مر الاجتماع الموسع الأخير للرئاسات العراقية وقادة الكتل السياسية مرور الكرام على الرغم من أهمية محاوره التي كانت موضع بحث ومناقشة، وما انطوت عليه من إنعكاس حقيقي لتحديات داخلية وخارجية. ففي يوم ٢١ من أيلول الجاري وبدعوة من رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي شهد القصر الحكومي إجتماعا لافتا ضم رؤساء الجمهورية برهم صالح ومجلس النواب محمد الحلبوسي ومجلس القضاء الأعلى فائق زيدان الى جانب قادة وزعماء الكتل السياسية الحاكمة، بغياب زعيمي دولة القانون نوري المالكي وكتلة الفتح هادي العامري، من دون أن تسلط عليه الأضواء الكافية، فقد انتهى الإجتماع طبقا لبيان المكتب الإعلامي لرئاسة مجلس الوزراء الى مناقشة ” آخر التطورات الأمنية والسياسية على الصعد الوطنية والإقليمية والدولية، وكذلك الموازنة الاتحادية، فيما ركز الاجتماع على أهمية إجراء الانتخابات النيابية المبكّرة المقبلة وضمان أن تكون حرة ونزيهة تراعي المعايير الدولية” بالإضافة الى ” ضرورة إسراع مجلس النواب بالتصويت على قانون الانتخابات الجديد بصيغته النهائية” كما “استنكر المجتمعون بشدة ودانوا كافة الاعتداءات على المنشآت العراقية والأجنبية التي شهدتها البلاد مؤخرا”.
لغة البيانات الرسمية لا تتناول التفاصيل وتدور عادة في فلك العموميات مهما اكتسب الإجتماع من أهمية، لذلك علينا هنا البحث في مدخلات ومخرجات هذا الإجتماع من خلال مايلي:
الانتخابات
بالرغم من أن المجتمعين يمثلون اكثر من ٢٦٠ مقعدا برلمانيا، الا أنهم وبحسب البيان يخاطبون الفاعل الغائب الذي ساهم في تأخير إقرار قانون الانتخابات، المتوقف تشريعه برلمانيا على تحديد الدوائر الانتخابية فقط ! والذي مازال يشهد جدلا سياسيا واسعا بين مختلف الأطراف. ولحسن الحظ هنا فأن الفرج قادم، حيث اجتمعت القوى الشيعية بدون إستثناء ليومين متتالين في مقر زعيم كتلة الفتح هادي العامري، بمشاركة خبراء مختصين في شؤون الانتخابات، وناقشت كيفية تحديد الدوائر الانتخابية بحثا عن المعادلة الأنسب لها، وتباينت الآراء بين الدائرة الواحدة التي كان تطالب بها دولة القانون الى الدوائر المتعددة التي يطالب بها تحالف سائرون، وبالنتيجة مضى التوجه نحو تعدد الدوائر بأحجام متوسطة حسب المحافظة مع الأخذ بعين الاعتبار الكوتا النسائية، وبدا أن الحل الأمثل يتركز على دائرة لا تقل عن ٣ مقاعد ولا تتجاوز ٥ مقاعد، أو دوائر بأحجام بين ٥ – ٧ مقاعد. ولا يوجد اتفاق نهائي بهذا الشأن حتى اللحظة، وقد تشهد جلسة البرلمان التي دعا اليها رئيس المجلس يوم ٢٧ أيلول موقفا حاسما بعد الاتفاق المتوقع بين الكتل الشيعية في غضون اليومين القادمين.
وعلى صعيد متصل يبدو أن عقدة المحكمة الاتحادية لازالت قائمة، حيث ناشد المجتمعون بالقصر الحكومي الفاعل الغائب ثانية ب ” ضرورة الاسراع في تشريع قانون تعديل قانون المحكمة الاتحادية” بالرغم من حضور المعنيين بهذا الموضوع لهذا الاجتماع.
اما بخصوص توقيت الانتخابات، فأنه لا يوجد اتفاق لحد الان، وكل ما يطرح عن الانتخابات المبكرة لا يتعدى عن كونه مجرد شعارات لكسب ود الشارع المنتفض والمطالب بإجراء مبكر للإنتخابات الموعودة، فمع إكمال تشريع قانون الإنتخابات المؤجل تبقى المفوضية العليا المستقلة تعاني من عدم توفر التخصيصات المالية. وفيما أكد الإجتماع “على لزوم اعتماد البطاقة البايومترية حصرا للتصويت في الانتخابات المقبلة”، فأن هذا يعني تحديث بيانات ١٠ ملايين ناخب وإصدار بطاقاتهم البايومترية، ويرى الخبراء ان هذا الاجراء شبه مستحيل في غضون بضعة أشهر، لأن العملية بحاجة الى ما لا يقل عن ١٢ – ١٨ شهرا.
