يمكن القول إن الفرحة الإيرانية لم تكتمل بقرار الرئيس الأميركي دونالد ترمب تخفيض عدد قواته في العراق بواقع 2000 جندي والإبقاء مرحلياً على نحو 3200 آخرين، في إطار اتفاقيات تعاون وتدريب من دون مهمات عسكرية، على أن تتركز هذه القوات في قواعد في إقليم كردستان وفي محافظة الأنبار، غرب العراق، بالإضافة إلى ما يدور في الكواليس عن إمكانية لجوء إدارة البيت الأبيض لاتخاذ قرار إستراتيجي بالانسحاب من مناطق شرق سوريا حتى نهاية العام الحالي 2020.
فطهران التي دخلت في تحد واضح مع إدارة ترمب بعد 3 يناير (كانون الثاني) 2020 وعملية اغتيال الجنرال قاسم سليماني، ورفعت شعار إخراج القوات الأميركية من منطقة غرب آسيا وتحديداً من العراق وسوريا، كانت تراهن على الفراغ الذي سيحدثه هذا الانسحاب والخروج بما يفتح الطريق أمامها للعودة إلى سياسة ملء الفراغ، التي اعتمدتها منذ احتلال أفغانستان عام 2001 والعراق عام 2003، محولة العملية العسكرية الأميركية بإسقاط نظام طالبان على حدودها الشرقية ونظام صدام حسين على حدودها الغربية، إلى مدخل لتوسيع نفوذها على حساب هذه الأنظمة وعملية التغيير الأميركية على حد سواء. وتطوير هذه السياسة لتوسيع نفوذها وتمددها في الإقليم والعواصم العربية في إطار تعزيز مشروعها الشرق أوسطي، بأن تتحول إلى لاعب أساس في كل القضايا والأزمات التي يعيشها هذا الإقليم وفرض نفسها ونظامها كشريك في أي تسويات قد تعمل الإدارة الأميركية والمجتمع الدولي على تسويق حلول لها.
ولعل الطموح الإيراني الأكبر هو أن يسمح لها الانسحاب الأميركي من منطقة الخليج والشرق الأوسط بتطبيق رؤيتها الإستراتيجية التي تسعى لترويجها في المنطقة، إن كان من خلال المساعي التي بذلها الرئيس الإيراني الأسبق محمد خاتمي في دعوته إلى إقامة “شرق أوسط إسلامي” في مواجهة المشروع الذي طرحته وزيرة الخارجية الأميركية حينها كونداليزا رايس تحت عنوان “الشرق الأوسط الجديد”. أو من خلال الرؤية التي أطلقها الرئيس الحالي حسن روحاني بالدعوة إلى إقامة “منطقة قوية وليس دولاً قوية”. والرؤيتان تمنحان إيران موقعاً متقدماً في قيادة وتطبيق هذا المشروع بنسختيه، انطلاقاً من كونها الجهة أو الدولة التي تقدم نفسها على أنها القوة الأكبر والأكثر حضوراً ونفوذاً في الإقليم.
وقد بدأت هذه الطموحات الإيرانية بالظهور بشكل واضح بين عامي 2004 و2005 خلال مفاوضاتها مع الترويكا الأوروبية ومنسق العلاقات الخارجية للاتحاد الأوروبي خافيير سولانا، عندما طالبت بانسحاب القوات الأجنبية من منطقة الخليج ومحيط إيران. أي أنها لم تقتصر في طلبها على القوات الأميركية، بل أيضاً في رفضها إحلال قوات تابعة لحلف الناتو مكان القوات الأميركية، وأن يكون البديل قوات من دول المنطقة تتولى مهمة الأمن، خصوصاً الممرات المائية وما تعنيه من تدفق آمن للطاقة إلى الأسواق الدولية.
اقرأ المزيد
من العروبة السياسية إلى العروبة الثقافية
ثورة شاخت وقضية تراكمت فوقها قضايا
إيران قد “تحصد” من إعدام أفكاري ما لا تشتهي
وقد تعززت هذه الطموحات، عندما أعلن الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما عن عقيدته الإستراتيجية فيما يتعلق بالتعامل مع الأزمات الآسيوية والتحديات التي تفرضها على واشنطن. وقد ركزت هذه العقيدة على بعدين أساسيين، الأول، يقول بعمل الإدارة الأميركية على وضع خطط فاعلة وعملية لعملية خفض وجودها العسكري في الشرق الأوسط مع الالتزام التام بتوفير أمن وحراسة ممرات الطاقة. والثاني، إعادة التركيز على تعزيز الوجود الأميركي في محيط الصين في إطار إستراتيجية محاصرة الخطر الصيني الاقتصادي القادم، والذي سيكون مصدر تهديد حقيقي للاقتصاد الأميركي والدولي على حد سواء.
