شجون الوضع المالي في العراق

شجون الوضع المالي في العراق

الأخبار تترى من العراق تحمل الأخبار المفزعة للعراقيين عن عجز الحكومة عن دفع رواتب ومستحقات العاملين في القطاع الحكومي، وعندما يصل الأمر إلى هذا الحد، فهذا يعني أن على الحكومة أن تعلن إفلاسها. فكيف وصل الحال ببلد كانت مدخولاته عالية جدا حتى عام 2014؟ ميزانياته انفجارية للسنوات من 2006 إلى 2014 وكانت تصل إلى أكثر من 120 مليار دولار كل عام، فأين أهدرت كل هذه الأموال الطائلة؟ لماذا فشلت خطط التنمية والإصلاح في العراق، طوال 17 سنة من عمر الحكم الذي تقاسمته قوى العملية السياسية الفاسدة؟ كل هذه الأسئلة يمكن أن تكون إجابتها كلمة واحدة في العراق (الفساد)، لكن لا ضير في تتبع بعض الملفات لنقف على تفاصيل شجون الوضع المالي في عراق اليوم.

الطبقة السياسية الفاشلة لم تكتف بنهب وتدمير حاضر العراق، بل باتت تسعى لتدمير مستقبل الأجيال القادمة

يشير أغلب خبراء الاقتصاد، إلى أن مشكلة العراق الاقتصادية تتمثل بكونه بلدا ذا اقتصاد ريعي، بالإضافة لكونه بلدا أحادي الاقتصاد، يعتمد بشكل شبه كامل على بيع النفط، وما يتأتى من بيع النفط المستخرج، يتم صرفه في ميزانيات تشغيلية غير عقلانية، أرهقها الترهل ونظام الاستزلام، إذ تحولت قطاعات الحكومة ووزاراتها ودوائرها إلى إقطاعات حزبية توزع مناصبها ورواتبها وريعها على الموالين الحزبيين، وعلى الجمهور الداعم لهذا الحزب، أو تلك الحركة لشراء أصواته الانتخابية ودعمه السياسي في أيام التنافس والانتخابات. وأن ملفات الفساد تمت إدارتها عبر تخادم الفرقاء السياسيين الفاسدين منذ 2003 حتى الآن، ولم تتمكن كل الأجهزة الرقابية بجيوشها البيروقراطية من إحالة أحد الرؤوس الكبيرة التي تمسك بخيوط الفساد الذي انهك البلد.
يذكر العراقيون تصريحات السياسي العراقي الراحل أحمد الجلبي، في لقاء تلفزيوني قبيل وفاته بأيام، اللقاء الذي فجّر فيه قنابل من العيار الثقيل، حتى انتشرت إشاعات ربطت بين وفاته المفاجئة وما صرح به حينذاك، إذ قال: «إن العراق حصل على 551 مليار دولار من بيع النفط للفترة من 2006 إلى 2014، خصصت منها 115 مليار دولار لواردات رسمية، في ما تولى البنك المركزي بيع 312 مليار دولار للبنوك الأهلية ضمن مزاد بيع العملة».
كما يذكر الخبير الاقتصادي الدكتور صادق الركابي مدير المركز العالمي للدراسات التنموية في ورقة بحثية حول الأزمة المالية التي يمر بها العراق، لقد»ارتفعت موازنات العراق من 100 مليار دولار عام 2012 إلى 145 مليار دولار في عام 2014، وإن احتياطات البنك المركزي العراقي انخفضت من 88 مليار دولار إلى 67 مليار دولار، وذلك بسبب بيع الدولار للشركات والمصارف الأهلية من دون التدقيق في وثائق الاستيراد، أو مراقبة حركة الأموال في المصارف الأهلية. لذلك فإن التشدد في مراقبة حركة الأموال التي صرفت والتدقيق في مبيعات البنك المركزي، يمكن أن تكشف الكثير من ملفات الفساد والهدر المالي».
ويمكننا القول إن ملف هدر العملة الصعبة والمافيات التي أمسكت بخيوط اللعبة هي أحد أهم أسباب الإفلاس الذي يمر به العراق اليوم، وقد نشرت وسائل الإعلام العراقي إحدى الوثائق وكانت موجهة من اللجنة المالية في البرلمان العراقي، التي كان يرأسها أحمد الجلبي إلى رئيس هيئة النزاهة، أفادت بقيام بنك الهدى – وهو مصرف محلي- بشراء العملة الصعبة من البنك المركزي للأعوام 2012، 2013، 2014 باستخدام وثائق مزورة، وقام هذا المصرف بتحويل نحو 6.5 مليارات دولار إلى بنوك وشركات في الأردن. وبناء على ذلك أعلنت هيئة النزاهة العامة في أغسطس/آب 2015 نتيجة ضغط الحراك الجماهيري الضاغط على الحكومة والبرلمان، عن إحالة ألفين و171 مسؤولاً رفيعاً، بينهم 13 وزيراً ومن هم بدرجته، إلى محاكم الجنح والفساد، كاشفةً أن وزراء الدفاع والتجارة والكهرباء والنقل السابقين، من بين المطلوبين للسلطات القضائية، لتتضح النتيجة لاحقا، أن كل ذلك لم يكن إلا خطوة لتهدئة الشارع وامتصاص غضبه، والنتيجة إفلات كل المتهمين بقضايا الفساد من العقاب.
