لم يسبق لدولة كبرى مثل فرنسا أن انغمست في تفاصيل التناقضات الداخلية لدولة صغرى مثل لبنان بعد ما التزمت العمل على تسهيل قيام حكومة جديدة تحاول إنقاذه من المأزق الاقتصادي المالي الذي وقع فيه وازداد عمقاً بعد الكارثة الزلزالية التي أصابته بانفجار مرفأ بيروت الذي حوّل العاصمة إلى مدينة منكوبة في 4 أغسطس (آب) الماضي.
فرضت عرقلة تأليف الحكومة برئاسة السفير مصطفى أديب على باريس أن تلاحق تفاصيل الاتصالات والعقد التي نشأت في وجه ولادتها التي كانت مقررة الثلاثاء 15 سبتمبر (أيلول) وأفضت المتابعة الدقيقة من قبل مدير المخابرات الفرنسية الخارجية السفير السابق في بيروت برنار إيمييه وكبير مستشاري الرئاسة السفير السابق في بيروت إيمانويل بون، إضافةً إلى السفير في بيروت برونو فوشيه، إلى تمديد المهلة التي تعهّد الفرقاء اللبنانيون الذين التقاهم الرئيس إيمانويل ماكرون في 1 سبتمبر (أيلول) خلال زيارته الثانية لبيروت، بإنجاز الحكومة قبل نهايتها، إلى تمديد المهلة 24 ساعة، قبل إعلان فشل محاولة ولادتها. فالجانب الفرنسي يصرّ على إنجاح مبادرة رئيسه في لبنان.
تمديد مهلة التأليف مرتين لتأجيل اعتذار أديب
وفي وقت كان ينتظر أن ينتهي نهار الأربعاء 16 سبتمبر باعتذار الرئيس المكلف أديب عن مواصلة مهمة تأليف الحكومة نتيجة إصرار الثنائي الشيعي “حزب الله” وحركة “أمل” في رئاسة البرلمان على استثناء حقيبة المال من المداورة بين الطوائف في توزيع الحقائب وعلى إبقائها بعهدة وزير شيعي، فإن معلومات “اندبندت عربية” أفادت بأن الرئاسة الفرنسية تمنّت على أديب التريث في الاعتذار، ما أوحى بتمديد المهلة 24 ساعة أخرى حتى 17 الحالي.
وأعقب ذلك صدور بيان عن قصر الإيليزيه (وكالة الصحافة الفرنسية) دعا السياسيين اللبنانيين إلى “تحمل مسؤولياتهم”. وأعرب عن “أسفه” لعدم احترام التعهدات التي قطعوها خلال زيارة الرئيس ماكرون، بتشكيل الحكومة “خلال 15 يوماً”.
وأعلن قصر الإليزيه أنه “لم يفت الأوان بعد. على الجميع تحمل مسؤولياتهم من أجل مصلحة لبنان فقط والسماح” للرئيس المكلف أديب “بتشكيل حكومة بمستوى خطورة الوضع”. وأكدت الرئاسة الفرنسية أن “جميع السياسيين اللبنانيين قطعوا تعهداً بأن الحكومة الإنقاذية ستكون قادرة على تطبيق برنامج إصلاحات ملحة تلبّي حاجات لبنان وتطلعات اللبنانيين واللبنانيات”. وذكرت الرئاسة “ما زلنا نتابع باهتمام الوضع ونواصل اتصالاتنا مع المسؤولين لتجديد هذه الرسالة الملحّة”.
المخاوف من الفشل الفرنسي
بدا أن المبادرة الفرنسية على قاب قوسين من الفشل وأن هناك محاولة أخيرة لاستدراك ذلك، نظراً إلى مفاعيله السلبية حيال الدور الفرنسي الذي تعرض لانتقاد أميركي بسبب مراهنته على تسهيل “حزب الله” مهمته، فضلاً عن تداعيات هذا الفشل على الوضعين الاقتصادي والاجتماعي، خصوصاً أن أكثرية اللبنانيين وبعض القوى السياسية اعتبرا المبادرة خشبة خلاص من الأزمة التي يرزح تحتها لبنان. فهي قائمة على روزنامة واضحة تقضي بتنفيذ الحكومة الجديدة والبرلمان الإصلاحات العاجلة خلال 6 أسابيع، يدعو في نهايتها ماكرون إلى مؤتمر دولي يضع جدول مساعدات مالية تعين لبنان على وقف تدهور ماليته وإعادة إعمار ما تهدّم.
