه نظرًا لاستعانة واشنطن بعملية متفق عليها بموجب الاتفاق النووي الذي انسحبت منه قبل عامين. وكتب الحلفاء القدامى، بريطانيا وفرنسا وألمانيا وبلجيكا، وكذلك الصين وروسيا وفيتنام والنيجر وسانت فنسنت وجزر جرينادين وجنوب إفريقيا وإندونيسيا وإستونيا وتونس، رسائل اعتراض اطلعت عليها رويترز، مباشرة بعد إعلان وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، إطلاقه العد التنازلي ومدته 30 يومًا لعودة عقوبات الأمم المتحدة على إيران، بما في ذلك حظر الأسلحة(9).

خارجةً من تحت جلباب الولايات المتحدة، رفضت كل من فرنسا وألمانيا وبريطانيا المزاعم الأميركية بحقها باللجوء إلى قرار مجلس الأمن 2231؛ حيث أصدرت الدول الثلاثة بيانًا واضحًا برفض لجوء الولايات المتحدة إلى مجلس الأمن بوصفها قد انسحبت من خطة العمل المشتركة؛ حيث جاء في الخطاب: “لاحظت فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة (The E3 (10) أن الولايات المتحدة توقفت عن المشاركة في خطة العمل الشاملة المشتركة بعد انسحابها من الصفقة في 8 مايو/أيار 2018. موقفنا واضح فيما يتعلق بفعالية الإخطار الأميركي وفقًا للقرار 2231، وتم التعبير عنه بوضوح شديد لرئاسة وجميع أعضاء مجلس الأمن الدولي. لذلك، لا يمكننا دعم هذا الإجراء الذي يتعارض مع جهودنا الحالية لدعم خطة العمل الشاملة المشتركة. تلتزم مجموعة (The E3) بالحفاظ على العمليات والمؤسسات التي تشكِّل أساس التعددية، وما زلنا نسترشد بهدف الحفاظ على سلطة ونزاهة مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. ندعو جميع أعضاء مجلس الأمن إلى الامتناع عن أي عمل من شأنه أن يعمِّق الانقسامات في مجلس الأمن أو يكون له عواقب وخيمة على عمله. نظل ملتزمين بخطة العمل الشاملة المشتركة على الرغم من التحديات الكبيرة التي تسبَّب بها الانسحاب الأميركي. كما نعتقد أنه يجب علينا معالجة القضية الحالية المتمثلة في عدم الامتثال الإيراني المنهجي لالتزامات خطة العمل الشاملة المشتركة من خلال الحوار بين المشاركين في خطة العمل الشاملة المشتركة، بما في ذلك من خلال اللجنة المشتركة واستخدام آلية تسوية المنازعات. من أجل الحفاظ على الاتفاق، نحثُّ إيران على التراجع عن جميع الإجراءات التي تتعارض مع التزاماتها النووية والعودة إلى الامتثال الكامل دون تأخير”(11). ولكن ردَّة الفعل الأميركية تجاه هذا التحرك جاءت مفاجئة وفظَّة؛ حيث علق وزير الخارجية الأميركي “مايك بومبيو” على هذا التحرك قائلًا: “لا توجد دولة سوى الولايات المتحدة امتلكت الشجاعة والقناعة لتقديم مشروع قرار، لكنهم بدلًا من ذلك اختاروا الانحياز إلى آيات الله “الإيرانيين”(12).

3.2. ردَّة الفعل الإيرانية

المعركة الدبلوماسية التي تشنُّها الولايات المتحدة اليوم من خلال سعيها لإعادة تفعيل آلية الزناد، لا يمكن فصلها عن مشروع القرار الأميركي المتعلق بتمديد حظر شراء وبيع الأسلحة على إيران، لوحدة السياق والهدف. فمن جهتهم، عبَّر المسؤولون الإيرانيون، ومن بينهم الرئيس حسن روحاني، عن رضاهم عن المعركة الدبلوماسية في أروقة مجلس الأمن والتي أفضت إلى رفض تمرير مشروع القانون الأميركي بتمديد حظر الأسلحة الأممي ضد طهران؛ حيث اعتبر الرئيس روحاني (الذي تُختصر تركته السياسية بالاتفاق النووي مع القوى الغربية) أن الاتفاق اليوم عاد إلى الواجهة وأسهم بإظهار عزلة الولايات المتحدة(13). وفي هذه الرؤية نوع من التفاؤل والبساطة؛ فالمشهد معقد أكثر من ذلك، ويجب النظر بهذه القضية إلى أبعد من انتصار إيران وظهور عزلة الولايات المتحدة. يجب النظر بصورة أوسع إلى الانشقاق عن بيت الطاعة الأميركي والموقف الموحد والمنسق الذي تتبعه كل من ألمانيا وفرنسا وبريطانيا.

