استثمرت الولايات المتحدة مئات مليارات الدولارات في [بناء قطاع] الأمن العراقي لكنها تواجه منافسة متزايدة من قبل روسيا على النفوذ في العراق. وتمارس موسكو لعبة جيوسياسية واسعة النطاق – وإن كانت هادئة. والأسوأ من ذلك، لم يلقَ هذا التعزيز الروسي أي رد من قبل كبار صنّاع السياسة في واشنطن. ويتزعم العراق الآن رئيس جمهورية ورئيس وزراء مواليان للولايات المتحدة، هما برهم صالح ومصطفى الكاظمي. ومع ذلك، يدرك الكرملين أن روسيا في وضع غير مستقر وستواصل التنافس بهدوء على النفوذ في العراق. وفي ضوء زيارة الكاظمي لواشنطن في الشهر الماضي، وأهمية توسيع العلاقات الأمريكية – العراقية، هناك أهمية لمصالح روسيا.
في عام 2003، عارض الكرملين بشدة الغزو الذي قادته الولايات المتحدة في العراق والذي أطاح بصدام حسين، الطاغية الوحشي الذي صاغ نفسه على غرار جوزيف ستالين. وتسببت الإطاحة بصدام في خسارة الكرملين لمكانته الاستراتيجية في العراق، لكنها دقت ناقوس الخطر بشأن مستقبله بالذات. وكما وصف ذلك محلل روسي في نيسان/أبريل 2003، “يبدو أن الصراع الأمريكي – العراقي قد سلّط الضوء على مطلب [روسي] علني بأن نستعيد مكانتنا كفوة عظمى”.
ومنذ ذلك الحين، عمل الكرملين على العودة إلى العراق. وعلى نطاق أوسع، نصب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نفسه كبطل ضد الإملاءات الأمريكية المتصوَّرة، خاصة في أعقاب الاحتجاجات السلمية للثورات الملونة التي اجتاحت مجال ما بعد الاتحاد السوفيتي في النصف الأول من العقد الماضي – فقد اقتنع بوتين بأن الولايات المتحدة قد دبرت تلك الاحتجاجات لإضعاف روسيا. وفي هذا السياق، أثار إعدام صدام حسين في كانون الأول/ديسمبر 2006 قلق الكرملين بشدة. وبالتالي، لا تختلف مصالح موسكو في العراق عن أي مكان آخر في المنطقة وكانت تتمثل دائماً بالرد على النظام العالمي الذي تتزعمه الولايات المتحدة.
في عام 2008، حقق الكرملين بعض الإنجازات في العراق بعد أن ألغى فلاديمير بوتين معظم ديون العراق من الحقبة السوفيتية والتي بلغت 12.9 مليار دولار مقابل صفقة نفط بقيمة 4 مليارات دولار. وفي عام 2012، دخلت شركتا “لوك أويل” و “غازبروم نيفت” سوق الطاقة في «إقليم كردستان العراق». لكن الجهود الروسية تسارعت في السنوات الأخيرة، بدءاً من عام 2014، عندما احتاج العراق إلى مساعدة فورية في محاربة تنظيم «الدولة الإسلامية»، وحين أخّرت واشنطن المساعدة العسكرية التي كان العراق في أمس الحاجة إليها. وعلى الفور جهزت موسكو المساعدات، وهو أمر يتذكره الكثير من العراقيين حتى يومنا هذا. بالإضافة إلى ذلك، وبعد عامين من ذلك التاريخ، وصل أحد أكبر الوفود الروسية منذ سنوات إلى العراق للبناء على هذه الجهود ومناقشة المزيد من التعاون الأمني. وعلى مر السنين، تبع ذلك المزيد من الاستثمارات في مجال الطاقة، في كل من العراق و «إقليم كردستان»، إلى جانب صفقات الأسلحة وغيرها من الارتباطات.
