قال المُنتقدون إن الطائرات المُقاتلة الروسية من طراز “سو – 30 إس إم” تُعتبر إسرافاً، وإنَّها تفيض كثيراً عن حاجة جمهورية أرمينيا الدفاعية الصغيرة، لكنَّ الحكومة السابقة في يريفان التزمت بشراء نحو 12 طائرة من هذا الطراز من روسيا مقابل تسهيلات كبيرة في الدفع، على الرغم من تكلفة الصيانة والتدريب. وآخر ما تحتاج إليه الحكومة الجديدة لرئيس الوزراء نيكول باشينيان هو إثارة مشاكل مع الكرملين الذي كان راعي سلفه الأساسي.
لكن الطائرات المقاتلة اكتسبت معنى جديداً كلياً في أبريل (نيسان) حين أعلنت جارة أرمينيا وعدوها اللدود أذربيجان عن نيتها شراء مقاتلات حربية من طراز “سو – 30 إس إم” كذلك، التي تنتجها شركة سوخوي الروسية لتصنيع الطائرات بقيمة 50 مليون دولاراً للطائرة الواحدة.
وبحلول منتصف يوليو (تموز)، حين اندلعت الاشتباكات بين أرمينيا وأذربيجان، أُرسلت المقاتلات التي هزئ منها البعض مُعتبراً إياها صفقة غير مبررة سريعاً لتُحلِّق فوق منطقة النزاع.
وبدأ الصراع بين البلدين منذ 30 عاماً خلت، ودار إجمالاً حول جيب ناغورنو قره باغ (قرة باغ) المنفصل، باستخدام الأسلحة الخفيفة ومدافع الهاون الصدئة التي تعود إلى الحقبة السوفياتية، لكن بفضل سنوات من شراء الأسلحة يمتلك البلدان ترسانة هائلة من الدبابات الحديثة ومدافع هاوتزر والطائرات المسيّرة والأنظمة المتقدمة المضادة للطائرات؛ ما يُزيد من هول المأساة التي قد تنجم عن أي مواجهة بينهما.
ويقول بيتر لياخوف، محرر المنصة الإخبارية “أو سي ميديا” OC Media التي تُركِّز على شؤون القوقاز “إن وجود عدد أكبر من الأسلحة بقدرات تدميرية مضاعفة يزيد مخاطر النزاع. وشهدت أوائل تسعينيات القرن الماضي حرب خنادق واقتتال بين أشخاص يحملون بنادق هجومية. يُخيفني التفكير في شكل الحرب المفتوحة بوجود الترسانة الحربية التي يمتلكها البلدان حالياً”.
ويعود الصراع المُنفلت من كل عقال بين أرمينيا وأذربيجان إلى أنظمة الهندسة الاجتماعية الشيوعية التي وُضعت منذ قرن مضى. وقد بلغت التوترات العرقية والقومية حدَّ اندلاع الحرب (بين عامي 1992 و1994) بين البلدين المستقلَّين حديثاً على إقليم ناغورنو قره باغ، وهو جيب داخلي تُقدَّر مساحته بـ1700 ميل مربَّع يقع تحت سيطرة أرمينيا، ويبلغ عدد سكَّانه 3 ملايين شخص، لكنه مُحاط بأذربيجان التي تُطالب به، ويبلغ عدد سكانها 9 ملايين نسمة.
ووقعت اشتباكات متفرِّقة حول هذا الجيب منذ عقود. وأوقعت حرب اندلعت في عام 2016 أكثر من 100 قتيل معظمهم من العسكريين، لكن بعضهم من المدنيين. وتبادل الطرفان الاتهامات بشأن الجهة المسؤولة عن إشعال فتيل القتال. وأطلقت أرمينيا قذائف الهاون والصواريخ. فيما أرسلت أذربيجان مقاتلاتها الحربية ودباباتها. واستخدم الطرفان الطائرات المُسيَّرة. وتوسَّطت روسيا من أجل وقف إطلاق النار بسرعة وانتهى القتال في غضون أيام.
لكن القُدرات الحربية الجديدة التي اكتسبها البلدان بعد شرائها من القوى العالمية رفعت مخاطر أي نزاع وزادت المخاوف من أن يؤدي أي اشتباك جديد إلى نتائج كارثية. كما أن أصل الاشتباكات التي اندلعت في 14 يوليو مُبهم كذلك، لأن كل طرف يحمِّل الآخر مسؤولية إثارة النزاع. وخلَّف القتال نحو 17 ضحية وهجَّر مئات العائلات. وبين القتلى ضباط كبار في الجيش الأذري، منهم جنرال محبوب ولديه شعبية واسعة. وما يحمل دلالات أكبر هو تركُّز الصراع في مقاطعتي توفوز وتافوش المُحاذيتين لناغورنو قره باغ، على 200 ميل شمال غربي الإقليم، ما يشير إلى توسُّع رقعة الصراع.