وعلى الطرف الآخر، أقصى اليمين المتشدد، عبَّرت صحيفة كيهان عن رضاها عن الموقف الصيني-الروسي ولكنها انتقدت الموقف الغربي الذي امتنع عن التصويت؛ حيث اعتبرت الصحيفة أن هزيمة القرار الأخير المناهض لإيران كان لها خاسرون آخرون بالإضافة إلى الولايات المتحدة. البلدان الأوروبية (بريطانيا وفرنسا وألمانيا) لعبت في الواقع ضمن لعبة الولايات المتحدة بامتناعها عن التصويت وعملت ضد إيران، لكن الدول الثلاثة فشلت في تنفيذ هذه الخطة المعادية لإيران(14).

وعلى نفس الخطى، اعتبر روحاني أن تفعيل “آلية الزناد” هو تهديد، ولكنه أشار في الوقت نفسه إلى عدم قدرة الولايات المتحدة على تفعيلها بسبب انسحابها المُسبق(15).

أما صحيفة كيهان، فقد اعتبرت معارضة (ألمانيا وفرنسا وبريطانيا)، لتفعيل “آلية الزناد” من قبل الولايات المتحدة، معارضة صورية؛ وذلك لأن هذه الدول لم تقم بتنفيذ تعهداتها المُدرجة في الاتفاق. وهي أسهمت بذلك في تعطيل الاتفاق النووي(16). وفي تعليقها حول إزاحة إيران الستار عن صاروخ باليستي جديد يحمل اسم “قاسم سليماني” يصل مداه إلى 1400 كيلومتر، وصاروخ كروز باسم “أبو مهدي المهندس” يصل مداه إلى أكثر من ألف كيلومتر، تضيف الصحيفة أن الولايات المتحدة وأوروبا اعتقدتا أن الاتفاق النووي سيسهم بتضعيف ونزع سلاح إيران، ومع دنو موعد انتهاء حظر الأسلحة ستلفظ إيران أنفاسها الأخيرة، لكن إيران ومن خلال إزاحة الستار عن صواريخ جديدة، حوَّلت الحلم الوهمي للغرب إلى كابوس(17).

وبعيدًا عن الخطوات النظرية، اتجه أعضاء مجلس الشورى الإسلامي (49 عضوًا في مجلس الشورى الإسلامي) إلى طرح مشروع قانون أمام المجلس، يتضمن المطالبة بالانسحاب المباشر من الاتفاق النووي إذا ما تم تفعيل “آلية الزناد”(18).

أخيرًا، فقد اعتبر سكرتير مجمع تشخيص مصلحة النظام، محسن رضائي، الاتفاق النووي، جثةً ملقاة على الأرض، وألقى باللوم على الدبلوماسيين الإيرانيين حيث خاطبهم بالقول: لو تم العمل بالشروط التسع التي حددها المرشد الأعلى لما ظهر موضوع “آلية الزناد”(19).

