واشنطن، منتصف ليل السابع عشر من يونيو (حزيران) 1972، فرانك ويلز حارس أمن مجمع ووترغيت لاحظ وجود شريط لاصق على مزلاج (قفل) الباب الخلفي يمنع إحكام غلقه، أزال ويلز الشريط ومضى، لكن مع عودته ضمن جولاته التأمينية المتعددة، رأى الشريط اللاصق وقد عاد على الباب نفسه بإحكام أكبر، لم يتردد الرجل في الاتصال بالشرطة.
فتحت هذه المكالمة الباب أمام اكتشاف أكبر جريمة سياسية في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية، فضيحة ووترغيت، التي أربكت المشهد العام حينذاك، ولم تزل تتدحرج ككرة ثلج صغيرة حتى أضحت عملاقة سحقت معها بسهولة شعبية ريتشارد نيكسون وجرفتها وأجبرته عنوة على الاستقالة من منصبه، ليكون بذلك الرئيس الأميركي الوحيد الذي قدم استقالته!
في تلك الأثناء التي اتصل بها ويلز بالشرطة، كان نيكسون منهمكاً في حملاته الانتخابية، حيث تبقى فقط أقل من خمسة أشهر على انتخابات 1972 التي يحاول فيها أن يحظى بثقة شعبه لفترة رئاسية جديدة، كل هذا وسط أجواء انتخابية حامية الوطيس لا تهدأ حتى تشتعل.
الصحافة وضعت نيكسون في مأزق
لقد جاء نيكسون من بعيد، فطريقه إلى سدة الحكم لم يكن أبداً مفروشاً بالورد، بل جاء بعد أعطاب كثيرة وخيبات أمل متكررة، فبينما تم اختياره من قبل الجنرال آيزنهاور كنائب له ضمن حملته لانتخابات الرئاسة عام 1953، فاجأته صحيفة “نيويورك بوست” بادعاءات حول ذمته المالية وكونه تلقى أموالاً من مؤيديه واحتفظ بها لنفسه.
وضعت الصحافة نيكسون آنذاك في مأزق، إذ لم يكن بد من خروجه على الناس عبر التلفاز وإعلانه الانسحاب من هذا الترشح، لكنه فاجأ الجميع حينها بخطبة عصماء برأ فيها ذاته تماماً من تلك الادعاءات، وقلب الطاولة على خصومه وانهالت برقيات التأييد على مقر حزبه مؤيدة له وداعمة.
اقرأ المزيد
دروس ووترغيت… كيف سيحبط الجمهوريون عزل ترمب؟
مدعي عام قضية ووترغيت يرى أن وزير العدل الأميركي “حرّف” خلاصات تقرير مولر
خسارة منصبي الرئيس والحاكم
ساهمت تلك الأحداث في الدفع بمسيرة حملة الجمهوريين بقيادة آيزنهاور، وبالفعل نجح الجنرال كرئيس، ومعه نيكسون كنائب له، ليس لفترة واحدة، وإنما استمر تفوقهم لفترتين متتاليتين، أثبت خلالها نيكسون قدرة تامة على إدارة الدبلوماسية الأميركية وأحرز معها مزيداً من الشعبية، وأصبح أكثر من ذي قبل تواقاً لمقعد الرئيس.
بأغلبية مطلقة حظي نيكسون بترشيح حزبه الجمهوري لخوض انتخابات الرئاسة عام 1960، لقد اقترب حلم وصوله إلى السلطة من التحقق، لكنه اصطدم بمرشح قوي ذكي هو جون كينيدي، مرشح استطاع أن يتجاوز ثقل نيكسون وخبرته ويفوز عليه في الانتخابات بفارق لا يذكر هو 0.2 في المئة.
معانقاً السحاب وعلى بعد خطوة واحدة من حكم أميركا سقط الرجل، لذلك لم يكن مستغرباً قراره حزم أمتعته وعودته إلى مسقط رأسه في كاليفورنيا بعد نحو 13 عاماً من العمل بالسياسة، عاد الرجل لتحتضنه نجاحاته مجدداً، لكن في عالم المحاماة، لكن تلك النجاحات لم تنسه أبداً توقاً أصيلاً في ذاته تجاه السلطة.
في عام 1962 سطر هذا التوق ذاته في صورة واضحة حين أقدم الرجل لا على قبول الترشح لانتخابات الرئاسة، وإنما على قبول الترشح في انتخابات حاكم كاليفورنيا عن الحزب الجمهوري، نيكسون الذي هزم في انتخابات الرئاسة قبل عامين بفارق ضئيل جداً كان من السهولة عليه الفوز، لكن المفاجأة كانت هزيمة ساحقة!
