الإشتباكات الجارية في إقليم ناغورنو كاراباخ بين أرمينيا وأذربيجان مختلفة هذه المرّة عن سابقاتها التي جرت منذ توقفت الحرب بينهما عام 1994، وباتت تُنذر بتحوّلها إلى حرب جديدة، مفتوحة وواسعة، بين الدولتين، في ظل وجود قوى دولية وإقليمية داعمة لكلا الطرفين، سواء بشكل مباشر أم غير مباشر، وخصوصا روسيا وفرنسا اللتين تدعمان أرمينيا، وتركيا التي تدعم أذربيجان. وفور اندلاع المعارك، جرى إعلان حالة التعبئة العامة والأحكام العرفية في كل من أذربيجان وأرمينيا وإقليم ناغورني كاراباخ، وتعهّد الرئيس الأذري، إلهام علييف، بالإنتصار على القوات الأرمينية، معتبراً أن “الجيش الأذري يقاتل على أرضه”، بينما خاطب رئيس الوزراء الأرميني، نيكول باشينيان، الشعب الأرميني، بالقول “استعدّوا للدفاع عن أرضنا المقدّسة”.
ولم تلقَ الدعوات الدولية والأممية إلى وقف المعارك والعودة إلى طاولة المفاوضات آذاناً صاغية لدى ساسة البلدين، ووضعوا شروطاً على عروض الوساطة الدولية، على الرغم من أن الحروب السابقة بينهما أثبتت استحالة حسم قضايا النزاع عسكرياً، لكن الإحتكام السريع إلى لغة السلاح يشي بوجود محاولات لدى ساسة البلدين للتهرّب من استحقاقات وأزمات داخلية، إلى جانب تدخلات خارجية. ومع ذلك، حتى لو توسّعت دائرة المعارك بين الدوليتن، وتحوّلت إلى حربٍ جديدة بينهما، فإن القوى الدولية والإقليمية ستحرص على إدارته، ولملمة إرهاصاته، بحيث لا تفيض خارجا إلى حدود مناطق الاشتباك العسكري بين الدولتين، وبالتالي الخاسر الأكبر فيه هو كل من الشعبين، الأذري والأرميني.
لاعبون دوليون
وفي كل مرّةٍ يندلع فيها الصراع بين أرمينيا وأذربيجان عسكرياً، تتجه الأنظار إلى اللاعبين الدوليين، وطريقة مواجهة بعضهم بعضا، وإلى كيفية إدارتهما له، حيث لا يخلو الأمر من ربط مجرياته بجملة من العوامل المتعلقة بالمصالح وصراع النفوذ على الطرق الدولية وخطوط الإمداد بالبترول والغاز الطبيعي، وبالتطورات في الملفات الإقليمية الأخرى بين اللاعبين الإقليميين والدوليين في منطقة شرقي البحر الأبيض المتوسط وليبيا وسورية وسواها من الملفات.
الدعم الدولي لكل من الدولتين ينذر بتحول المناوشات إلى حرب مفتوحة وواسعة
ويبرز الدور الروسي في النزاع من خلال سعي ساسة الكرملين إلى ضمان نفوذ بلادهم في منطقة القوقاز عموماً، لذلك يحرصون دوماً على يكونوا اللاعب الأساسي في أوضاع السلم والحرب في المنطقة، بينما يعتبر الساسة الأتراك أذربيحان في قلب اهتماماتهم الجيوسياسية والاقتصادية، فيما دخلت فرنسا على خط الصراع من باب مناكفة الدور التركي فيه، على خلفية الخلافات معها في منطقة شرقي البحر الأبيض المتوسط.
