أنفقت الصين على مدى العقد الماضي عشرات المليارات من الدولارات في محاولتها للتأثير على النظام العالمي واستغلال قوتها الناعمة والحادة أيضا لتقليص نفوذ خصمها الأول، وهي الولايات المتحدة، وتشويه صورتها لدى الرأي العام وإضعافها وذلك من بوابة توسيع نطاق تواجدها في المنظمات الأممية والهيئات الدولية والكيانات متعددة الجنسيات.
وناقش الباحثان الأميركيان غير المقيمين في المجلس الأطلنطي تيت نوركين وإيفانا هيو في تقرير نشرته صحيفة “ذا هيل” الأميركية على موقعها الإلكتروني مدى حاجة الولايات المتحدة إلى مواجهة النفوذ الصيني في المؤسسات متعددة الجنسيات وكيف استخدمت بكين دورها كسلاح في الهيئات الدولية مثل الأمم المتحدة والاتحاد الدولي للتكنولوجيا لتعزيز دورها.
ويشير الباحثان إلى الجذور التاريخية لما آلت إليه الأوضاع اليوم من خلال التأثير على عمل المنظمات الدولية، ومستندين إلى ما كتبه عقيدان من جيش التحرير الشعبي سنة 1999 في كُتيب حول الاستراتيجية العسكرية للصين بعنوان “الحرب غير المقيدة”، حيث أوضحا طرق هزيمة الخصوم المتفوقين تكنولوجيّا، مثل الولايات المتحدة، عن طريق تجنب المواجهة العسكرية المباشرة.
ويروي نوركين وهيو كيف أن العقيدين الصينيين السابقين في كتابهما في ذلك الوقت طالبا الحكومة الشيوعية بالاستثمار في وسائل الحرب غير المباشرة، خاصة الدولية والاقتصادية والمعلوماتية لكونها الوسائل الأكثر فاعلية لتحدي الولايات المتحدة المنشغلة بالتكنولوجيا العسكرية الحركية.
نشاط متزايد
يرى نوركين، وهو المدير التنفيذي لمركز التقييمات الاستراتيجية والدراسات المستقبلية، أن الكتاب أثبت بالفعل نفاد بصيرة الصينيين وخدم كبرنامج عمل لما فعلته بكين في القرن الحادي والعشرين. وقال إن “صعود الصين السريع كمنافس للولايات المتحدة أظهر طموحها الجيوسياسي الذي كثيرا ما تمارسه بالحصول على الأدوار القيادية في المنظمات الدولية”.
وغرست الصين عبر خطتها السياسية الخارجية أذرعها في الأسواق الرأسمالية العالمية، من خلال القطاع الخاص والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية حتى تكسب حلفاء جددا دون أن تتدخل عسكريا أو سياسيا في شؤون الدول.
ولكن في الحقيقة، يبدأ تاريخ تطور الصين إلى قوة اقتصادية عالمية في عام 2001 مع صعودها إلى منظمة التجارة العالمية ويدور حول قدرتها على استغلال انفتاح المنظمة على مدار العقدين التاليين لانضمامها.
ومع أن ممارسة الصين لدور أكثر نشاطا في المنظمات متعددة الجنسيات القائمة ليست مفاجأة نظرا للزيادة الهائلة في النفوذ الجيوسياسي والاقتصادي لها على مدار عشرين عاما، ليس لأنها في حد ذاتها ضرورة استراتيجية، إلا أن جهودها كثيرا ما تذهب أبعد من مجرد بناء النفوذ داخل الهياكل والمعايير الراسخة.
وتقول هيو، وهي زميلة غير مقيمة لسياسات الدفاع المتقدم في المجلس الأطلنطي، إن بكين سعت باستمرار إلى استمالة هذه المنظمات بهدف تغيير القيم والمعايير والممارسات التنظيمية لكي تعكس عن قرب رؤية الحزب الشيوعي الصيني.
ولقد فكر الحزب الشيوعي في انضمام الصين إلى لجان مثل مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة فقط لكي تكيّف، على المدى الطويل، تفسير الهيئة لحقوق الإنسان حتى يتماشى مع ذلك الذي تتبناه بكين. وبات هذا جليا بالفعل في أبريل الماضي عندما عُيّنت الصين في المجموعة الاستشارية لمجلس حقوق الإنسان، والتي تشرف على توصيات المرشحين لخبراء يعملون في هذه المنظمة الأممية.
ولذلك باتت استمالة المنظمات متعددة الجنسيات سلاحا قويا في ترسانة الصين المُصممة “للتحايل على المزايا النسبية الأميركية الحالية”، رغم تقلصها بقدر كبير، للتحالفات والتقدم التكنولوجي. ففي العقد الماضي، رسخت الصين أقدامها كممول يُلجأ إليه في المقام الأول في البنك الدولي، بينما اعتادت الولايات المتحدة أن تحتفظ بتلك المكانة.
كما زادت الصين من أدوارها في الأنشطة الاستشارية غير الإقراضية للبنك، إذ ترأس أربعة من أصل 15 وكالة متخصصة في الأمم المتحدة. وسلط وباء فايروس كورونا الضوء على النفوذ الذي تمتلكه في منظمة الصحة العالمية، وهو ما أثار استياء الرئيس دونالد ترامب على وجه التحديد.