مجلس الشورى الإسلامي في إيران يسعى لطرح مشروع للانسحاب من الاتفاق النوويمجلس الشورى الإسلامي في إيران يسعى لطرح مشروع للانسحاب من الاتفاق النووي
خلاصات ونتائج
ضاربًا الناطور، ومُطالبًا بالعنب، أو كما يقول المثل الشعبي الإيراني، هكذا يسعى ترامب إلى تفعيل “آلية الزناد” بعد انسحابه أحادي الجانب والرسمي من الاتفاق النووي الإيراني.
هناك آراء حقوقية متعددة حول أحقية الولايات المتحدة بتفعيل “آلية الزناد”. ويأتي تضارب الآراء هذا من عدم وجود سوابق قانونية يمكن القياس عليها. على أية حال، ما نحن مطمئنون إليه هو أن إدارة الرئيس ترامب، وعلى عكس ما يتم الحديث عنه في الأوساط الإعلامية، تستند قانونيًّا إلى القرار 2231 الصادر عن مجلس الأمن، وتدَّعي بأنها من الأعضاء المشاركين بصياغة وإقرار هذا القرار، ولذلك يحق لها تفعيل آلية “فض أو تسوية النزاعات” المذكور في القرار 2231 وهي آلية تتيح لأي عضو مشارك الادعاء بأن إيران لم تُنفذ التزاماتها بشكل أساس ومن ثم يُمنح مجلس الأمن مدة 30 يومًا للتصويت على تداوم رفع العقوبات، وهو ما يخوِّل الولايات المتحدة الاستفادة من حق النقض “الفيتو”، وبالتالي إعادة تفعيل جميع العقوبات الأممية التي كانت مفروضة على إيران قبل 2015. هذا التفسير الحقوقي الأميركي يصطدم بمسألتين مهمتين، هما: أولًا: قرار مجلس الأمن 2231 يكرر ما جاء في خطة العمل الشاملة المشتركة وهو أن الطرف المُشتكي يجب أن يكون طرفا مشاركًا في الاتفاق النووي وليس طرفًا منسحبًا منه؛ ثانيًا: يعتبر قرار مجلس الأمن 2231 نتيجة لخطة العمل الشاملة المشتركة، وهما وإن اختلفا من حيث الماهية والجهة المُصدِرة إلا أنهما يتمتعان بوحدة قانونية من حيث الماهية والموضوع، وعليه فالرأي الراجح بأن الولايات المتحدة لا يحق لها التمسك بقرار مجلس الأمن 2231 نتيجة انسحابها المُسبق من الاتفاق النووي.
تغيرت استراتيجيات الولايات المتحدة بحسب تغير الأهداف، ولكن ما يبدو واضحًا هو أن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، يسعى في هذه المرحلة لمنع إيران من العودة لسوق السلاح أولًا ومن ثم إطلاق رصاصة الرحمة على الاتفاق النووي الإيراني.
عبَّرت الدول المشاركة في الاتفاق النووي والدول الأعضاء في مجلس الأمن عن عدم أحقية الولايات المتحدة بتفعيل آلية الزناد وذلك لأن الولايات المتحدة ليست عضوًا في هذا الاتفاق وانسحبت منه منذ عامين. أما ما هو الدور الذي يمكن أن تلعبه هذه الدول لعرقلة مساعي الإدارة الأميركية؟ فينبغي القول بأن كلًّا من (الصين، وروسيا، وبريطانيا، وفرنسا، وألمانيا) تستطيع أن تعمل على عرقلة طرح القضية أمام مجلس الأمن، بالادعاء –أولًا- بأن القضية غير مسبوقة ويجب البحث فيها من الناحية القانونية ولذلك يجب الرجوع في ذلك إلى المراجع القضائية الدولية (كمحكمة العدل الدولية) وطلب تفسير قانوني منها. أو الادعاء بأن تفعيل آلية الزناد الواردة في القرار 2231 هي قضية إجرائية، وبالتالي فإن استخدام حق النقض في المسائل الإجرائية لا يؤثر كما في المسائل الموضوعية؛ فالفيتو في المسائل الإجرائية يُحسب كصوت عادي. وعليه، فإن دول مجلس الأمن ستكسب التصويت وذلك لأن هناك 13 عضوًا مخالفًا لما تدَّعيه الولايات المتحدة، وبالتالي، سيصوِّت 13 عضوًا باستمرار رفع العقوبات لصالح إيران. من جهة أخرى، فمن المقرر أن تستلم روسيا رئاسة مجلس الأمن في الأول من شهر تشرين أول/ اكتوبر المقبل (2020)، وعليه فيمكنها أيضًا الإطالة في إجراءات طرح الموضوع على التصويت (متفاديًا مهلة 30 يومًا بسبب إجراءات المشاورات القانونية) إلى أن تُسفر الانتخابات الرئاسية المقبلة عن الرئيس المقبل للولايات المتحدة؛ ثالثًا: وبفرض استطاعت الولايات المتحدة تفعيل آلية الزناد وجرت إعادة فرض العقوبات الأممية على إيران، عندها تستطيع الدول الأعضاء الامتناع عن الامتثال لهذه العقوبات وهو ما سيقوِّض دور المنظمات الدولية وعلى رأسها مجلس الأمن الدولي ودوره المحوري في السلام والأمن الدوليين.