جاءت هذه الهزيمة الساحقة لتؤكد صواب اختياره المنقوض للعزلة له محلاً وسكناً، لقد تأكد لدى الرجل – على الأقل – ألا أحد يريده، لذلك جاءت كلماته حينها دراماتيكية معبرة، حيث قال “بما أنني أغادركم أريد منكم أن تعرفوا كم سيفوتكم. لن يكون هناك نيكسون تتنقدونه بعد الآن”.
العبور إلى البيت الأبيض
أغلق نيكسون صفحات كتابه السياسي مؤقتاً، ومرت سنوات تلو أخرى وتعاظمت الأحداث، وأيقن الأميركيون في حرب فيتنام أنهم ضمن مستنقع موحل، وتعالت الصيحات المعادية للشيوعية مجدداً، ورويداً رويداً أصبحت الأمور مواتية لنيكسون أن يعود مجدداً على رأس حزبه كمرشح للرئاسة عام 1968.
هذه المرة أخلصت الظروف لنيكسون، واكتست التفاصيل بكل ما يؤدي به للفوز، وبالفعل استطاع الرجل العبور أخيراً إلى البيت الأبيض عبر فوز غير مقنع على منافسه الرئيسي هوبير همفري.
خلال سنواته المعدودة في السلطة استطاع نيكسون أن يضع بصمته بقوة، حيث انسحب أخيراً من فيتنام، وانفتح على الصين عبر زيارة هي الأولى لرئيس أميركي لبكين، كما لعب دوراً فاعلاً في دعم إسرائيل خلال حرب يونيو عام 1973، واستطاع نيل أرمسترونغ في عهده أن يهبط على القمر كأول بشري يفعل ذلك.
وحدة “سباكي البيت الأبيض” السرية
بناء على تجربة نيكسون الطويلة والشاقة في الوصول إلى السلطة، تآزرت مشاهد خساراته، وكذا فوزه الصعب في انتخابات الرئاسة مع أحداث وصراعات أخرى عميقة، ليتولد عن كل هذا تدشين وحدة سرية عام 1971 عرفت باسم “سباكي البيت الأبيض”، كان الغرض الأول منها هو السيطرة على تسريب أوراق خطيرة عن قرارات الحرب في فيتنام.
بناءً على هذا الغرض المتمثل في السيطرة على التسريبات، كان مناسباً جداً لهذه الوحدة السرية أن تسمى السباكين، لم يتوقف عمل الوحدة عند ذلك الحد، بل تمت الاستعانة بهم لاحقاً من أجل تأمين انتخاب نيكسون لفترة رئاسية ثانية، حيث أوكل إليهم جون أن ميتشل مدير حملة نيكسون السابق ووزير العدل آنذاك مهمة جمع المعلومات الاستخباراتية عن الديمقراطيين من خلال زرع أجهزة التنصت ومراقبة المكالمات الهاتفية لهم.
ضمت الوحدة بين أفرادها الضابط السابق في وحدة الاستخبارات الأميركية جيمس ماكورد الذي ذهب مع أربعة آخرين بعد منتصف ليل السابع عشر من يونيو 1972 إلى مبنى ووترغيت، وذلك من أجل زرع أجهزة تنصت في مكاتب اللجنة الوطنية للحزب الديمقراطي التي كانت تتخذ من الدور السادس مقراً لها.
بعد رصد حارس أمن المبنى فرانك ويلز آثاراً مريبة وأشرطة لاصقة على قفل أحد الأبواب، اتصل بالشرطة، والتي للمصادفة البحتة حضرت في زي مدني، وهي أمور ساهمت في تضليل مُؤمّن الطريق بالنسبة لوحدة السباكين، حيث تم إلقاء القبض على ماكورد ورفاقه الأربعة داخل المبنى، وتم تصنيف الأمر على أنه سطو من الدرجة الثالثة.
فترة رئاسية ثانية
لم تأخذ تلك الحادثة في الصحافة حينذاك مساحتها المفترضة، إذ ظلت حبيسة التكهنات واستصغار المآرب، حتى إن صياغة الخبر في صحيفة “الواشنطن بوست” والبحث خلفه أسندت إلى صحافيين شابين حينذاك هما كارل بيرنشتاين وبوب وودوارد، ورغم صغر سنهما استطاعا تتبع الخيوط ونجحا في الوصول إلى مفاجآت لها ثقلها.