منذ الأسبوع الماضي، كانت العقدة في إصرار الثنائي الشيعي على تكريس حصول الشيعة على حقيبة المال كعرف يخوّل الوزير الشيعي بالتوقيع “الثالث” في السلطة التنفيذية، إضافةً إلى التوقيعين الماروني في الرئاسة الأولى والسني في رئاسة الحكومة، الأمر الذي رفضته سائر قيادات الطوائف، مؤكدة أن ما يستند إليه رئيس البرلمان نبيه بري في مطلبه هذا، عن أنه جرى التوافق عليه في اتفاق الطائف عام 1989 غير صحيح. وأعلن النائبان السابقان بطرس حرب وإدمون رزق اللذان كانا في عداد النواب الذين شاركوا في مؤتمر الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية وأقرّ إصلاحات دستورية، أن تكريس حقيبة وزارية لطائفة لم يتم بحثه خلال المؤتمر.
بري يسهّل… لا يسهّل والتوجس من رؤساء الحكومات
ومع أن اتصال الرئيس الفرنسي بالرئيس بري ليل السبت 13 سبتمبر أعقبه توزيع معلومات استناداً إلى بيان أصدره الثاني، بأنه أكد لماكرون أنه غير راضٍ عن طريقة تأليف الحكومة وأن الثنائي الشيعي لن يشارك فيها، لكنه لن يأخذ على عاتقه إفشال المبادرة، بالتالي سيعطي الثقة البرلمانية لها وسيسهّل إقرار القوانين الإصلاحية في المجلس النيابي ويتعاون إلى أقصى الحدود، فإن الذين اعتقدوا أن ترجمة هذا الموقف هي أنه لن يقف حجر عثرة أمام ولادة الحكومة، سرعان ما خاب ظنهم.
ومن التسريبات التي نقلت عن أوساط قريبة من بري أنه لن يتحمل مسؤولية إفشال المبادرة الفرنسية، خصوصاً أن هناك من يتلطّى خلفه وأنه سيجد طريقة للاعتراض على رفض مطلبه الاحتفاظ بوزارة المال لوزير شيعي. إلا أن الآلة الإعلامية لـ”حزب الله” وبري قامتا بحملة ضد انتزاع حقيبة المال من الطائفة الشيعية. وشملت الحملة معطيات عن خيبة بري من زعيم تيار “المستقبل” سعد الحريري لتأييده إسناد وزارة المال لوزير غير شيعي، ومشاركته مع الرئيس المكلف ورؤساء الحكومات السابقين في اقتراح أسماء وزراء من الاختصاصيين من كل الطوائف، في وقت استبعد أديب الثنائي الشيعي عن التشاور في شأن أسماء الوزراء حتى الشيعة، ما أثار حفيظة بري. ونشرت وسائل إعلام مقربة من “الثنائي” معلومات بأنه قال كلاماً قاسياً في هذا الصدد للحريري حين التقاه السبت الماضي. بل إن أوساط الثنائي الشيعي الذي كان على علاقة مستقرة مع الحريري خلال السنوات الماضية وأصرّ على توليه رئاسة الحكومة قبل تسمية أديب لهذه المهمة، تحدثت عن توجّس من انضمام القيادة السنية وزعيم تيار “المستقبل” إلى الضغوط الأميركية على “حزب الله” وانحازت إلى واشنطن في موقفها منه، مقارنة بالمهادنة الفرنسية له، برفض باريس تصنيفه على لائحة التنظيمات التي يعتبرها الاتحاد الأوروبي إرهابية.
إلا أن الحريري على الرغم من الحملة الإعلامية على موقفه، تمسك برأيه الرافض لتخصيص وزارة المال للطائفة الشيعية، فكتب في تغريدة له الأربعاء في 16 سبتمبر: “وزارة المال وسائر الحقائب الوزارية ليست حقاً حصرياً لأي طائفة، ورفض المداورة إحباط وانتهاك موصوف بحق الفرصة الأخيرة لإنقاذ لبنان واللبنانيين”.
