تتسم سياسة الولايات المتحدة تجاه دول شمال أفريقيا منذ تفجر ما يسمى بـ”الربيع العربي” وخاصة خلال السنوات الأربع الأخيرة بالتجاهل واللامبالاة الممزوجين بالتردد، وفق مراقبين سياسيين، وهو أمر يجب ألا يستمر خاصة في ظل الوضع المعقد الذي تعيشه بلدان المنطقة في ظل استمرار النزاع العسكري في ليبيا وعدم وجود آفاق لحل هذه الأزمة المعقدة، والتي قد تزيد من تعقيد أي فرصة لانفتاح الأميركيين هناك.
واشنطن – يعتقد دبلوماسيون أن الولايات المتحدة تأخرت في حسم مصير علاقاتها الدبلوماسية مع دول شمال أفريقيا بالنظر للمتغيرات المتسارعة في المنطقة، وأنه يجب ألا تكون هذه الشراكة مشروعا اقتصاديا فحسب، وإنما لابد أن ترتكز على تشاور وتنسيق سياسيين دائمين على نحو شبيه بالشراكة مع الاتحاد
الأوروبي.
وهذا الموقف يأتي مع استمرار إدارة الرئيس الأميركي الحالي في تجاهل منطقة شمال أفريقيا وعدم الاهتمام بالعلاقات المستقبلية، والتي تشكل مفتاحا جديدا للنفوذ، كما أنها تعد نقطة مهمة لاستقرار بقية دول القارة في ظل موجة الهجرة وتنامي ظاهرة الإرهاب.
ومع أن البعد الاقتصادي يتلازم مع البعدين السياسي والأمني في أي علاقات دبلوماسية بين البلدان، لكن الشراكة الأميركية مفتوحة فقط أمام دول المنطقة التي تلتزم بالمعايير الدولية كتونس والمغرب والجزائر، بينما هناك غياب يبدو مقصودا عن الأزمة الليبية، فيما لا تشكل موريتانيا أي وزن لواشنطن على ما يبدو.
ونظرا للإمكانيات الهائلة، التي تتمتع بها شمال أفريقيا وخاصة موقها الجيواستراتيجي بين المحيط الهادي والبحر المتوسط وحوض النيل ومضيق جبل طارق وقناة السويس وثرواتها الطبيعية، فإن المنطقة باتت مركزا للصراعات الدولية والإقليمية، والتي رسمت مجموعة من المخططات للدول العظمى.
وقد أولت استراتيجيات القوى العظمى البحر المتوسط أهمية كبيرة خلال العقدين الأخيرين لمكانته الهامة ولوضعه الحيوي المتميز وتأثيره على التجارة والنقل، غير أن الأميركيين لا يزالون بعيدين عن التركيز عليه بالشكل المطلوب، بينما تتغول الصين في القارة وتبحث قوى أخرى عن دعم حكومات معينة حتى تربح الوقوف بصفها.
رؤية جديدة
بحسب رؤية الدبلوماسي الأميركي السابق جوردون غراي، الذي عمل سفيرا للولايات المتحدة لدى تونس في الفترة من عام 2009 إلى عام 2012 وشهد بداية “الربيع العربي”، فإن نظرة واشنطن يجب أن تتغير لدول شمال أفريقيا مهما كان الفائز في الانتخابات الرئاسية المقررة في نوفمبر المقبل.
ويرى غراي في إطار وجهة نظره التي نشرتها مجلة “ناشيونال إنتريست” الأميركية أنه يتعين على الإدارة الأميركية المقبلة اتخاذ موقف جديد. وقال إن “هذه المنطقة تشهد قضايا مهمة بالنسبة لواشنطن ولحلفائها، وبينها مكافحة الإرهاب والتحول الديمقراطي والهجرة إلى أوروبا والتوسع التجاري”.
وأوضح غراي أنه سيتعين على الإدارة الأميركية المقبلة أن تقوم بوجه خاص بتوفير الدعم والموارد للتحول الذي تشهده تونس، وبذل جهد دبلوماسي جاد لبدء عملية استعادة الاستقرار في ليبيا، وكذلك السعي لتحقيق التكامل الاقتصادي في المنطقة.