وجد مع بعض المتهمين ممن قبض عليهم مبالغ مالية، وبالبحث في أرقامها المتسلسلة وتتبعها توصلت الـ “أف بي آي” إلى أن مصدر الأموال هو أحد الصناديق الجمهورية المخصصة لدعم حملة نيكسون في انتخابات الرئاسة 1972، على الرغم من أن هذه المعلومات تم الكشف عنها قبل هذه الانتخابات فإنها لم تؤثر في مجراها.
في السابع من نوفمبر (تشرين الثاني) من العام نفسه تم إجراء الانتخابات وعلى الرغم مما تم نشره قبلها من تفاصيل حول الحادث وصلت إلى حد اتهام الرئيس، إلا أن الناخبين لم يعيروا الأمر اهتماماً، وتم انتخاب نيكسون لفترة رئاسية ثانية عبر نجاح ساحق حقق فيها النصر في 49 ولاية.
في 30 يناير (كانون الثاني) 1973 لم يتفاجأ أحد بقرار المحكمة الذي دان اثنين من المقبوض عليهم هما ليدي عميل الـ”أف بي آي” السابق وماكورد عميل الـ”سي آي إيه” السابق، أما الباقون فقد أقروا بالذنب، لكن لاحقاً بعث ماكورد برسالة إلى القاضي يخبره فيها بتورط جهات رفيعة في القضية.
مصدر صحافي سري
استمر العمل الصحافي في طريقه الاستقصائي، حيث حصل كل من كارل بيرنشتاين وبوب وودوارد صحافيي “الواشنطن بوست” على مصدر معلومات سري سمياه “ديب ثروت” Deep Throat ، أو الحنجرة العميقة، ذلك المصدر الذي قلب الطاولة وأرشدهم إلى معلومات أساسية حول تورط إدارة نيكسون في فضيحة ووترغيت.
أدلى عدد غير قليل من مساعدي نيكسون بشهاداتهم أمام هيئة محلفين كبرى، وأرشدوا إلى أن نيكسون سجل سراً كل المحادثات التي تمت في المكتب البيضاوي، وإذا ما تمكن المحققون من وضع أيديهم على تلك التسجيلات سيكون لديهم دليل على إدانة نيكسون من عدمه.
رفض تسليم الأشرطة
الخناق يضيق أكثر على نيكسون، وعقد التماسك الذي بدت عليه إدارته قبل انتخابه لفترة ثانية بدأ ينفرط، إذ استقال أربعة من كبار مساعديه، وهم: جون دين مستشار البيت الأبيض، وهالدمان رئيس الأركان، وجون إيرليشمان مساعد الشؤون الداخلية، والنائب العام ريتشارد كلايندينست.
وكما هو متوقع رفض نيكسون تسليم الأشرطة السرية التي بحوزته، وتشدق بحقه التنفيذي في وقف مطالبات المدعين وأعضاء لجنة التحقيق في مجلس الشيوخ، لكنه أذعن وسلم التسجيلات بعد أن قام بتنقيحها واقتطاع نحو 18 دقيقة من أحدها.
في يوليو (تموز) 1973 قضت المحكمة العليا بالإجماع بوجوب تسليم نيكسون التسجيلات الأصلية كاملة، وهو ما قد كان، حيث ثبت عبر المحادثة المجتزأة معرفة نيكسون بالتستر على القضية ومحاولة عرقلة العدالة، وهي أمور ترافقت مع توصية اللجنة القضائية في مجلس النواب بعزل نيكسون.
الاستقالة
في 8 أغسطس (آب) من عام 1974، وبعد أكثر من عام ونصف العام من محاولات التملص والمجابهة، استقال نيكسون من منصبه وأوكل تسيير شؤون البلاد لنائبه جيرالد فورد الذي أدى اليمين كرئيس بعد نحو ستة أسابيع، وكانت أبرز قراراته العفو عن نيكسون صحياً.
أما عن صاحب الحنجرة العميقة، أو “الديب ثروت”، والذي كان له الدور الأبرز في الكشف عن اضطلاع الإدارة الأميركية في تلك الفضيحة، فقد ظلت شخصيته طي الكتمان لأكثر من ثلاثين عاماً، حتى كشف عن نفسه عام 2005، وهو مارك ويليام فيلت نائب مدير الـ”أف بي آي” في ذلك الوقت.
ماجد الماجد
اندبندت عربي