المرحلة التي وصلت إليها الأمور الآن
بناءً على محادثاتي مع عراقيين في العام الماضي، لا يزال الكثيرون في العراق ينظرون إلى روسيا كدولة تتفهم خطر الإرهاب السني أكثر من الغرب. وربما يسلط سوء الفهم هذا الضوء على صمود سرديات موسكو الخاطئة في الشرق الأوسط وقابلية المنطقة للتأثر بها على حد سواء، في غياب بديل أفضل. وفي الواقع، وبطبيعة الحال، دائماً ما تتعلق مساعدة موسكو بكسب النفوذ؛ وبالتأكيد، لم يحارب الكرملين تنظيم «الدولة الإسلامية» بأي تناسق، بل وربما عزز قابلياته في بعض الأحيان.
وبالطبع، يُعد قطاع الطاقة أساسياً لنفوذ الكرملين في العراق، وكانت الاتفاقيات في مجال الطاقة التي وقّعتها روسيا في البلاد قد بدأت تكتسب طابعاً استراتيجياً على نحو أكبر في أوائل عام 2017 عندما أقرضت شركة الطاقة الروسية العملاقة “روسنفت” 3.5 مليار دولار لـ «حكومة إقليم كردستان» ووقّعت مجموعة من عقود الطاقة الإضافية. وقد منح ذلك القرض شريان حياة لـ «حكومة الإقليم» ووفّر لها درجة مهمة من النفوذ في مواجهة بغداد، التي تريد السيطرة على مبيعات نفط «حكومة إقليم كردستان»، ولكن يتعيّن عليها الآن التعامل مع “روسنفت” بشأن هذه المسألة. وفي العام التالي، اشترت “روسنفت” أيضاً حصة أغلبية في خط أنابيب النفط التابع لـ «حكومة إقليم كردستان» الممتد إلى تركيا ووافقت على بناء خط أنابيب غاز موازي له.
وبالنسبة لموسكو، تشكّل الطاقة أولاً وقبل كل شئ أداة للسياسة الخارجية؛ فالسيطرة على خط أنابيب [النفط أو الغاز] لها آثار جيوسياسية طويلة الأجل، أكثر من مجرد فوائد الربح. وهذا هو السبب الرئيسي لاهتمام موسكو بالسيطرة على موارد الطاقة العراقية. وفي العام الماضي، بلغ إجمالي الاستثمار الروسي في قطاع الطاقة في العراق 10 مليارات دولار، وفي بداية هذا العام، تحدث المسؤولون الروس عن مضاعفة هذا المبلغ ثلاث مرات. إن التطلعات أمر مهم، مَثَلها مثل التصريحات العلنية، حتى لو لم تصبح هذه المبالغ حقيقة.
ومع ذلك، تتجاوز روابط موسكو في العراق مجال الطاقة. فوفقاً للسفير الروسي في العراق مكسيم ماكسيموف، قام مسؤولون عراقيون وروس بـ 60 زيارة في عام 2019، “أي في المتوسط ، عملت خمسة وفود في روسيا والعراق كل شهر”، على حد تعبيره في أيار/مايو من هذا العام. بالإضافة إلى ذلك، وفي آب/أغسطس الماضي، حصل العراق (إلى جانب لبنان) على صفة مراقب في محادثات أستانا التي تتزعمها موسكو بشأن سوريا، وهي المحادثات التي استخدمها الكرملين على مر السنين لبناء مسار دبلوماسي موازٍ بشأن سوريا لاستبعاد كل من الولايات المتحدة والمعارضة الحقيقية ضد دكتاتور سوريا بشار الأسد.
