عاد المناهضون للأسلحة النووية، في خضم حرب التصريحات الدبلوماسية بين القوى العظمى حول هذه القضية الأكثر إثارة للجدل داخل أروقة صناعة القرار، والتي تتزامن مع احتفال الأمم المتحدة باليوم الدولي لمناهضة التجارب النووية قبل أيام، إلى طرح سؤال جوهري ما فتئ يتكرر دوما ويتلخص في جزئية مفصلية ترتكز على ما إذا كان احترام اتفاق الوقف الحالي للتجارب النووية والحد من بناء الدول لترسانتها النووية سيستمر أم سينتهك مع الإفلات من العقاب؟
لندن – تترسخ قناعة لدى المحللين العسكريين وحتى لدى أغلب الدبلوماسيين أنه من الصعب كبح إستراتيجيات وخطط الدول التي تمتلك ترسانة نووية، دون وجود آلية تجعل الجميع يلتزم بعدم ممارسة أي تجارب قد تكون شرارة تشعل كبريت حرب محتملة، رغم أن هذا الأمر يبدو مستبعدا على الأقل على المدى القريب.
وفي حين أن الآراء العامة داخل المجتمع الدولي تتفق على أن تجارب الأسلحة النووية تشكل مخاطر مهددة للحياة، لا تزال هناك إلى حد ما شكوك تتزايد بين الدول في إمكانية إجراء تجارب سرية على الأسلحة النووية. وكذلك هناك شاغل مفاده أنه إذا تعذر اختبار الأسلحة النووية يمكن أن تكون مصداقيتها معرضة للخطر.
ومع ذلك، وعلى مر السنين، تقدم العلم والتكنولوجيا، مما أدى إلى تعزيز القدرة على رصد آليات الامتثال وكشف انتشار الأسلحة النووية والتحقق منها. وقد شرعت اللجنة التحضيرية لمنظمة معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية في إعداد وتطوير هذه الأنشطة وأدوات التتبع.
ورغم توقف دخولها إلى حيز النفاذ، فإن ممارسة الدعوة العامة المتزايدة، بما في ذلك الأنشطة والمناسبات التي تجري في اليوم الدولي لمكافحة التجارب النووية، تمارس ضغوطاً على السلطات للمضي قدماً في التصديق على المعاهدة بهدف القضاء النهائي على تجارب الأسلحة النووية.
وتواصل اللجنة التحضيرية لمنظمة معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية والدول الـ168 التي صدقتها الدفع من أجل دخول المعاهدة حيز النفاذ، حيث يوفر نظام الرصد الفريد للمنظمة، والذي يشمل بالفعل نحو 90 في المئة من الدول، الثقة في أن أي انفجار نووي لن يفلت من الكشف.
ومع ذلك لا يمكن لأي شيء أن يلعب دورا حاسما في تجنب نشوب حرب نووية أو تهديد إرهابي نووي كالإزالة الكاملة للأسلحة النووية، ولكن في المقابل من شأن التوصل إلى نهاية لا رجعة فيها للتفجيرات النووية أن يحول دون زيادة تطوير الأسلحة النووية.
في أحدث المزايدات حول هذا الملف الشائك رفضت هوا تشون ينغ، المتحدثة باسم وزارة الخارجية الصينية، مزاعم وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) التي تقول إنه من المتوقع أن تزيد بكين عدد ما لديها من الرؤوس النووية إلى مثليْه. وقالت إن “التقرير حافل بالتحامل”.
وترجيح البنتاغون إمكانية أن ترفع الحكومة الشيوعية الصينية عدد الرؤوس النووية إلى ما لا يقل عن المثلين في السنوات العشر المقبلة، يأتي في ظل تصاعد التوتر التجاري والدبلوماسي بين البلدين وسعي إدارة الرئيس دونالد ترامب لحث بكين على الانضمام إلى معاهدة كبرى بين الولايات المتحدة وروسيا بشأن الأسلحة النووية.
وفي تقريره السنوي للكونغرس عن الجيش الصيني، قال البنتاغون إن الصين لديها ما يزيد قليلا عن 200 رأس نووي، وهي أول مرة يكشف فيها الجيش الأميركي عن هذا العدد. وقدر اتحاد العلماء الأميركيين أن الصين تملك نحو 320 رأسا نوويا.
واستند البنتاغون في توقعات النمو هذه إلى عوامل، منها امتلاك بكين لما يكفي من المواد التي تسمح لها بمضاعفة مخزونها من الأسلحة النووية دون إنتاج مواد انشطارية جديدة. وما يعزز ذلك المنحى ما ذكرته صحيفة غلوبال تايمز، المدعومة من الحزب الشيوعي الصيني، في وقت سابق هذا العام من أن بكين تحتاج إلى زيادة العدد ليبلغ قرابة ألف رأس حربي نووي خلال فترة قصيرة نسبيا.