ويتجسّد الاهتمام الروسي في إعطاء منطقة القوقاز أولوية أمنية وعسكرية قصوى بالنسبة إلى روسيا، بوصفها ساحة نفوذ لها، حيث تربطها علاقات شراكةٍ إستراتيجيةٍ مع أرمينيا، وتحاول، في الوقت نفسه، الإبقاء على علاقاتها مع أذربيجان، بينما تعتبر تركيا أذربيجان دولة شقيقة بالنسبة إليها، وتشاركها التاريخ واللغة والثقافة، وترتبط معها بجملة اتفاقيات اقتصادية وتجارية مهمة. أما الدور الفرنسي، فيجسّده اهتمامٌ مستجدٌّ بمنطقة جنوب القوقاز، لكن محرّكه الأساسي هو توتر علاقاتها مع تركيا في ملفاتٍ أخرى، فيما تنقسم مواقف دول الإتحاد الأوروبي حياله، وتتعامل معه من زاوية تضرّر المصالح الأوروبية من حالة عدم الاستقرار في المنطقة. أما إيران فتربطها علاقاتٌ وثيقةٌ مع أرمينيا، مقابل تنامي علاقات أذربيجان مع إسرائيل، وخصوصا في الجانب العسكري. إضافة إلى سعي أذربيجان إلى توثيق علاقاتها مع الولايات المتحدة الأميركية.
بؤرة الصراع وجذوره
ويشكل إقليم ناغورني كاراباخ بؤرة توتر دائمة بين أرمينيا وأذربيجان، منذ إعلان قادة الإقليم استقلاله عن أذربيجان في عام 1991، وهي قابلة لإشعال حروبٍ بين البلدين، بالنظر إلى تراكم الخلافات التاريحية بينهما، وسيادة خطابات الكراهيات المتبادلة. إضافة إلى أن المبادرات الدولية والقرارات الأممية السابقة، الداعية إلى وقف إطلاق النار وحل النزاع سلمياً، لم تجد طريقها إلى التطبيق على الأرض، حيث لم تنجح “مجموعة مينسك”، المنبثقة عن منظمة الأمن والتعاون الأوروبية منذ 24 عاماً في إيجاد حلّ يرضي الطرفين، على الرغم من تولي رئاستها المشتركة كل من روسيا والولايات المتحدة وفرنسا، الأمر الذي أبقى الوضع قابلاً للانفجار مع كل توتّر بينهما، خصوصا وأن للصراع بين أرمينيا وأذربيجان امتداداته الجيوسياسية وإرهاصات إقليمية مرتبطة بملفات أخرى في منطقة القوقاز، وبملفات منطقة الشرق الأوسط، الأمر الذي يثير خشيةً من تحوله إلى حربٍ بالوكالة بين الدول المتدخلة فيها، بغية تصفية الحسابات مع بعضها في قضايا وملفاتٍ أخرى، ذلك أن النزاع الأذري الأرميني على الإقليم لم تعد تغذّيه خطابات التعنت العرقي والقومي فقط، بل باتت تحكمه مسارات الصراع الجيوسياسي في منطقة القوقاز أيضاً، مع وجود لاعبين إقليميين ودوليين كثر.
تركيا تعد أذربيجان دولة شقيقة، تشاركها التاريخ واللغة والثقافة، وترتبط معها بجملة اتفاقيات اقتصادية وتجارية مهمة
غير أن جذور النزاع بين أرمينيا وأذربيجان تعود إلى عام 1921، عندما قرّر ساسة الاتحاد السوفييتي المندثر حل المسألة القومية على طريقتهم، عبر وضع قنبلتين موقوتتين في كلتا الدولتين، من خلال ضم إقليم “ناغورني كاراباخ” ذي الأغلبية الأرمنية إلى أذربيجان، مقابل ضم منطقة “ناخيتشيفان” الأذرية إلى أرمينيا، ومنحهما وضع “الحكم الذاتي”. ومع بدء تفكّك الاتحاد السوفييتي وانهياره، انفجرت أغلب القنابل الموقوتة في منطقة القوقاز وسواها، عبر محاولات الانفصال التي استجلبت عمليات متبادلة من القتل والتصفيات العرقية للأقليات، إضافة إلى أعمال التهجير الجماعي القسرية، وصولاً إلى اندلاع حربٍ شاملةٍ بين أرمينيا وأذربيجان عقب إعلان الإقليم استقلاله عن أذربيجان عام 1991، وإعلان ساسته قيام “جمهورية ارتساخ” غير المعترف دولياً بها. واستمرّت الحرب بين البلدين حتى مايو/ أيار عام 1994، لكنها توقفت من دون التوصل إلى اتفاق سلام بينهما. وعلى الرغم من توقيعهما، في نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2008، على إعلانٍ يدعو إلى تسويةٍ سلميةٍ للنزاع بينهما، إلا أن الاشتبكات والمعارك لم تتوقف، حيث تجدّدت في أغسطس/ آب 2014، ثم في عام 2016، وصولاً إلى يوليو/ تموز الماضي.