ويشدد كثير من المراقبين على المخاطر المرتبطة بالانغماس في المنظمات متعددة الجنسيات ثم إظهار الغرائز التحكمية والقهرية للنظام السياسي الاستبدادي الصيني.
طرق المواجهة
بينما بعض الأضرار لا يمكن تداركها، تتواصل المنافسة على امتلاك نفوذ داخل المنظمات الدولية وقيادتها كونها عنصرا حاسما في المنافسة الاستراتيجية الأميركية الصينية الأوسع، والتي كثيرا ما تُهمَّش في عصر دبلوماسية “أميركا أولا”.
ويفترض أن تربط الولايات المتحدة تنشيط قيادتها في المنظمات متعددة الجنسيات القائمة بالتأمل والمراجعة الذاتية وتحسين وتطوير رؤية لما يأتي لاحقا في ظل مستقبل غامض على كافة الأصعدة.
ويعتقد نوركين وهيو أن الولايات المتحدة بحاجة أكثر من أي وقت مضى للدخول في أدوارها القيادية السابقة في المنظمات متعددة الجنسيات خشية المخاطرة بترك المجال والنفوذ الجيوسياسي والميزة الاقتصادية والصناعية التي تمنح عن غير قصد للصين.
ويعكس نفوذ الصين المتنامي في الاتحاد الدولي للتكنولوجيا والمنظمات الأخرى المسؤولة عن وضع المعايير التكنولوجية المستقبلية حجم المشكلة، خاصة عند النظر إليها بالتزامن مع مبادرة معايير الصين 2035.
إيفانا هيو: بكين تريد عكس رؤية الحزب الشيوعي في الكيانات الأممية
إيفانا هيو: بكين تريد عكس رؤية الحزب الشيوعي في الكيانات الأممية
ويبدو أن التبني واسع الانتشار لمعايير الصين الخاصة بالتكنولوجيات المرجحة لتشكيل مستقبل الاتصالات وكل صناعة كبرى تقريبا مستقبلا سيخلق ميزة صناعية يصعب التغلب عليها ويُعمق العلاقات الجيوسياسية للصين، لاسيما في القائمة المتنامية لدول مبادرة الحزام والطريق.
ومن الواضح أن سجل إدارة ترامب حتى الآن ضعيف، فلقد تم سحب الولايات المتحدة من مجلس حقوق الإنسان ومنظمة الصحة العالمية وخفضت التمويل والموظفين للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، حيث تمتلك الصين الآن ثالث أكبر قوة تصويت.
ويؤكد نوركين أن هذا مناقض لما “نحتاج لفعله من أجل مكافحة النفوذ الصيني” رغم أن الممثل التجاري للولايات المتحدة روبرت لايتهايزر أشار في مقال بصحيفة “وول ستريت جورنال” في أغسطس الماضي إلى وجود استعداد لإصلاح منظمة التجارة العالمية بدلا من مغادرة المنظمة.
وهذا التغيير محل ترحيب، لكنه ليس من الواضح إذا أصبح سياسة للإدارة الآن وليس من الواضح كذلك إلى أي درجة الولايات المتحدة ملتزمة، كما ينبغي أن تكون، بترتيب الأولويات بطريقة أفضل لكمية الموارد ومستوى المعينين السياسيين الكبار في منظمة التجارة العالمية والمنظمات متعددة الجنسيات بشكل عام.
ويتفق الباحثان الأميركيان على أن ثمة مرونة داخل هذه الهيئات الدولية لتكوين تحالفات استراتيجية جديدة وحتى مواءمات ومنظمات متعددة الأطراف والتي ترتكز حول قضايا بعينها بدل الخوض في سيناريوهات حول احتمال وجود تكتل يقسم البنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية والذي عمل بشكل جماعي لإيجاد حل يتعلق بالجيل الخامس.
وقد أثارت مسألة عدم وجود منافس قوي لمجموعة هواوي على المستوى التقني ويقدم بديلا جيوسياسيا للعدد المتزايد من الدول القلقة بشأن توظيف التكنولوجيا الصينية في أهم شبكاتها، مشكلة لها علاقة بقدرة الولايات المتحدة على ابتكار تقنية موازية.
ويبدو بحث إنشاء مجموعة الدول الصناعية العشر (جي 10) بدل (جي 7) والتي تتشارك التزاما بالديمقراطية وقلقا حيال الإكراه الجيوسياسي والاقتصادي المتزايد للصين، والتجسس السيبراني، وسرقة الملكية الفكرية، وجهود تصدير الاستبدادية التكنولوجية يُعد بداية جيدة، لكن لا ينبغي أن يكون الرد الوحيد أو حتى الأهم.
ومن أجل أن تصبح هذه الجهود مستدامة يجب أن تكون في خدمة شيء أكثر إقناعا من رواية “لكن الصين”، وفق الباحثين الأميركيين، فالعالم برأيهما في عصر يشوبه الغموض والتحول الجيوسياسي وينتقل من أحادية القطب الأميركية إلى تعددية الأقطاب، حيث تتأرجح قواعد التوازن المستقبلي المحتمل وتقع في قلب المنافسة بين الولايات المتحدة والصين.
صحيفة العرب