ويشير استاذ الاقتصاد في الجامعة العراقية الدكتور عبد الرحمن المشهداني إلى، «أن حصيلة غسيل الأموال من المبيعات اليومية للعملة الصعبة، في مزادات البنك المركزي العراقي قد تصل إلى نحو 15%»، مبيناً أن» الحديث عن كون مزاد العملة بوابة للفساد وغسيل الأموال باتجاه الخارج يجري منذ عام 2010، وأن جهات سياسية نافذة تقف خلف المصارف التي تمتلك حصصاً من المزاد باتت أيضاً منافذ لتحويلات التجار، ويشوب عمليات غسيل الأموال نسبة كبيرة منها»، ويشير المشهداني إلى أنه «على الرغم من رمي البنك المركزي مسؤولية تلك العمليات المشبوهة على عاتق جهات أخرى، لكنه لا يمكن أن يخرج من إطار المسؤولية، وأن عليه التدقيق في الأمر، بعد إثارة العديد من الشبهات على مدى أعوام، حول حقيقية مزاد العملة، وكونه بات مساحة مفتوحة للفساد، ومن المفترض أن يستبعد البنك المركزي أي مصرف ترد بشأنه طائلة الشبهات».
وقد أشار محافظ البنك المركزي الأسبق سنان الشبيبي عام 2017 إلى تورط رئيس الوزراء الاسبق نوري المالكي بصفقات فساد ونهب منظم لاحتياطي العملة الصعبة في البنك المركزي العراقي، ففي تصريحاته للإعلام اتهم الشبيبي نوري المالكي بقوله، «إن الأموال التي تسلمها رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، كانت تكفي لبناء وطن جديد يتسع لـ30 مليون نسمة». وأضاف أن «المالكي عيَّن أربعة من أفراد حزبه الحاكم بمناصب كبيرة داخل البنك المركزي، وهم ليسوا من ذوي الاختصاص، حتى تأثر البنك، وأخذت العشوائية تضرب أطنابها، وهم: مدير دائرة غسيل الأموال، ومدير الدائرة القانونية، ومدير مراقبة المصارف، ومدير الدائرة الاقتصادية»، وأوضح الشبيبي، «أنه عندما قررت تغيير من عينهم المالكي من أفراد حزبه، جاءني كتاب من رئيس الوزراء يمنع إبعاد هؤلاء الفاسدين، تضمن تهديدا مبطنا ما بين السطور»، لافتا إلى أنه «عندما أبعدت أول عناصر العصابة الفاسدة جن جنون المالكي». وتم تلفيق تهم فساد بحق الشبيبي ليصدر القضاء المسيس حينذاك مذكرة قبض بحق الشبيبي.
أما فساد ونهب حكومة أقليم كردستان، فلم يعد خافيا على أحد، إذ تتم عمليات نهب البترول والغاز في الإقليم، من دون أن تسدد قيمتها لا لخزينة الاقليم ولا للخزينة المركزية، بل تذهب إلى جيوب زعامات الحزبين الكرديين الكبيرين، ليترك المواطن الكردي يعاني الفاقة والجوع. كما تتم عمليات نهب جبايات المراكز الحدودية والمطارات والضرائب والمكوس، وكل وارادات حكومة الإقليم، من دون أن يتم توريدها للخزينة الاتحادية، وبالمقابل تستحوذ مافيات حكومة أقليم كردستان على 17% من الموازنة الاتحادية العامة، يضاف لها كل الموازنة التشغيلية لقوات البيشمركة التابعة بصورة شكلية للقائد العام للقوات المسلحة، التي تتحملها خزينة بغداد، بينما واقع الحال الذي يعرفه الداني والقاصي، أن هذه القوات لا تأتمر لا بأمر وزير الدفاع العراقي ولا بأمر رئيس الحكومة، وإنما تأتمر بأمر قياداتها الحزبية الكردية فقط.
وكذلك الحال في ملفات فساد الفصائل المسلحة السنية، والميليشات الشيعية، التي باتت تمثل جزءا أساسيا من هيكلية الدولة العميقة في العراق، التي باتت تمسك ملفات تهريب المخدرات، وتهريب السلاح والاتجار بالبشر، بالإضافة إلى سيطرتها على منافذ تصدير البترول عبر سيطرتها على أرصفة موانئ التصدير العراقية، ولم يستطع رؤوساء الحكومات المتعاقبة من حل هذه الأزمة، ومواجهة فساد الدولة العميقة حتى الآن، ما راكم المشاكل حتى أوصل البلد إلى حافة الانهيار. واليوم وبعد جائحة كورونا، وانهيار أسعار البترول العالمية، واحتمال حدوث موجة كساد عالمية تفوق موجة 2008، يشهد العراق ترديا وصل إلى حد عجز الدولة عن دفع رواتب موظفيها، وقد علت أصوات البعض مشجعة على رمي العراق في التهلكة عبر دفع الحكومة، أو مطالبتها بالاقتراض الخارجي لدفع الرواتب، وهذا يعني، أن الطبقة السياسية الفاشلة لم تكتف بنهب وتدمير حاضر العراق، بل باتت تسعى لتدمير مستقبل الأجيال القادمة بما سيقدمون عليه من إلقاء عبء الديون على عاتق جيل الغد.

صادق الطائي

القدس العربي