سوق التسلح
ومع طول أمد الصراع بين أرمينيا وأذربيجان، واندلاع حروب عديدة بينهما، تحول البلدان إلى سوق للتسلح، فراح كل منهما يسعى إلى زيادة وتيرة تسلحه، والاستعداد لخوض حرب مقبلة على حساب لقمة عيش الشعبين، الأذري والأرميني. واعتمدت أذربيجان في ذلك على عائداتها المرتفعة من النفط والغاز، فيما راحت أرمينيا تشتري الأسلحة اعتماداً على قروض من روسيا، إذ تتحدّث تقارير دولية عن إرسال روسيا شحنات من الأسلحة إلى أرمينيا على شكل منح، وفي الوقت نفسه، أوعزت إلى الشركات الخاصة الروسية بتكثيف بيع الأسلحة لها، حيث أورد تقرير للجنة الدفاع في مجلس الدوما الروسي عام 1997، أن قيمة الأسلحة التي تبرّعت بها روسيا لأرمينيا بين 1993 و1996 بلغ مليار دولار. وكشف الرئيس الأرميني السابق، سيرج سركسيان، في 19 أغسطس/ آب الماضي، أن روسيا أرسلت أكثر من 50 ألف طن من الأسلحة إلى أرمينيا ما بين عامي 2010 و2018.
تعمل في أذربيجان حوالي 700 شركة روسية في مجالات الصناعة والبناء والتجارة والخدمات والبنوك والاتصالات والنقل والزراعة
وتنشر روسيا خمسة آلاف جندي في قاعدة غيومري في أرمينيا، ووقعت معها اتفاقية للدفاع الجوي المشترك في ديسمبر/ كانون الأول 2015، كما نشرت فيها سرباً من طائرات ميغ 29 المقاتلة، إلى جانب مدرّعات ثقيلة، وأنظمة دفاع جوية وصاروخية بعيدة المدى من طراز “إس – 300″، وأخرى متوسطة المدى من طراز “إس إي – 6”. ولا يقتصر بيع الأسلحة الروسية على أرمينيا، بل يطاول أذربيجان أيضاً، حيث باعت كلتا الدولتين مدفعية صاروخية حرارية من نوع “TOS-1″، ودبابات من نوع “T-90″، وباعت أذربيجان طائرات هليكوبتر مدرعة من نوع “Mi-35M”. وتعتمد أذربيجان في تسليحها على دول عديدة، من بينها تركيا، حيث اشترت منها دبابات “ألطاي” وطائرات هليكوبتر من نوع”T129 ATAK” وطائرات استطلاع بدون طيار من نوع بيرقدار وسوى ذلك. كما تعتمد على إسرائيل، حيث بيّنت تقارير دولية أنها اشترت أسلحة إسرائيلية في عام 2012 بقيمة 1.6 مليار دولار. وقد أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، أن أذربيجان اشترت أسلحة إسرائيلية بقيمة خمسة مليارات دولار في عام 2016، تضمنت طائرات من دون طيار وأنظمة أقمار صناعية، بينما أورد تقرير لمعهد استوكهولم الدولي لأبحاث السلام أن أذربيجان اشترت في عام 2017 ما قيمته 127 مليون دولار من التكنولوجيا العسكرية الإسرائيلية.
أبعاد اقتصادية
ويبدو أن المخاوف الدولية والإقليمية من تحوّل النزاع الأذري الأرميني إلى حربٍ واسعة ليس مردّها الحرص على دماء الشعبين، بل إلى جملةٍ من المصالح الجيوسياسية والاقتصادية، المرتبطة بحقول النفط والغاز الطبيعي الأذرية في بحر قزوين، إضافة إلى أن منطقة جنوب القوقاز تعتبر حيوية، بوصفها حلقة وصل لطرق برّية دولية بين آسيا وأوروبا. كما يقع في أذربيجان خطان لنقل النفط والغاز من أذربيجان، ويمرّان عبر القوقاز وصولاً إلى أوروبا، الساعية إلى تقليل الاعتماد على الغاز الروسي. وكلاهما يمرّان بالقرب من الإقليم المتنازع عليه.