ويؤكد محللون أن هذه التقديرات تتماشي مع تحليل لوكالة استخبارات الدفاع. وقال تشاد سبراجيا نائب مساعد وزير الدفاع لشؤون الصين “بالتأكيد نشعر بالقلق بشأن تلك الأعداد، ولكن أيضا بشأن مسار التطورات النووية في الصين بشكل أشمل”.
ولفت تقرير البنتاغون إلى أن الصين يمكنها حاليا إطلاق أسلحة نووية بواسطة صواريخ باليستية من البر والبحر، وتعمل أيضا على تطوير صاروخ باليستي يطلق من الجو. وتوقع أنه من المحتمل أن تسعى بكين بحلول منتصف القرن إلى تطوير جيش يعادل أو يتفوق، في بعض الحالات، على الجيش الأميركي أو أي قوة عظمى أخرى تعتبرها الصين تهديدا.
ويرى العسكريون الذين أعدوا هذا التقرير، الذي سيحدث ضجة أكبر في الفترة المقبلة، أنه إذا “حققت الصين هذا الهدف وفشلت الولايات المتحدة في التعامل معه فستكون له تداعيات خطيرة على المصالح الأميركية وأمن النظام العالمي”.
وعلى الرغم من أن العلاقات الأميركية لا تزال متوترة مع روسيا، إلا أن مخططي الدفاع الأميركيين يركزون بشكل كبير على الصين بسبب إنفاقها العسكري المتزايد، وزيادة جهودها لترسيخ نفوذها في المياه المختلف عليها في آسيا.
وترفض الصين، التي تعتبر أن ترسانتها أقلّ بكثير من ترسانتي الولايات المتحدة وروسيا، المشاركة في المفاوضات الثلاثية لتجديد العمل بمعاهدة ستارت الجديدة التي تنتهي في غضون ما يزيد على ستة أشهر، إلا أنها أبدت انفتاحها على محادثات متعددة الأطراف.
وقد استبعدت موسكو سرعة التوصل إلى اتفاق مع واشنطن في المحادثات الجديدة الخاصة بالحد من السلاح النووي، في وقت تصر فيه الإدارة الأميركية على انضمام الصين إلى المحادثات كشرط أساسي، وهذا ما يبرر تفاصيل ما جاء في تقرير البنتاغون على ما يبدو.
وقال سيرجي ريابكوف نائب وزير الخارجية الروسي الشهر الماضي إن “متطلبات هذا الاتفاق لم تتوفّر بعد”، مشيرا إلى أنه لا يزال يرى اختلافات كبيرة بعد سلسلة من المفاوضات الثنائية حول مستقبل المعاهدة التي لم تظهر من خلالها بوادر تحقيق انفراجة في هذا الشأن حتى الآن.
المتابع لسلسلة التطورات في مسألة الاتفاقات والمعاهدات النووية يرى أنه من المستحيل التوصل إلى صيغة تفاهم ترضي الجميع على الرغم من حساسية الموضوع. ولكن الأمر على ما يبدو بات متروكا لأي حدث عالمي مقلق، كما هو الحال مع فايروس كورونا، قد يجعل الجميع يتفقون على صيغة لوقف التسليح والتجارب النووية.
ولا ترفض الصين بشكل مطلق أي نقاشات حول الأسلحة النووية، ولكنها في المقابل لديها موقف واضح من هذه المسألة، حيث أنها تفضل الإطار متعدد الأطراف، أي أن كل البلدان التي تمتلك أسلحة نووية يجب أن تدخل تحت مظلة أي اتفاق شامل، في حين يصر الأميركيون على أن تقتصر المناقشات على بكين وموسكو.
ويبرر محللون هذا الموقف بسياسات الولايات المتحدة الخارجية التي تظهر بوضوح مع إيران وكوريا الشمالية بالنظر إلى مصالحها في تلك المناطق، بينما تغض الطرف عن دول أخرى.
ويرى الخبير الصيني في شؤون الدفاع سونغ تجونغبينغ أن المستوى المثالي بالنسبة إلى بكين سيكون ألفي رأس نووي، وأكد أن “الصين لن تشارك أبداً في هذه المفاوضات حول الحدّ من التسلح بين الولايات المتحدة وروسيا”.
وتطالب موسكو بمناقشات حول تمديد هذه المعاهدة منذ أواخر عام 2019 إلا أن إدارة دونالد ترامب تماطل مع الإصرار على إشراك بكين في المحادثات. ولذلك يخشى المراقبون أن تستخدم الولايات المتحدة رفض الصين الانضمام إلى المحادثات ذريعة للتخلي عن الاتفاق، ما ينذر باستئناف سباق التسلح.