مارست إيران منذ انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق سياسة الصبر الاستراتيجي، وهي تقوم على تحمل العقوبات الأميركية إلى حين الانتخابات الرئاسية المقبلة. ولكن جاء الموقف الإيراني الجديد بإعداد أعضاء مجلس الشورى الإسلامي مشروع قانون للخروج التلقائي من الاتفاق النووي بمجرد تفعيل آلية الزناد، جاء كردَّة فعل على ما تقوم به الولايات المتحدة من تقويض للاتفاق النووي الإيراني.
هناك سيناريوهات متعددة للمواجهة الإيرانية-الأميركية ذكرتها الدكتورة فاطمة الصمادي تفصيليًّا في إحدى مقالاتها المعنونة “في التصعيد الأميركي ضد إيران: أمن هش وسيناريوهات مكلِّفة”(20). نحن نرى بأن النزاع بين الولايات المتحدة وإيران خلال الشهرين القادمين لن يخرج عن السيطرة، فحتى لو جرى فرض العقوبات، فإيران اليوم غير قادرة على الدخول في مشاريع اقتصادية حتى مع الحلفاء (الصين وروسيا) بسبب تخوف الشركات من العقوبات الأميركية. ولكن ومع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية المزمع عقدها في الثالث من نوفمبر/تشرين الثاني 2020، تختلف هذه السيناريوهات المتوقعة باختلاف الإدارة الأميركية القادمة؛ فإن جرت إعادة انتخاب الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، لولاية ثانية، سوف يُبقي الرئيس ترامب على سياسة “الضغط بالحد الأقصى” ضد إيران لجلبها إلى طاولة المفاوضات، وهذه المرة قد تتفاعل إيران لأن الأوضاع الاقتصادية تتدهور بسرعة في البلاد، وقد يتوصل الأطراف إلى اتفاق شامل يتضمن جميع النقاط الخلافية. ومن المرجح أن النقاط الخلافية تختلف بالنسبة للرئيس ترامب عمَّا كانت عليه بالنسبة للرئيس السابق، باراك أوباما. فبالنسبة لمنع إيران من الحصول على سلاح نووي، فالطرفان متوافقان على هذه الخطوة ولكن ما يسعى إليه ترامب هو أن تكون مدة الاتفاق أطول من 15 عامًا التي جرى التوقيع عليها في الاتفاق النووي الإيراني. أما فيما يخص الدور الإقليمي الإيراني في المنطقة، فالسنوات الأربعة للرئيس ترامب أوضحت أن المقصود “بالدور الإيراني المخرِّب” في المنطقة يشمل فقط المصالح الأميركية المباشرة ومصالح إسرائيل كدولة حليفة للولايات المتحدة، وبالتالي لا يسري هذا المفهوم على دول الخليج على سبيل المثال بسبب صمت الولايات المتحدة أمام تعديات إيرانية سواء في حادثة أرامكو أو حادثة السفن الأربعة بالقرب من الإمارات. وأما النقطة الخلافية الثالثة، وهي البرنامج الصاروخي الإيراني، فلا نعتقد أن الإيرانيين سيتخلون عن هذا البرنامج في أية مفاوضات قادمة، ولكن يمكن التوافق بين الطرفين على أن تكون هناك رقابة محدودة على هذا البرنامج تقتصر على منع إيران من تصنيع صواريخ قادرة على حمل رؤوس نووية.
كل ما جرى ذكره لا ينفي اختيار إيران لخيار الرضوخ لوطأة العقوبات مرة أخرى حتى في حال فرضت الإدارة الأميركية أقسى العقوبات، وستكون نتيجة هذا القرار هي الانسحاب الكامل من الاتفاق النووي ومن اتفاقية الحد من انتشار الأسلحة النووية. والعودة إلى تخصيب اليورانيوم إلى ما قبل عام 2015 وأكثر. وبالتالي، عندها تعود احتمالات المواجهة العسكرية الشاملة أو المواجهة العسكرية المحدودة باستهداف مواقع محددة في إيران عن طريق الطائرات الأميركية أو عن طريق إعطاء الضوء الأخضر لإسرائيل لشنِّ هذه الهجمات خصوصًا أنها أصبحت على مقربة من إيران، هناك على الضفة المقابلة في الخليج (الإمارات). هذا السيناريو خطير للغاية ويدفع المنطقة نحو الهاوية.

السيناريو الثاني، وهو انتخاب “جو بايدن” كرئيس جديد للبيت الأبيض، عندها قد يتم نزع فتيل الأزمة وخصوصًا بعزم بايدن العودة إلى الاتفاق النووي ورفع العقوبات الأميركية المفروضة على إيران. هذا السيناريو لا يعني أبدًا حل الخلافات الأميركية-الإيرانية وإنما يعتبر مقدمة للجلوس إلى طاولة المفاوضات مرة أخرى، خصوصًا أن الإيرانيين -وعلى لسان الرئيس روحاني- يقولون بأنهم على استعداد للتفاوض إذا ما عادت الولايات المتحدة إلى الاتفاق النووي.

محمود البازي

الجزيرة للدراسات