التقاطع بين التحالفات
تعيش الأحزاب وسط تجاذبات سياسية، لذلك نرى خطوط وجبهات واضحة المعالم، فالتقسيمات السياسية باتت تتضح عبر خطها البياني الشفاف. هناك محاولات جدية حول تشكيل تحالفات كبيرة عابرة للطائفية والقومية لدخول الانتخابات على مستوى العراق، حيث لا توجد أحزاب لديها جمهور على مستوى البلد وتبقى هذه الأحزاب محدودة في النطاق الجغرافي والجماهيري، حيث ان الأحزاب الشيعية تعمل ضمن نطاق المحافظات الشيعية والمختلطة مثل بغداد و ديالى وصلاح الدين والموصل، بينما يتنافس الكورد في محافظات الإقليم الثلاثة بالإضافة الى كركوك ونينوى وديالى، اما السنة، فأنهم ينافسون الشيعة او الكورد في بغداد وديالى وبابل بالإضافة الى سيطرتهم على المحافظات السنية الثلاث.
ستكون التحالفات العابرة للطائفية فكرة ممتازة ومتاحة في هذه الانتخابات كون النظام الانتخابي تغير وإمكانية الأحزاب الصغيرة على التنافس أصبحت اقل، حيث يجب ان يركز أي حزب على مناطق نفوذ محدودة وهذا يعني انه لا يستطيع ان يستقطب ناخبين بما يكفي لعبور عتبة الفوز، والأفضل له ان ينضم لتحالفات اكبر مبكرا وان يعمل مع الأحزاب المنضوية في هذه التحالفات لتحديد مناطق الانتخاب ومرشحيهم. كما ان تحديد القائمة الأكبر في الجلسة الأولى في البرلمان ستكون الكتلة الفائزة بأكبر عدد من المقاعد والمُشَكَلة قبيل الانتخابات وليس بعدها وهذا دافع جديد اخر لتشكيل القوائم الكبيرة العابرة للطائفية والقومية.
التحالفات الكبيرة ستتشكل على أساس التوجه المشترك او المتقارب ولعل المنافسة ستكون بين تيارين او اتجاهين، الأول يمثل التيار الليبرالي او المعتدل والمعروف بانفتاحه على التيار المدني بشكل مؤكد، ومؤيد للتفاهم مع المجتمع الدولي بشكل مباشر ولا يعارض تواجد القوى الأجنبية على الأراضي العراقية لمحاربة داعش بشرط الاتفاق مع الحكومة. والقوى السياسية التي ترى نفسها في هذه الجبهة هي ( عراقيون – كتلة النصر ) وبعض الشخصيات المستقلة والقوى السياسية الجديدة والمعتدلة من القيادات الشيعية، الكتل الكوردية بشكل عام مع التحفظ من قبل البعض، الكتل السنية بشكل عام ولكن بدون الإعلان البعض منهم عن أي انتماء في الوقت الحالي.
أما التيار الثاني والمعروف بالتيار المحافظ او المتشدد الذي يؤيد بقاء الحكم بيد الأحزاب الإسلامية وسيسعى الى الابقاء على انغلاقه بوجه المجتمع الدولي عبر اصراره بالمطالبة بخروج القوات الأجنبية من العراق تماشيا مع السياسة الإيرانية المطالبة بإبعاد القوات الامريكية من الأراضي العراقية بأي شكل من الأشكال. ويتمثل هذا التيار بدولة القانون، وكتلة الفتح التي تنضوي تحت رايتها العصائب وبدر وسند، بالإضافة الى المجموعات الصغيرة وبعض الشخصيات، وقد يستقطب هذا التيار بعض الشخصيات السنية ولكن من الصعب ان يستقطب القوى الكوردية قبل الانتخابات وهذا لا يمنع التحالف معه بعد الانتخابات كما حصل عام ٢٠١٨.