التفاف على نفوذ الحزب في السلطة
وتقول مصادر مواكبة لعملية تأليف الحكومة وعودة الثنائي الشيعي إلى التشدّد بمطلبيه إبقاء المالية مع وزير شيعي وتسمية الوزراء الشيعة من قبل “الثنائي” إن الفرقاء السياسيين المعارضين لـ”حزب الله” وسياسته تحيّنوا فرصة المبادرة الفرنسية من أجل الالتفاف على النفوذ الذي بناه الحزب في التركيبة اللبنانية على مدى السنوات الماضية. كما أن أوساط “الثنائي” شنت حملة على الرئيس المكلف أديب بأنه لم يتشاور مع بري أو الحزب في تركيب حكومته التي أنجزها من 14 وزيراً، وأن الاتصال الوحيد الذي جرى هو حين زاره المعاون السياسي لبري الوزير السابق النائب علي حسن خليل والمعاون السياسي للأمين العام لـ”حزب الله” حسين الخليل، لمطالبته بإسناد حقيبة المال لوزير شيعي، فلم يعطهما جواباً ليكتشف بري خلال لقائه مع الحريري، أن المداورة في الحقائب أفضت إلى إسناد المال لوزير سني فيما آلت وزارة الداخلية إلى وزير شيعي، ما أغضبه أكثر.
العقوبات الأميركية والاصطفاف المسيحي الجديد
ويضيف هؤلاء على ذلك بالقول إن الثنائي الشيعي شعر بسعي فرقاء في الداخل إلى التناغم مع الضغط الأميركي لتشديد الحصار على “حزب الله”، لا سيما بعد العقوبات التي استهدفت الحليفين المهمين للحزب، اليد اليمنى لبري النائب علي حسن خليل والوزير السابق يوسف فنيانوس المقرب من رئيس تيار “المردة” سليمان فرنجية.
وتعتقد أوساط سياسية عدة أن الثنائي الشيعي وجد أن من الضروري أن يتشدّد إزاء بروز اصطفاف مسيحي جديد ضده بعد إصرار البطريرك الماروني الكاردينال بشارة الراعي على مبادرته بإعلان حياد لبنان وانتقاده إقحام “حزب الله” البلد في صراعات المنطقة، ليأتي المؤتمر الصحافي الذي عقده الحليف الإبرز للحزب مسيحياً رئيس “التيار الوطني الحر” النائب جبران باسيل الذي بدا فيه أنه يقدم أوراق اعتماد سياسية إلى الجانب الأميركي، خوفاً من أن تشمله العقوبات الأميركية المقبلة (ترددت معلومات في بيروت أنها ستعلن بعد 3 أيام) أو أن تشمل شخصيات من “التيار الحر”. فباسيل أيّد المداورة الكاملة في الحقائب في حكومة أديب، رافضاً تخصيص أي حقيبة وزارية لطائفة، مع انتقاده عدم تشاور الرئيس المكلف معه في تأليف الحكومة وتأكيده قرار التيار عدم المشاركة فيها. وهو في هذا السياق رأى أن “التوقيع الثالث” غير دستوري، كما أنه تحدث عن ضرورة عودة “حزب الله” من سوريا، وعن ضرورة ترسيم الحدود البحرية والبرية بين لبنان وإسرائيل، الذي تضغط واشنطن لإتمامه، في وقت كان عُهد بهذا الملف إلى بري لتولّيه.
لم تفلح محاولة رئيس الجمهورية ميشال عون انتزاع المبادرة من الرئيس أديب حين أجرى استشارات مع الكتل النيابية على مدى يومين من أجل استمزاج رأيها بالمخارج، انتهت إلى تحقيق أهدافه التي كان رفضها الرئيس المكلف. فهو منذ تكليف الأخير يصرّ (وباسيل كذلك) على أن تكون الحكومة من 24 وزيراً لا من 14، بحجة أن تولّي الوزير الواحد أكثر من حقيبة غير منتج، وعلى أن تشترك الكتل في تسمية الوزراء حتى لو كانوا غير حزبيين، كما سمع من أكثرية ممثلي هذه الكتل، لكن هذه الأكثرية نفسها أصرّت على مبدأ المداورة الكاملة في توزيع الحقائب الوزارية على الطوائف، ما يعني إسناد وزارة المال إلى وزير غير شيعي، باعتبارها كانت في عهدة وزير من هذه الطائفة في الحكومات الأربع الأخيرة.
وهناك من يعتقد في أوساط بعض السياسيين الذين تابعوا تفاصيل الأيام الثلاثة الماضية، أن استمهال باريس الرئيس المكلف قبل الاعتذار قد يكون محاولة مستحيلة، لأن ما صعُب تحقيقه في الـ15 يوماً الماضية لن ينجز في 24 ساعة، إلا إذا كانت الرئاسة الفرنسية تراهن على اتصالات مع إيران كي تلعب دوراً مع “حزب الله” لتليين موقفه. وفي هذه الحال، فإن العقبة أمام الحكومة تكون إقليمية بعناوين ومطالب محلية.
وليد شقير
اندبندت عربي