الروابط مع الميليشيات
ربما غابت عموماً عن الأذهان علاقات موسكو مع الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران، والتي ينبغي أن تكون سبباً خاصاً لقلق واشنطن، لا سيما بالنظر إلى شراكة روسيا مع إيران في الشرق الأوسط. فبدءً من نيسان/أبريل 2012، أفادت قناة الإعلام الدعائية الرئيسية “آر تي” الناطقة باللغة العربية والتابعة للكرملين أن الشيخ مهند الغراوي، ممثل زعيم إحدى الميليشيات الشيعية والسياسي المتقلب مقتدى الصدر، كان يزور موسكو. وكان الصدر وميليشياته قد قاوموا بشراسة الجهود الأمريكية في العراق؛ وعلى مر السنين صوّر الصدر نفسه كرجل سياسي مؤثر تلاعب بجميع أطراف النزاع، وهي ميزة أعجبت موسكو على الأرجح وبدأت تقوم بالمثل. بالإضافة إلى ذلك، سافرت عناصر من ميليشيات «الحشد الشعبي» المرتبطة بإيران إلى موسكو في أيلول/سبتمبر 2019. ووفقاً لبعض التقارير التقى السفير الروسي ماكسيموف أيضاً مع رئيس «هيئة الحشد الشعبي» [سابقا] فالح الفياض في آب/أغسطس. علاوة على ذلك، يتزايد حديث كبار العراقيين، على حِدَة، عن علاقات «الحشد» مع موسكو.
ورغم المخاطر تلتزم موسكو بالضغط من أجل النفوذ في العراق. ففي أواخر عام 2019 عندما أثارت الاحتجاجات الضخمة المناهضة للحكومة أعصاب العديد من الدبلوماسيين الغربيين، وحيث غادر بعضهم البلاد بسبب المخاوف الأمنية، بقيت السفارة الروسية مفتوحة. ومع تشكيل الحكومة الحالية في العراق في سياق الاحتجاجات، لم تراقب موسكو [سير الأحداث] باهتمام فحسب، بل عملت على تأمين النفوذ والروابط وتستمر في القيام بذلك.
ويقيناً، أن موسكو لا تنقصها الاتصالات مع الحكومة العراقية الحالية. ففي أيار/مايو من هذا العام، ذكرت الصحف الروسية أن مصطفى الكاظمي دعا بوتين، عبر السفير الروسي ماكسيموف، لزيارة بغداد. كما لا يفوِّت الكرملين فرصة لإقحام نفسه كلما ازداد التوتر بين بغداد أو أربيل وواشنطن. على سبيل المثال، عندما تصاعدت التوترات في أعقاب الضربات الجوية الأمريكية التي قتلت القائد العسكري الإيراني الأقدم قاسم سليماني، ناقش المسؤولون الروس والعراقيون تعميق التعاون العسكري.
نظرة إلى المستقبل
ليس الأمر بأن موسكو على وشك الانقضاض على العراق والحلول محل الولايات المتحدة، أو إيران في هذا الشأن. وبدلاً من ذلك، يبني الكرملين بهدوء نفوذه في القطاعات الرئيسية ويدعم القوى المعادية لأمريكا في البلاد. وحتى في الوقت الذي تواجه فيه موسكو منافسة، فقد أدركت أهمية الصراع الجيوسياسي بالنسبة للعراق، في وقت كان فيه التزام واشنطن تجاه العراق متأرجحاً. وفي الوقت نفسه، لا تُظهر موسكو أي إشارات للانفصال عن إيران على الرغم من الخلافات التكتيكية فحسب، بل تواصل أيضاً الاقتراب من الصين، وهي جهة فاعلة أخرى تشق طريقها في العراق.
سيجري العراق انتخابات مبكرة لمجلس النواب في صيف أو خريف 2021، وإذا فازت المزيد من القوى الموالية لإيران بمقاعد في البرلمان، فقد يسمح ذلك أيضاً بانفتاح أكبر لموسكو في العراق. وبالتالي، يتعيّن على الولايات المتحدة الانخراط بشكل أعمق في العراق، ليس فقط لضمان الأمن ومواجهة النفوذ الإيراني، بل لمواجهة النفوذ الروسي أيضاً. وسوف يؤدي النفوذ الروسي في العراق إلى تفاقم الفساد، والتوترات العرقية والطائفية، ويساهم في الحد من الحريات الهشة التي تحققت بشق الأنفس.
ونظراً لتمحور السياسة الخارجية الأمريكية نحو منافسة روسيا والصين حول مكانة القوة العظمى، تبقى للعراق أهمية باعتباره شريكاً استراتيجياً. لقد استثمرت الولايات المتحدة الكثير في العراق ولفترة طويلة بحيث لا يمكنها التخلي عنه الآن.
آنا بورشفسكايا
معهد واشنطن