وهناك تيار ثالث يقف بالمنتصف، وقد يحاول جذب الكتل الصغيرة والمتوسطة ولكنه غير مستعد على ما يبدو للانجرار نحو تشكيل التحالفات العابرة الكبيرة، والمتمثل بكتلة سائرون بزعامة مقتدى الصدر، والتي تسعى الى ان تكون الكتلة الأكبر وبيضة القبان بين الليبراليين والمحافظين، والذي سيمكنها من تحديد وتسمية رئيس مجلس الوزراء القادم وبالتالي التحكم مستقبلا بالمشهد السياسي.
المسؤولية الوطنية
اللافت في بيان اجتماع القصر الحكومي هو أن المجتمعين (وهم زعماء وقادة البلد من كل المكونات) يناشدون ويتمنون ويستنكرون وكأن الأمور ليست بأيديهم، وهم ليسوا بأصحاب القرار، بالرغم من هيمنتهم على اكثر من ٢٦٠ مقعدا برلمانيا. ويرى مراقبون ان القيادات السياسية بدت وكأنها لا تريد ان تتحمل مسؤوليتها الوطنية في مواجهة التحديات القائمة، كونها غير جادة في تصحيح المسار السياسي والاقتصادي والأمني بدليل ما جاء في البيان “استنكر المجتمعون بشدة وادانوا كافة الاعتداءات على المنشآت العراقية والأجنبية التي شهدتها البلاد مؤخرا، بما فيها إطلاق صواريخ استهدفت مرافق دبلوماسية رسمية ومنازل مواطنين أبرياء. معتبرين أن هذه الاعتداءات مهما كان مصدرها تمثل اعتداءات أثمة على السيادة الوطنية ومصالح الشعب العراقي”.
اذا كان اهل الحل والعقد وفي مثل هذه الإجتماعات المفصلية يستنكرون هكذا اعمال، فما بال المواطن والمراقب؟ في حين أن عليهم أن يعملوا على عدم تكرار ما وصفه البيان من ” اعتداءات آثمة على السيادة الوطنية ومصالح الشعب العراقي” وليس خافيا ان ما يعنونه هي الهجمات التي لحقت بالبعثات الدبلوماسية في الآونة الأخيرة وخصوصا التصعيد في القصف الصاروخي على المنطقة الخضراء من دون إمكانية كشف الفاعلين او إلقاء القبض عليهم.
كما ان مخاطبة الفاعل الغائب لن يجدي نفعا ويجب ان يعملوا بجد اكبر على إقرار قانون الانتخابات واكمال تعديل قانون المحكمة الاتحادية المعطل والضروري لإستمرار المسيرة الديموقراطية، لأن نتائج الانتخابات لن تتم المصادقة عليها دون وجود هذه المحكمة، الى جانب كونها المؤسسة الوحيدة القادرة على منع الخروقات الدستورية والتي نشهدها بين حين وآخر.
لقد بات الجميع يدرك بأن العراق يغلي على صفيح ساخن، وقد ينفجر الوضع الداخلي بالتزامن مع تدهور الوضع الإقليمي، وفي ظل أزمة مالية خانقة، وعجز مالي حقيقي يصل الى ٤ تريليونات دينار شهريا، وليس هناك من سبيل حقيقي لزيادة الإيرادات، بإنتظار إقرار قانون الموازنة والاقتراض من البنك المركزي، مما يشكل تحديا خطيرا لقيمة الدينار العراقي، واحتمال اضطرار البنك لتعويم الدينار، والذي سيؤثر على معيشة الأفراد وسط نقص متنامي في البطالة وتلكؤ الحكومة في صرف الرواتب، حيث ان الأموال التي في جيبهم ستكون اقل قيمة من ذي قبل بنسبة لاتقل عن ٢٥ الى ٣٠ بالمائة، مع غلاء الأسعار وارتفاع قيمة السلع في الأسواق.
أن الحكومة ومعها القيادات السياسية أمام امتحان هو الأصعب، والذي لا تنفع معه لغة الشعارات والتسويف، لذا فان الهروب الى الامام لم يعد مجديا ولا يمكن معالجة الازمات بخلق أزمات أكبر، وأن على الجميع أن يضع مصلحة العراق فوق كل المصالح الذاتية والحزبية، والعمل معا لتصحيح المسار. وأن أولى هذه الحلول هو إقرار قانون الانتخابات بشكل حقيقي ومعالجة كل الثغرات، وتعديل قانون المحكمة الاتحادية وإعلان واقرار ورقة الإصلاح السياسي والاقتصادي ومعالجة التحديات الأمنية بما يحقق الأستقرار المنشود وتأمين البيئة المناسبة لإجراء إنتخابات حرة ونزيهة وشفافة.
فرهاد علاء الدين
رووداو