وتفرض الظروف الحالية التي تعيشها المنطقة حتمية المشاركة النشطة من جانب الولايات المتحدة، التي ستعزز “المصالح والقيم الأميركية، وسوف تدعم استقرار الجناح الجنوبي لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، وستعزز الرخاء الأميركي”.
وبالنسبة لتونس، يرى غراي أنه رغم أن البلاد شهدت تقدما سياسيا مهما ومؤثرا بعد “ثورة الربيع العربي”، التي بدأت قبل نحو عشر سنوات، وهو تقدم شمل إجراء انتخابات حرة ونزيهة وتغييرات سياسية في القيادات، لم يكن بوسع الحكومات المتعاقبة مواجهة التحديات الاقتصادية الكبيرة في البلاد.
ومع ذلك يحمل الموقف الأميركي علامات التجاهل تجاه تونس، وكان ينبغي أن تدعم واشنطن التحول في البلاد بقوة، إذ أن تحقيق الاستقرار الاقتصادي يعتبر أحد العوامل المهمة للتحكم في الهجرة التي تثير قلق حلفاء الولايات المتحدة في جنوب أوروبا.
وألمح غراي الذي عمل أيضا نائبا لمساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى، وهو حاليا كبير مسؤولي مركز التقدم الأميركي للأبحاث إلى أن تقديم الدعم لتونس يحظى بموافقة الحزبين الجمهوري والديمقراطي في الكونغرس.
وفي دليل واضح على الدعم الذي يوليه صناع القرار الأميركي هو أن اثنين من أعضاء مجلس الشيوخ، أحدهما جمهوري والآخر ديمقراطي، تقدما في وقت سابق من هذا العام بمشروع قرار يدعو إلى البدء في إجراء مفاوضات تتعلق بعقد اتفاقية تجارة حرة مع تونس.
واقترح غراي أنه بعد التجاهل الذي دام أربع سنوات تقريبا يتعين على الرئيس الأميركي الذي سيفوز في الانتخابات المقبلة دعوة نظيره التونسي قيس سعيد إلى اجتماع في البيت الأبيض، يؤكد فيه الدعم الأميركي المستمر للتحول السياسي في هذا البلد.
وبالفعل هناك تعاون أميركي تونسي لكنه بسيط، فمثلا بعد أيام من تسليم روسيا قوات خليفة حفتر طائرات ميغ وسوخوي، أعلن الجيش الأميركي في مايو الماضي أنه يبحث استخدام أحد ألويته للمساعدة الأمنية في تونس.
ويبدو أن الفرصة سانحة، إذ من الممكن عقد اجتماعات في خريف العام المقبل بعد اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، أو في أي وقت قريب من الاحتفال بالذكرى العاشرة لأول انتخابات حقيقية في تونس.
وفي ما يتعلق بتحقيق التكامل الإقليمي، يرى غراي أنه قد يمثل تحديا كبيرا نظرا للوضع الرهيب الذي تشهده ليبيا. وقد لاحظ صندوق النقد الدولي العام الماضي ضعف حجم التجارة بين دول المنطقة، وتوقع أن تخلق زيادة التكامل الاقتصادي سوقا إقليمية تضم حوالي مئة مليون نسمة، ومن الممكن أن تؤدي إلى مستويات أعلى كثيرا من الاستثمار الأجنبي المباشر.
ويرى غراي أنه ينبغي على الإدارة الأميركية المقبلة أن توفر الحوافز لكل دول شمال أفريقيا، تونس وليبيا والجزائر والمغرب وموريتانيا، حتى تبدأ في اتخاذ الخطوات الضرورية لتحقيق التكامل الاقتصادي في المنطقة.
ومن شأن هذا التكامل الاقتصادي أن يحقق مكاسب بالنسبة لكل دول شمال أفريقيا؛ فالنمو الاقتصادي الذي سوف تعززه الاستثمارات الخارجية المباشرة، سيؤدي إلى معدلات توظيف أعلى. ويمكن القول بأن البطالة هي أهم تحد اقتصادي واجتماعي بالنسبة لكل دولة من هذه الدول.