وقال ريتشارد غيراغوسيان، مدير مركز الدراسات الإقليمية في يريفان، وهو موظف سابق في مجلس الشيوخ الأميركي “كان الحدث فريداً من نوعه ومهمّاً، لأن الأمر لم يعُد يتعلق بناغورنو قره باغ فقط. ما حصل هو مواجهة بين أرمينيا وأذربيجان”.
ومع أن الاقتتال لم يدُم سوى بضعة أيام، غير أنه أوشك أن يخرج عن السيطرة بسُرعة. وبينما دار الصراع، تباهى الناطق باسم وزارة الدفاع الأذرية، واقف درغاهلي، بقدرة الصواريخ دقيقة التوجيه التي تمتلكها باكو، وهي من أكثر الصواريخ تقدماً ابتاعتها من إسرائيل في عام 2018، على استهداف محطة متسامور الأرمينية للطاقة الذرية التي بَنَتها روسيا “ما قد يؤدي إلى كارثة أكبر في أرمينيا”.
تمتدُّ عبر مقاطعة توفوز بِنَى تحتية بالغة الأهمية بالنسبة لأذربيجان في مجالات الطاقة والاتصالات والنقل، وكان باستطاعة أرمينيا أن تستهدف أنابيب النفط والطرقات بسهولة.
بعد يومين من إجراء أذربيجان وحليفتها الوفية تركيا يوم 29 يوليو مناورات عسكرية مقررة منذ فترة طويلة، أعلنت أرمينيا عن إجراء تمارين مفاجئة بهدف تعزيز جاهزيتها القتالية. ويوم الجمعة، جال وزير الدفاع الأرميني في إقليم ناغورنو قره باغ، حيث استعرض امتلاك بلاده منظومة جديدة متنقلة للصواريخ الباليستية نُشرت في المنطقة.
وقال حكمت حاجيات، أحد مستشاري الرئيس الأذري إلهام علييف “إن اندلاع نزاع في أي وقت قد يُحدث اضطرابات كبيرة. نتابع مواصلة الجانب الأرمني تملُّك المعدات العسكرية لهدف واحد هو الإبقاء على واقع الاحتلال كما هو”. لكن الأرمن يتهمون الأذريين بأنهم من المحرك الرئيسي للصراع بسبب رفض باكو القبول بشروط بروتوكول بيشكيك لوقف إطلاق النار الذي وُقِّع في عام 1994 ووَضَعَ حدّاً لسنوات من الاقتتال. ويقول أليكس ميليكيشفيلي، أحد محللي الأبحاث الرئيسين في شركة استخبارات الأعمال “آي إتش إس ماركت” التي تتخذ من لندن مقراً لها “بشكل عام، نحن أمام بلدين أحدهما غير راضٍ عن الوضع الراهن”.
وزاد البلدان خلال السنوات الأخيرة إنفاقهما العسكري. وقد وصل إنفاق أذربيجان الغنية بالنفط والغاز على قواتها المسلَّحة إلى مستويات غير مسبوقة؛ إذ بلغ نحو 1.854 مليار دولار أميركي في عام 2019. وفي المقابل سجَّل الإنفاق العسكري في أرمينيا مستويات قياسية، إذ بلغ 647 مليون دولار أميركي في عام 2019، أي ما يُعادل خمسة في المئة تقريباً من إجمالي الناتج المحلي، وهي نسبة بين الأعلى في العالم.
ويقول ميليكيشفيلي “يجري سباق تسلُّح في جنوب القوقاز منذ فترة بعيدة. وما شهدنا عليه هو تطور مهم في الصراع العسكري. ولا شكَّ أن تجارة السلاح لا تساعد في هذا الموضوع”.
يقول الخبراء إن كلا البلدين يمتلك ما يكفي من القدرات العسكرية كي يعيث الخراب في عاصمة البلد الثاني وبنيته التحتية الأساسية في حال اندلاع حرب شاملة بينهما. لدى أذربيجان بعض عوامل التفوق؛ إذ يمكنها شراء أسلحة متقدمة بأسعار السوق من إسرائيل وتركيا وبيلاروسيا، لكن أرمينيا، العضو في منظمة معاهدة الأمن الجماعي التي تقودها موسكو، تستطيع اقتناء الأسلحة الروسية بأسعار مخفَّضة جدّاً.