تنشر روسيا خمسة آلاف جندي في قاعدة غيومري في أرمينيا، ووقعت معها اتفاقية للدفاع الجوي المشترك في ديسمبر 2015
وتعتبر أرمينيا أحد الحلفاء الاستراتيجيين والاقتصاديين لروسيا، حيث تحوز روسيا على ما يقارب 40% من حجم الاستثمارات الأجنبية فيها. في المقابل، ووفقاً لتقديرات معهد الاقتصاد في أكاديمية العلوم الروسية، تتراوح قيمة التحويلات الخاصة المحوّلة من روسيا إلى أذربيجان ما بين 1,8 إلى 2,4 مليار دولار سنوياً. كما تعمل في أذربيجان حوالي 700 شركة روسية في مجالات الصناعة والبناء والتجارة والخدمات والبنوك والاتصالات والنقل والزراعة وغيرها. ووصل حجم التبادل التجاري بين أذربيجان وروسيا إلى 2.5 مليار دولار في العام 2019.
أما تركيا، فتربطها مصالح خامة في كل القطاعات الاقتصادية مع أذربيجان، حيث تعتمد تركيا على أذربيجان مصدرا رئيسا للطاقة، وخصوصا الغاز الطبيعي، ومكّنها ذلك في خفض اعتمادها على الغاز الروسي. وجرى في نوفمبر/ تشرين الثاني 2019 تنفيذ مشروع نقل الغاز الطبيعي “تاناب” من أذربيجان إلى تركيا، والذي يُعد من أهم مشروعات الطاقة العالمية، وسيمكّن تركيا من خفض كلفة إنتاج الطاقة وتأمين الغاز دون انقطاع، وتصل حصتها فيه إلى ستة مليارات متر مكعب. كما وقعت تركيا مع أذربيجان اتفاقيات اقتصادية عديدة، وهنالك حوالي أربعة آلاف شركة تركية تعمل في أذربيجان، وبلغت مساهماتها في الإقتصاد الأذربيجاني نحو 12.6 مليار دولار، حسب وزير الخارجية الأذربيجاني، جيهون بايراموف. كما افتتح في أكتوبر/ تشرين الأول 2017 خط للسكك الحديدية، يصل بين أذربيجان وتركيا وأوروبا، يمكنه نقل مسافرين وشحن حوالي 50 مليون طن من البضائع سنوياً.
تعد أرمينيا أحد الحلفاء الاستراتيجيين والاقتصاديين لروسيا، حيث تحوز روسيا على ما يقارب 40% من حجم الإستثمارات الأجنبية فيها
وعلى الرغم من توقعات بعدم تحول المعارك بين أرمينيا وأذربيحان إلى أزمة دولية كبرى، إلا أنه لا تلوح في الأفق بوادر وساطة دولية تشجّع على وقف المعارك التي يغذّيها تاريخ حافل بالخلافات والصراعات المتصلة بأبعاد قومية ودينية ومصالح دولية. وبالتالي، المطلوب من روسيا وفرنسا وتركيا عدم إذكاء نار الصراع، والاحتكام إلى لغة التفاهمات والتوافقات، بغية حثّ الطرفين على بدء مسار تفاوضي، يمكن أن يُبنى على قرار مجلس الأمن الدولي رقم 822 لعام 1993 وعلى وساطة “مجموعة مينسك” في حل النزاع. ولا شك في أن الدور الروسي يمكن أن يكون حاسماً في الضغط على أذربيجان وأرمينيا معاً، من أجل الجلوس على طاولة مفاوضاتٍ مفتوحة، تتناول قضية الإقليم المتنازع عليه، وسائر القضايا الخلافية، كما لا يغيب عن ذلك دور تركيا ذات التأثير القوي على أذربيجان، لحثّها على ترجيح كفّة التفاوض.
عمر كوش
العربي الجديد