سوف تستفيد الولايات المتحدة ودول أوروبا من وراء أي تكامل اقتصادي في شمال أفريقيا وذلك لأسباب تجارية وأخرى سياسية، حيث ستكون هناك سوق أكثر نشاطا، بالإضافة إلى المزيد من الاستقرار.
وتثير سياسات الصين وروسيا في أفريقيا قلق الولايات المتحدة، التي تسعى إلى زيادة الأموال المخصصة للتنمية في مواجهة مطامح بكين وموسكو، وهذا الأمر يتطلب استراتيجية متكاملة يمكن أن تساعد الأميركيين على استمالة الأنظمة الحاكمة في شمال أفريقيا أو دعم الأنظمة الجديدة التي هي في طور التشكل.
ويؤمن مشروع الشرق الأوسط الكبير بأن مفاتيح آسيا تكمن في أفغانستان وأن سوريا مستهدفة بعد العراق وأن الامتداد الجغرافي لسوريا يكون في مصر والامتداد الجغرافي لمصر يكون في ليبيا والجزائر والامتداد الجغرافي للجزائر يكون في موريتانيا حيث تمثل الأخيرة نقطة انطلاق إلى مناطق وسط وغرب أفريقيا.
غير أن الأوضاع المتوترة في الشرق الأوسط خاصة الملف السوري والإيراني ساهمت في تراجع نفوذ الولايات المتحدة في أفريقيا واقتصار حضورها على الجانب العسكري، ما دفع بالغريم الروسي الذي أصبح عنصرا أساسيا في خارطة النفوذ الشرق أوسطية إلى الاندفاع نحو أفريقيا أملا في وضع موطئ قدم داخل قارة مليئة بالثروات والمعابر البحرية الاستراتيجية.
ورغم ضعف النفوذ الأميركي في المنطقة، اقتصاديًا مقارنة بالصين، وسياسيا وعسكريا مقارنة بفرنسا ودول الاتحاد الأوروبي، فإن واشنطن لا تخفي اهتمامها بتدارك هذا الوضع، لاسيما وأن القارة تضم أكبر تجمع للدول النامية في العالم، ذات الأسواق المتعطشة للاستثمارات، والثروات الهائلة.
وكانت فرنسا قد تحركت بشكل أكبر قبل عدة سنوات في المنطقة بعد أن وضعت واشنطن في عهد الرئيس السابق باراك أوباما استراتيجية تهدف إلى احتلال مراكز نفوذ أو تأثير على طول الضفة الجنوبية للبحر المتوسط من المغرب إلى مصر مرورا بالجزائر وتونس.
وحتى تحقق الولايات المتحدة ذلك عليها استخدام ما لديها من وسائل لاستدراج كل دول المنطقة لتذليل مشاكلها وسد حاجياتها المختلفة لقطع روابطها القديمة مع أوروبا وفرنسا خاصة، لاسيما وأن الإدارة الأميركية تسعى إلى إنهاء كل النزاعات في المنطقة وفي مقدمتها قضية الصحراء المغربية لتشكيل مجموعة جغرافية تميل إلى واشنطن.
ومع المتغيرات الدولية التي جاء بها النظام العالمي الجديد، أخذت المصالح الاقتصادية تفرض نفسها بقوة مما أضفى نوعا من التقويم في السياسات الخارجية الأميركية لتظهر في عهد الرئيس بيل كيلنتون مبادرة “إيزنستات” الضعيفة في جانبها السياسي، لأنها خاطبت فقط تونس والمغرب والجزائر.
ونظرا لفشل هذه المبادرة أطلقت الولايات المتحدة مبادرات بديلة مثل الشراكة الشرق أوسطية في 2002 ومشروع التبادل الحر الشرق أوسطي في 2003 ليتم إدماج كل هذه المبادرات فيما سمي بمشروع الشرق الأوسط الكبير.
العرب