التطورات التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط وتحديداً منطقة الخليج، وما تعنيه من محيط حيوي وإستراتيجي للمصالح الإيرانية، أربكت المشهد أمام القيادة الإيرانية، بالتزامن مع انتقال العلاقات بين بعض العواصم الخليجية مع تل أبيب إلى علاقات علنية مبنية على اتفاقية سلام وتطبيع على مختلف المستويات الاقتصادية والعلمية العسكرية والأمنية والاجتماعية، بعد ما كانت على مدى سنوات علاقات غير رسمية لم تغب عن رصد وعين طهران، وكانت تقبل بها ولا تعارضها بشكل جذري ما دامت بقيت تحت هذا السقف.
هذا التحول والتطور في العلاقات بين هذه العواصم وتل أبيب، وما أكده وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو أن تحالفاً أو ائتلافاً أمنياً وعسكرياً سيجري الاتفاق عليه بين تل أبيب وأبوظبي لمواجهة الخطر الإيراني في منطقة الشرق الأوسط، وانضمام مملكة البحرين إلى هذا الاتفاق، نقل الهواجس الإيرانية إلى مرحلة متقدمة تقارب تحسس الخطر الذي بدأ يقترب من سواحلها الغربية والمحيط الحيوي لمصالحها الإستراتيجية والأمنية والمشروع أو الرؤية التي تسعى إلى تكريسها في هذا المحيط ومنطقة الشرق الأوسط. خصوصاً بعد فشلها في تقليل مستوى الخوف من طموحاتها الذي بدأ يشكل مصدر تهديد وخطر على استقرار دول المنطقة، ولم تفلح في إقامة تفاهمات وتهدئة مع دول المنطقة، خصوصاً الدول المعنية، أي السعودية والإمارات، بعد تمدد نفوذ طهران في العديد من العواصم العربية، وما يشكله ذلك من تهديد لمصالح هذه الدول الإستراتيجية على الرغم من كل الجهود التي بذلها وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف من خلال الطروحات التي قدمها عام 2019 حول بناء نظام أمني إقليمي وتعاون أمني لإدارة مضيق هرمز ومعابر الطاقة الدولية في المنطقة.
وأمام تنامي النفوذ الإيراني في العمق والمدى العربي الحيوي، تنامت في المقابل حالة الخوف من آثار وأهداف هذا النفوذ أو ما اصطلح على تسميته “إيرانوفوبيا”، ما أسهم في تعميق الهوة بين هذه الدول والنظام الإيراني، الذي وجد نفسه في مواجهة تصعيد أميركي غير مسبوق مع إدارة الرئيس دونالد ترمب، الذي حدد إستراتيجيته في التعامل مع هذا النظام والتي استهدفت بشكل مباشر النفوذ الإيراني الإقليمي وتفكيك أذرعه في المنطقة، بالإضافة إلى البرنامجين الصاروخي والنووي. إلا أن ترمب وفي ظل التزامه بإخراج قواته من مناطق النزاع في الشرق الأوسط، ذهب إلى خيار تقديم نسخة معدلة من عقيدة أوباما تقوم على تعزيز قدرات دول المنطقة الحليفة لواشنطن لتقوم بالتصدي للنفوذ والطموحات الإيرانية، إلى جانب تحملها مسؤولية حماية ممرات الطاقة الدولية في مياه الخليج ومضيقي هرمز وباب المندب والبحر الأحمر، من خلال الذهاب نحو بناء تحالفات واتفاقيات إقليمية بين الدول الخليجية وإسرائيل على قاعدة المصالح المشتركة لمواجهة الخطر الإيراني وقطع الطريق على مساعيها لتكون شريكاً لتل أبيب والدول العربية في النفوذ الإقليمي.
لذلك يمكن القول إن طهران، قد لا تعارض أي اتفاق سلام بين إسرائيل وأي دولة عربية خارج مجالها الحيوي، مع الاحتفاظ بحقها في رفض هذا المسار وإدانته، كما في التجربتين المصرية والأردنية. إلا أن دخول الدول الخليجية في اتفاقيات أمنية هدفها المعلن إسرائيلياً وأميركياً محاصرة الدور والنفوذ الإيرانيين، وهو ما يشكل مصدر القلق والتوتر الإيراني من الخطوة الخليجية، لأنه يضعها في دائرة المواجهة المباشرة مع تل أبيب على حدودها، ما يكشف عمقها الداخلي ويحوله إلى ساحة مواجهة مباشرة بعد ما كانت تمسك بهذه اللعبة من خلال تهديد الداخل الإسرائيلي عبر وجودها من خلال حلفائها على هذه الحدود في كل من لبنان وسوريا وغزة.
حسن فحص
اندبندت عربي