ويقول داريل كيمبال، المدير التنفيذي لجمعية ضبط الأسلحة “آرمز كونترول أسوسييشن”، إنه في الوقت الراهن ليس لدى إدارة ترامب أي نية لتمديد معاهدة ستارت الجديدة، وهي لا تتردد في استخدام عدم اهتمام الصين بمفاوضات ثلاثيةٍ ذريعةً للتخلي عن المعاهدة.
أما المحلل السياسي الروسي فيودور لوكيانوف فيرى أنه لا ينبغي توقع إحراز أي نوع من التقدم لأن موقف إدارة ترامب متسق جدا، فهي تتخلى عملياً عن كل القيود المرتبطة باتفاقات موقعة في الماضي وليس هناك أي سبب يدعو إلى الاعتقاد أن هذه المعاهدة ستشكل استثناء.
على مر عقود، ولاسيما خلال السنوات الأخيرة، ارتبطت جهود المجتمع المدني لدعم الحظر الشامل للتجارب النووية في معظمها بالمشروع الأكبر المتمثل في بلوغ الإزالة الكاملة للأسلحة النووية، ولكن المناهضين لهذا المنحى اصطدموا بعراقيل كثيرة.
وتعتقد الأمم المتحدة أنه للمساعدة على إدخال معاهدة الحظر الشامل إلى حيز النفاذ فإنه يمكن للمنظمات غير الحكومية والمجتمع المدني ولعامة الناس، وخاصة في البلدان التي لا بد من تصديقها على المعاهدة لكي يبدأ نفاذها، أن تحث حكوماتها وبرلماناتها وغيرها من الحكومات والبرلمانات على التوقيع والتصديق على المعاهدة.
كما يمكن لها أن تحث حكوماتها على تأييد المقترح ذي النقاط الخمس لنزع الأسلحة النووية الذي تقدم به الأمين العام أنطونيو غوتيريس، وهو يشمل إدخال معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية حيز النفاذ والنظر في التفاوض على إبرام اتفاقية للأسلحة النووية، يدعمها نظام قوي للتحقق، على النحو الذي يُقترح منذ أمد طويل في أوساط الأمم المتحدة.
وثمة الكثير من معاهد البحث والمؤسسات الأكاديمية والمنظمات غير الحكومية المنخرطة في أعمال ذات صلة بنزع الأسلحة، بما في ذلك الأعمال المتعلقة بمعاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية، تم إدراجها ضمن أجندة الأمم المتحدة.
ويفيد آخر تقارير المعهد الدولي لأبحاث السلام في ستوكهولم (سيبري) بأن روسيا والولايات المتحدة لا تزالان تملكان معاً أكثر من 90 في المئة من الأسلحة النووية في العالم، حيث تشير الأرقام إلى أن واشنطن تمتلك نحو 5800 رأس حربي نووي وتمتلك موسكو 6375 رأسا حربيا نوويا، مقابل 320 لبكين و290 لباريس و215 للندن.
وأشارت شانون كايل، مديرة برنامج نزع الأسلحة النووية والحدّ من التسلّح وعدم انتشار الأسلحة في المعهد، إلى أن “عصر الاتفاقات الثنائية للحدّ من الأسلحة النووية بين روسيا والولايات المتحدة يمكن أن ينتهي”.
وتنصّ أحكام معاهدة ستارت الجديدة، التي تقضي بنزع الأسلحة بشكل تدريجي، على إبقاء ترسانتي البلدين دون المستوى الذي كانت فيه خلال الحرب الباردة بتحديد عدد القاذفات النووية الإستراتيجية بنحو 700 وعدد الرؤوس النووية بنحو 1550.
ومع تعثر المفاوضات السابقة يستمر الغموض بشأن مصير المعاهدة التي أبرمت عام 2010 وتنتهي مدتها مطلع 2021، مباشرة بعد انتهاء ولاية الرئيس الأميركي دونالد ترامب. ويخشى العديد من المراقبين أن تدفع هذه المعاهدة النووية الأخيرة المتبقية ثمن الدبلوماسية المغامرة التي يتبعها ترامب.
وحتى الآن سحب الرئيس الأميركي بلاده من ثلاثة اتفاقات دولية حول الحدّ من التسلّح، هي الاتفاق حول النووي الإيراني ومعاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى ومعاهدة السماوات المفتوحة الهادفة إلى التحقق من التحركات العسكرية وإجراءات الحدّ من تسلّح الدول الموقعة عليها.
العرب