وتوضح أوليسيا فارتانيان، المختصة بشؤون القوقاز في مجموعة حل النزاعات Crisis Group، وهي منظمة مقرُّها بروكسيل وتدعو إلى حلِّ النزاعات “ما يمتلكانه يكفي لتدمير البلدين”.
ومع أن الروس وغيرهم يزوِّدون البلدين بالسلاح – على الرغم من أن منظمة الأمن والتعاون في أوروبا دعت إلى الامتناع عن إجراء مثل هذه الصفقات – قليلة هي البلدان، إن وُجدت أصلاً، التي ترغب في اندلاع حرب شاملة في القوقاز. وتزدهر روسيا بفضل الصراعات المُجمَّدة مثل صراع ناغورنو قره باغ وغيره من الجيوب المماثلة في أوكرانيا ومولدوفا، حيث تستطيع فرض تأثيرها ونفوذها وتوفير ملاذ لعُملائها يمكِّنهم من تبييض الأموال وبيع الأسلحة.
ويقول السفير الأميركي السابق لدى أذربيجان ماثيو بريزا “إن هدف روسيا الأوَّلي هو جني المال. لا تريد للصراع أن يخرج عن السيطرة، بل تريده أن يبقى على نار هادئة من دون أن يغلي”.
وتشمل الإضافات الأخيرة في الترسانة العسكرية الأذرية المقاتلات المُسيَّرة الإسرائيلية من طراز “سكاي سترايكر” القادرة على شن ضربات انتحارية “كاميكازي” بعيدة المدى. ومن مقتنياتها الحديثة أيضاً صواريخ باليستية وطائرات مراقبة مُسيَّرة إسرائيلية، وراجمات صواريخ تكتيكية بيلاروسية، وطائرة باكستانية للتدريب العسكري، ومدرَّعات وأنظمة تركية مضادة للطائرات المُسيَّرة، وبنادق قنص جنوب أفريقية وناقلات جنود روسية من طراز “BTR-82A”.
ويضيف ميليكيشفيلي “يمتلك الطرفان صواريخ باليستية. ويمكن لكل واحد منهما أن يستهدف البنية التحتية الأساسية للثاني. ولا يمتلك أي منهما منظومة جوية دفاعية قوية يمكنها حمايته”.
وما يزيد من مخاطر اندلاع صراع بين الجانبين هو الضغوط الداخلية في كلا البلدين. فالحكومة الأرمينية الجديدة التي تسلَّمت مقاليد الحكم في عام 2018 في أعقاب اندلاع تظاهرات ضد الحاكم الذي أمسك بزمام السلطة لوقت طويل في البلاد، تصارع من أجل ترسيخ موقعها وسط المشاكل الاقتصادية وتوتُّر العلاقات الدبلوماسية مع الكرملين وأسوأ تفشٍّ لفيروس كورونا في القوقاز. أما أذربيجان فتنوء تحت وطأة الاستياء الداخلي جرَّاء انخفاض أسعار الطاقة، الشريان الرئيس للاقتصاد. وقد دفع القتال بالمتظاهرين في باكو إلى المطالبة باستقالة وزير الدفاع بسبب الافتقار إلى الكفاءة والفساد.
وتسأل المُراسلة والمُعلِّقة الأذرية أرزو غايبالاا “تستعرض الحكومة هذه الأسلحة، وهذا العتاد العسكري الذي اشترته من إسرائيل وتركيا، لكن ما نراه هو جنود ما زالوا يُقاتلون باستخدام معدات حربية عفا عليها الزمن. أين تُنفق هذه الأموال فعلاً؟”.
وفي انعكاس للانفعال الذي يُثيره هذا النزاع، شهدت لندن وبروكسل وموسكو ولوس أنجلوس اندلاع مواجهات بين جاليتي البلدين.
وبعيداً عن العواصم الأجنبية الثرية، على طول الخطوط الأمامية الفاصلة بين أذربيجان وأرمينيا، لا يجلب الصراع سوى المآسي، ويُعزّز اتجاه الهجرة المدنية وهجرة الأدمغة. بعد أن كانوا جيراناً وأصدقاء، شبَّ جيل كامل من الأرمن والأذريين من دون أن يعرف شيئاً عن الآخر سوى أنه عدو وغريب.
وتقول فارتانيان “يعيش الناس على مقربة من الخنادق. عندما تستيقظ صباحاً، تسمع الجنود يصيحون بلغة أخرى. هذه مأساة إنسانية لأنك مضطر للتعايش مع أمر بدأ قبل ولادتك بكثير، وتعي أنه لن يُحلَّ خلال حياتك”.
اندبندت عربي